ببيت طارق العتمانى
بإحدى التجمعات السكنية
بعد ثمانية أيام من العودة
بداخل غرفة الأولاد
ألقى خالد جسده على السرير وقال زافرا بحنق
"بابا ....لم يرد على اتصالى "
أجابه ياسين دون ان يرفع رأسه عن كتابه
"ربما كان بإجتماع لهذا لم يرد ، انتظر دقيقة سيجيبك بأذن الله "
ضحك أدهم من الخلف متدخلا
"ياسين عاد ليرد مرة أخرى بالإنجليزية هذه المدرسة ، ما تعودنا عليه طوال الصيف ضاع بأسبوع "
هنا اغلق ياسين كتابه و ألتفت يواجه ادهم
"إن الوضع أصعب مما كان فى مخيلتى ، إنهم بحالة بائسة يقولون كلمة بلهجة المصرية وسط جملة بالإنجليزية حتى استاذ العربية لا يستطيع ان يتحدث بها بإتقان .....على الاقل كنا نذهب إلى المعهد نتحدث بالفصحى و نتعلم القرآن و السنة و عزاءك انك ببلد غير بلدك فى البداية ظننت انهم غير مصرين او مثلنا ثم اتضح لى انهم تربوا بهذا الشكل "
اوقفه ادهم
"لم افكر ابدا فى تحليل هذه الظاهرة الإجتماعية و لا اريد فهم أى شىء ....كل ما اريده ان تمر بنا الأيام و ننهى هذه المرحلة "
رد خالد و جسده ملقى نصفه فوق السرير فيما تدلى ساقيه للأسفل و قد زاد طوله بشكل ملحوظ
"ادم .....انت مكتئب جدا هذه الأيام ، منذ عدنا و أنت على هذا الحال "
لم يجبه احد فشعر هو برغبة فى تغير الحديث
"ساتصل بأبى مرة اخرى"
ليجيبه ياسين
"لا تتصل الآن هو لم يهتم بالحضور لليوم الأول لنا فى المدرسة "
لم يسمح له خالد بالمزيد و اعتدل مجيبا بما حفظه له والده
"انه يعمل ....يعمل لنذهب نحن إلى المدرسة أم تريد منا الذهاب إلى العتمانية "
هب ياسين مجيبا
"أى عتمانية خالد من جاء بسيرة هذا المكان الملعون .....نحن لا نريد ذلك مطلقا "
تحرك ادهم بعد ان وضع هاتفه على الكومود و ازاح خالد ليجلس بجواره مريحا ذراعه على حول كتفه و تكلم ببطء
"نحن لا نريد ان نسمع حتى اسم هذا المكان خالد فما تراه الآن معتقدا أن والدك لم يأتى منذ اسبوع لأنه يعمل ....هو فى الواقع هروب من أمك حتى لا يتشاجروا مرة أخرى ، او ربما فعلا كما قال لها عندما دخل البيت أنه لم يعد يحتملها و بالتأكيد هذا بسبب العتمانية "
رد ياسين من فورة مدافعا بالعامية
"لا طبعا .....انت عارف طارق كويس هو قال كده عشان مضايق و زينب سيباه كده .... كانت قاسية معاه جدا "
رد ادهم مدافعا عن زينب
" انت كنت عايزها تعمل ايه ....ده ما بيوقفش ...بجد أنا مش عارف الناس ديه مصنوعة من ايه ....زرعوا الفكرة برأسه انها ستتركه و اصبحت وسواس فورا ، هل تعرف أنه اخفى بطاقته هويتها و الباسبور و اخذ كل البطائق الائتمانية و الاموال من حقيبتها و تركها هكذا....عندما ارادت الآن أن تذهب للتسوق اخذت بطاقتى "
فتح ياسين أحد ادراج مكتبه و اخرج منها بطاقة اشهرها بوجههم
"اعطاها لى و اخذ الباقى ....قال لى اخفها منها لأن أمه عندما تركت أبيه اخذت اموال و هربت لتستطيع أن تسافر و فى النهاية سرقوها منها و ظلت بالشارع .....أنه متأثر جدا بماضيه و يسقط عليها مباشرة ما حدث مع أمه و يبدو أن الأمر يحدث فى لاوعيه دون أن يدركه "
ثم استأنف بالعامية
"و أهل العتمانية الكرام يسبوه فى حاله لا يكملوا عليه ......هو الى قالى ان اخواتها قالوله هناخدها منك انت مجنون و عايز تموتها "
أشار بيده له أدهم يوقفه
"متكملش مش عايز اسمع القرف ده ، بعد كلام سليمة حقيقى إهانه محدش يتحملها و متكسفتش قدام كل الناس ....انتى مطلقة مرة و هتطلقى تانى .....انتى هترجعى هنا خدامة ....انا كنت هرد عليها بس زينب اوقفتى"
بانت علامات الحزن على وجوه الجميع فهذا مشهد حضروه بأنفسهم ....كان من الذل و المهانة ما لم يتوقعوه حتى فقبل كلمات جدتهم هذه لم يكن فى خيالهم حتى ظن أنه يمكن لطلاق امرأة ان يحمل كل هذا العار فى مجتمع غريب الأطوار عليهم و أن أم يمكنها أن تقول مثل هذه الكلمات لابنتها و أن ابنة يمكنها تحمل مثل هذا دون الانفجار و كأنها معتادة عليه منذ الأبد .
