الفصل السابع عشر : ( بين دمائها )

74 3 0
                                    

"‏يتجاوز المرء جميع الأشياء، ماعدا مأساة أنه قد خُذل في موضع ما!"

- فان جوخ
___________________________________________

تلك الأمور التي تجري على نحو متسارع أكثر ما يشعره بالقلق ، كان ( معتز ) يجلس في مكتبه .. حينما دخل الفراش يقول بأدب : بشمهندس ( معتز ) ، في حد عايز حضرتك ..
لم يطالع الواقف بل قال بإنشغال و هو يتفحص الورق : خليه يتفضل ..
دخل الضيف فرفع رأسه يحييه بإبتسامة ، الا ان ابتسامته تلاشت تماما و هو يطالع ( كريم ) الذي تحدث و هو ينظر في عينيه مباشرة : مش هتقولي اتفضل و لا ايه ؟
لم يرد ( معتز ) و جلس ( كريم ) يردف بإبتسامة : هقعد أنا .. اصل انا عارف انك معندكش ذوق .. و اطلبلي واحد قهوة سادة ..
- انت عايز ايه ؟
قالها ( معتز ) بمقت و هو يجلس أمامه ، فهز كتفيه بإستهجان يجيب على سؤاله الأحمق : تفتكر هبقى عايز منك ايه يا ( معتز ) ؟
احتدت نظرات الأخير ، بينما اردف ( كريم ) بحدة : أنا لو جاي عشان حاجة ، فأنا جاي اسألك سؤال واحد بس ، بس غالبا مش هتعرف ترد عليا .. انت فعلا كنت بتحب ( بتول ) ؟
- آه ده انت فاضي بقى و جاي تستظرف ..
- تصدق لحد وقت قريب كنت فاضي فعلا ، لحد ما قابلتها تاني .. و قابلتك انت كمان ..
كانت كلماته ذات مغزى قوي و تأكد من ذلك حينما وضع ساق فوق الأخرى و هو يخرج سيجارة من علبة ( معتز ) الموضوعة على سطح المكتب و يضعها في فمه بإهمال و أشعلها ، ثم أردف بحدة : أنا جاي اعرف انت عملت فيها ايه خلاها كده ؟
نفث بزهو و هو يطالع الدخان ، ثم تحدث : بس اللي عملته فيها ده خلاني اركن الأسئلة السخيفة دي على جنب .. خلاني افكر في الموضوع من زاوية تانية خالص ، و ارجع لنفس سؤالي ، انت فعلا بتحبها ؟ او كنت بتحبها ؟اصل اللي بيحب حد ده بيبقى بيحافظ عليه و يا سلام لو حد زي ( بتول ) .. ، تصدق يا راجل أنا معرفش سبب انفصالكم ايه ؟ حاولت اوقعها بالكلام بس هي بتتهرب مني .. رغم كل الأذية دي لسه لما بتكلم عنك قدامها بلاحظ أنها بتضايق و كأنها مش قابلة تسمع عنك كلمة وحشة .. لحد انهارده الصبح سمعت اسمك و اسم الولية اللي مش فاكر اسمها دي اللي انت متجوزها ، أدركت ان انت غبي اوي انك تسيب واحدة زي دي ..
- انت جاي ليه ؟
قالها ( معتز ) بغضب ، فإبتسم ( كريم )  و هو يطفئ السيجارة و نهض ليقترب منه ثم على حين غرة لكمه بقوة  و امسكه من تلابيبه يعنفه : أنا كان ممكن اعديلك اي حاجة عملتها فيها .. كنت بشوف إن انت كسرت فيها حاجة بس ممكن انا اصلحها ، بس اللي عملته ده خلاها مش عارفة تبص في عين حد كإنها عار ، مع انها الضحية مش الجاني ، نظرتها عرفتني اني مش هقدر ارجعها سليمة تاني ، حسستني بعجز .. دمرت حياتها .. 