جلس خالد القرفصاء و زفر انفاس عديدة قبل ان يقول
"انا عارف سليمة تيتا قالت كده لزوزو ليه و خافت جدا انها و طارق يسيبوا بعض"
بحلق أخوته به يستحثونه ليكمل كلماته
"الى هقوله سر ....احلفوا متقولوش لحد حتى زينب "
اقسم الاثنين سريعا دون تردد فاستأنف خالد
"انا سمعت خالو صابر بيقول لخالو محمود ان زينب لو عرفت ان أرضها خدها زيد هتبهدل الدنيا لأنها ما اخدتش كمان فلوسها و روحت قولت لطارق .....هو قالى أن ميعرفش حاجة عن ده و هيسأل ....اول ما رجعنا قالى انه سأل حسن و عرف منه أن الأرض كانت فى حيازة زيد فعلا عشان يجيب الكيماوى و الأشياء الخاصة بالزراعة لكن لما دخل مشروع كبير رهن الأرض كلها بما فيها أرض ماما بعد ما زور توقيعها و تيتا سليمة هى الى جابتله رقمها القومى لأنه مكنش عارفه و الحكاية ديه متعرفتش غير من اسابيع فقط عندما رد حسن دين زيد و اكتشف أن الارض كلها مرهونة بس طارق حلفنى مقولش لزينب عشان متزعلش لأنها زعلت جدا لما اخدوا منها الفلوس و هى كده كده مش هترضى حد يتخانق مع اخواتها و انه هيشترى أرض ليها تانى و تعتبرها مكنتش موجودة "
سب ياسين بوقاحة غير عادية فتراجع كل من ادهم و خالد للخلف تعجبا مما سمعوه عجبا أخذهم حتى من الحزن و الغضب الذى سيطر عليهم و لكن ياسين لا يشتم أبدا فعلل هو و لازال على غضبته
"إلا من ظلم و الى احنا فيه ده مش طبيعى يعنى كل الفيلم الى عملته جدتك ده عشان ميتعرفش انها حرامية هى و ابنها .....محامى و يرميهم فى السجن "
وقف خالد فوق السرير مترجيا
"ارجوك ياسين لقد استأمننى أبى .....ارجوك ياسين لا تفعل هذا فتمرض أمى و يمرض ابى لمرضها ....ارجوك ياسين كفانا ما نحن فيه من شجارات .....كفانا "
تدخل ادهم سريعا
"خالد محق ياسين .....خالد محق نحن لا نريد هذه الأرض و لا يربطنا شىء بها سوى جدك و من بعده لن تطأ ارجلنا ترابها مرة أخرى لذا لا يهمنا الأمر البتة طالما ان زينب بخير و كذلك طارق صدقنى الارض هو أخر ما نريده "
صمت الثلاثة فجأة حتى ابتسم أدهم فجأة و هو يهجم على خالد المظلم
"كبرت و بقيت بتفهم ....الله يرحم لما كنت ما بتفهمش "
رد خالد بقوة
"انا طول عمرى بفهم "
فقفز ياسين فوقه و أجاب ضاحكا
"انت مولود امبارح فين عمرك"
دفعه خالد بقدمه محاولا أزاحته فكتف ادهم ذراعيه و هتف
"ايه رأيك ناكله زى زمان .....نعمله بيتزا و نأكله"
فصرخ خالد
"بيتزا لا .....بيتزا لا"
لم يهتم ياسين و هو يهجم عليه يعضه من رقبته بينما أخذ ادهم ذراع خالد و شرع بقطمه فيما يصرخ الصغيرتحتهم يطلب النجدة بأسرع من المتوقع اطلت النجدة من فوقهم
"اختاروا حل من اتنين يا تتجوزوا يا تروحوا تعيشوا فى غابات افريقيا "
صرخوا جميعا و طارق يخلع حذامه يضربه فى الهواء فأنفضوا مبتعدين عن خالد الذى قفز الى حضن والده ضاحكا بعد ان احمر وجهه بشدة فيما احتضنه ياسين من الخلف و سحب أدهم الحزام من يده سريعا ألقاه بعيدا .
تحول وجه طارق الغاضب الى اخر ملأت الضحكة جنباته و هو يرى ياسين يشدد من احتضانه فيما يقبله خالد على جبهته حتى امسك يده و قبلها فتغير وجهه قليلا و لكن الصغير علل
"كلهم بيبسوا ايد عتمانى كده عشان هو الكبير و انت الكبير انا هبوسك زيه "
سحب أدهم ياسين من قفاه بعيدا عن والدهم
"توقف عن فعل هذا ....كم عمرك انت ، كم طولك انظر فى المرآة "
تركه ياسين متراجعا للخلف فيما عاد طارق ليقبله فوق رأسه و جلس على السرير مرددا بمرح
"مكنتش عارف انى وحشكم كده "
أقترب منه أدهم و طبع قبلة صغيرة جدا على خده و قال بعد أن تنحنح أكثر من مرة
"لقد اشتقنا لك و شكرا لك على حمام السباحة انه رائع أبى لم أظن يوما أنه سيكون ببيتى هذا الحمام الرائع المجهز و ايضا شركة التنظيف التى تأتى كل أسبوع على كفاءة عالية لم أظن يوما ان حلم كهذا يمكنه ان يتحقق "
وضع طارق كفه على خده غير مصدق فيما شهق خالد و ياسين معا .
رمش طارق عدة مرات حتى استوعب الأمر فأدهم لا يعجبه العجب و بالبيت كان هناك حمام سباحة فى الخلف غير مجهز و عندما سمعه طارق يرغب به قام فورا بجلب شركة لإتمام إنشاءه و تجهيزه و لم يظن أن الأمر سيكون مهما جدا إلى حد الحصول على قبلة من ادهم !
دون أن يرفع كفه عن خده رفع طارق عينه لولده و تحدث
"انا عايز واحدة تانية و هقولك على مفاجأة كنت عايزها ....لا كنت هتموت عليها"
رد ادهم دون تفكير
"لا "
فضربه ياسين بظهره
"بيقولك مفاجأة يا حيوان "
فكر أدهم قليلا و بعد محاورات و مناغشات قرر ان يقبل خد والده الأخر فألتمعت عين طارق و تحدث بحماس مفرط و هو يفتح هاتفه
"هبعتلك رقم شخص يعلمك السواقه ......أحمد طارق قالى انه ممتاز و هيخليك بروفيشنال فى فترة قصيرة جدا و يوصل معاك للمستوى الى انت عايزة بيتكلم انجليزى و فرنساوى و عربى يعنى لو دماغك وقفت تقدر تتكلم معاه بأى لغة عايزها و هيعلمك كل حاجة عن العربية من البداية .....و فى المواعيد الى انت هتحددها هو اصلا مهندس ميكانيكا شاطر جدا و احمد بيقول عليه عبقرى و هادى "
لم يكمل لأن أدهم قفز يقبله مرة ثالثة و رابعة على خديه و هو يحتضنه
"شكرا جدا أبى ....شكرا الى نهاية العالم "
لا يعرف طارق لما رفع عينه إلى ياسين او حتى لما انقبض قلبه لعلامة الحزن التى اكتسته و التى جعل طارق يردد بنفس القوة
"عايز تتعلم زى ادم "
فأجاب ياسين و هو يهز رأسه نافيا
"لا ....أكيد هتبقى تكلفة عالية جدا ....اكيد محترف زى ده هيبقى غالى جدا "
قطم طارق شفته و رد كذبا لو كانت زينب بالجوار لكشفته بسهولة