لم يكن ( معتز ) يفهم شيئا ، يتحدث بدون فهم : أنا عملت ايه لكل ده ؟
لكمه ( كريم ) مرة أخرى و هو يتحدث بألم : الأربعة اللي اغتصبوها في شقة ابوها و صوروها بعدها و مضوها على تنازل عن الورث .. و بلغت إن شقتها مفروشة عشان تضيع حقها ..
اتسعت عينا ( معتز ) في ذهول ، يتحدث بعدم استيعاب و صدمة : ايه ده ؟ الكلام ده حصل امتى ؟ و هي كويسة دلوقتي و لا لأ ؟
نظر ( كريم ) في عينيه مباشرة ، و شعر بأن ( معتز ) لا يعرف شيئا ، ابتعد عنه ببطء .. و صدره يعلو و يهبط من الإنفعال ، أيقن أنه لا يعرف شيئا عندما قال ( معتز ) بإنفعال : هي فين دلوقتي ؟
رد ( كريم ) بنفس انفعاله : اقسم بربي لو فكرت تقرب منها هتشوف مني وش عمرك ما شوفته .. هتتمنى ربنا ياخدك من اللي هعمله فيك ..
ثم خرج يصفع الباب خلفه دون أن ينطق مرة أخرى .. بينما في نفس الوقت ، اقترب ( طارق ) من ( عاليا ) يصرخ بإنفعال : أنتِ بتهزري يا ( عاليا ) ، احنا كان اتفاقنا يضربوها ضرب خفيف تخليها تخاف .. مش يغتصبوها !
ثم أكمل بطريقته العصبية : احنا كنا هنروح في داهية بسببك  ، في الأول جيتي و قولتي محتاجة مساعدة و اشتغلت كده رغم اني بطلت الشغل ده من زمان و انتِ عارفة ، و دلوقتي كنا هنلبس في قضية تودينا ورا الشمس ..
تستمع إلى توبيخه بملل ، و هو يردف : أنا و الرجالة اتفقنا على حاجة ، ليه تيجي قبل التنفيذ و تزودي حاجات من غير ما اعرف يا ( عاليا ) ؟
- عشان عارفة انك هترفض ، اديتهم فلوس و قولتلهم يعملوا كده .. و بعدين انت كنت عايز تضربها يعني مروحناش بعيد ..
- لا يا شيخة .. يعني عايزة تقنعيني إن الضرب زي الإغتصاب مش كده ؟
تأففت و سحبت حقيبتها تتفوه : أنا كنت عارفة إن الكلام معاك مفيش منه رجا ، أنا ماشية ..
خرجت من عنده ، بينما اردف بإشمئزاز : في داهية ..
ثم شرع في مشاهدة التلفاز و غاب عقله مع تلك التي تركته وحيدا ..
____________________________________________
- طب قومي كلي حاجة عشان خاطري ..
قالتها ( ريحانة ) للمرة التي لا تعرف عددها للتي تختفي اسفل الغطاء ، تهمس بصعوبة : لا ..
كانت طريقة حديثها غير طبيعية اطلاقا ، و لكنها نطقت اخيرا .. كان ( كريم ) قد دخل في تلك الأثناء ، سمعت صوته و هو يسأل ( ريحانة ) ما بها ، لتجيبه ( ريحانة ) .. منذ افاقتها و هي تخفي وجهها عن الجميع ، شعرت بأن هناك ما يتحدث عنه مع ( بتول ) على انفراد فقالت بإبتسامة : طيب هروح اشوف أنا حاجة و جاية ..
خرجت بالفعل و لم يتبقى غيرهما ، حاول نزع الغطاء و لكنها قالت بنبرة مهزوزة : لا ..