"لا ....مش غالى و لا حاجة ......هو انا عملتله خدمة كبيرة و قصادها هو هيعملى .....قولتله هخلصلك الى انت عايزة بس تعلم ولادى و هو وافق انا كنت عايز ادهم يجربه الأول لكن لو عايز تروح معاه عادى طبعا و هيفرح جدا بس ياريت محدش فيكم يسأله عن الأجر عشان الأمور ديه حساسة و أنا مفهمة انها بينا "
سأل ياسين
"شغل ايه "
فامسك ادهم بالكتاب و ألقاه عليه
"بيقولك شغل .....لا تتدخل ....هل تريد التعلم أم لا "
رد ياسين على الفور
"ايوه طبعا "
تغيرت نظرة طارق للجدية و اجاب
"لا انا فاهم سؤاله ....حلال و الله يا ياسين .....ما بدخلش عليكم قرش حرام و مركز فى ديه جدا متخافش ....مش ناقصة يا حبيبى و الله انا عيان و امك طول الوقت عيانة و انت كنت عيان ...ده شكل ناس يخشلها فلوس حرام"
ابتسم ياسين ابتسامة واسعة و قال بصوت عالى جدا
"شكرا"
فرد طارق
"لسه"
فهتف ياسين بحرارة
"الدراجة ....الدراجة "
قالها و جرى للأسفل و تبعه خالد سريعا فيما وقف ادهم ينظر لأخويه بقرف
"لا تقل لى أن هذا العجل اراد منك أن تشترى له دراجة "
وقف طارق و ضربه على كتفه مرددا بصوت جامد
"بلاش تزعله عشان ما ازعلش منك لو بتعرف تركبها علمه "
هز ادهم رأسه نافيا
"لا اعلم كيف اقود دراجة لم امتلك يوما واحدة و لكنى لا أظن انها معضلة و خالد يقودها بمهارة يمكنه ان يساعده"
اجاب طارق من خلفه
"جيد .....إذا امتلكت وقت ارغب أيضا بأن اتعلمها ....امك و اختك راحوا فين و خدوا العربية و ليه سيبتهم يرحوا لوحدهم "
رد محاولا طمأنته بعد أن شعر بتغير نبرته
"راحوا كرافور يشتروا طلبات .....كان عندى شغل و قولتلها تستنى "
وجه طارق اسود و نغمته اخذت طريقا أخر
"مشيت كده ....هو انا مش سايب رجاله"
استدار ادهم يواجهه محاولا تخفيف حدة الأمر
"لم ارغب أن اجعلها تشعر بأنها مراقبة و أننا لانثق بها .....أبى انت لا يجب ان تجعلها تشعر بأنها تحت ضغط فتمرض ....انت قلت أن الاطباء اكدوا انها بخير و لكن هذا لا يمنع ان تمرض حقا"
عندما رأى نار الغضب على والده تحولت إلى خوف بادرته ابتسامة وأدها فهو يعرف وتر طارق الحساس و كيفية العزف عليه جيدا والده الذى يرتعب من مرض زينب أجاب متراجعا
"خلاص انت عندك حق .....لو اتأخرت هتخانق معاها لكن لو جت بسرعة مش هكلمها عشان متتعبش "
قالها و لمح البطاقة الأتمانية فوق مكتب ياسين
"ده هنا اومال نزلت بأيه "
سأل طارق فأجابه أدهم
"خدت منى "
هنا بادرت طارق ضحكة اطلقها و هو يضمه بفخر
"لما يرجعوا شوف خدت كام و خده منى....لما قولت لجدك أنا سايب رجاله كنت عارف أنا بقول ايه ، لو وقعت هلاقيه فى ضهرى "
أنت تقرأ
إرث السمراء ....الجزء الثالث من أنين الروح
Espiritualوطن .....حكاية عائلة درامى .... رومانس