لا تتقن الكلمات الكبيرة ، تكتفي بقول ( لا ) فقط .. ، كأنه يتعامل مع طفلة ، جلس على طرف السرير يخبرها برفق : طب أنتِ مش عايزة تشوفيني ؟
لم يسمع منها رد ، هي لا تتذكره على اي حال ، و لا تتذكر شئ سوى أباها .. تريده بأي شكل ، قال بعد صمت : طب انا عايز اشوفك .. ممكن ؟
رأت قبضتها التي تراخت عن الغطاء ، و امتدت يده يزيحه .. لتظهر عيناها المصابة أمامه ، تنام على جنب واحد فقط ، نظراتها الساهمة لا تواجهه و رأسها المنخفض إلى الأرض ، امتدت يده نحوها و بإصبعه رفع رأسها ، كاد أن يتحدث و لكنه صمت عندما وجدها تطالعه بعينها السليمة ، لا يدري ما الذي أصابه في تلك اللحظة ، هو الذي كان يفهم من أمامه بنظرة واحدة ، دائما تختلف القوانين و القواعد عندها ، هي المحور الذي يدور حوله الكون ، و تسكن عنده النجوم .. هي الحياة و هو بدونها الموت ..
كانت ليلة ممطرة و الرعد يحيط بهما من كل صوب ، كانت تطالع النافذة البعيدة بخوف ، و حاولت أن تعود إلى وضعيتها السابقة ، لولا يد ( كريم ) التي منعتها ، نظرت له بإستغاثة ، تردد الكلمة الوحيدة التي تتقنها : لا ..
- مفيش لا ..
قال ذلك ثم سحبها فبكت و هي تحاول أن تبعد يدها ، رغم ذلك حملها من خصرها و اتجه بها إلى النافذة ، وقفا أمام النافذة ، و فتحها هو ليرتطم وجهما بالهواء البارد ، هي تخبئ وجهها في قميصه ، فأمرها : بصيلي .. بصيلي يا ( بتول ) ..
رفع رأسها بصعوبة ، و امسك بيدها يخرجها خارج النافذة ، و شعرت هي بأناملها المبتلة من أثر المطر ، نظرت له فقال بصدق : شوفتي الموضوع مش مخيف ازاي ؟
يدها تتمسك به ، و يد أخرى تلامس المطر ، مر بعض الوقت و أخرجت رأسها و لكنه منعها برفق : عشان الجرح ..
كانت ابتسامته تتسع تدريجيا ، ثم قال و هو يطالعها : مش كل حاجة بنخاف منها لازم نهرب من مواجهتها .. حصل حاجة لما قربتي و سمعتي صوت الرعد ؟ ..
نظرت لسريرها فذهبت إليه بخطواتها العرجاء و تسحب معها ( كريم ) من يده ، نامت في سريرها .. و هي تتشبت به ، استلقت و هي تكف عن النظر له ، ظل جوارها فترة طويلة حتى غلبها النوم و هو أيضا ، دخلت ( ريحانة ) لتجده نائما في وضعية غير مريحة على الكرسي ، و هي تميل برأسها على يد ( كريم ) ..
هزته ( ريحانة ) فإنتفض بذعر ، أخبرته هامسة : انت هتبات معاها ؟
هز رأسه موافقا ، و أردف بنفس همسها : روحي أنتِ عشان العيال ..
سمعت كلامه و بمجرد خروجها وجدت ( امجد ) الذي يسألها : ايه اللي حصل ؟ و ازاي معرفش حاجة زي دي بعد اسبوع كامل ؟
حكت له كل شئ ، و مع كل كلمة تتسع عيناه من هول الصدمة ، شعرت بأنه على وشك السقوط فأسندته سريعا ، تخبره أنها نائمة الآن و يمكن زيارتها في الصباح معها .. رحل مجبرا و تنهدت بعمق ، كادت أن ترحل لولا سيارة ( امير ) التي وقفت أمامها ، ركبت جواره دون حديث ، تنهد بعمق ثم سألها : هي اخبارها ايه دلوقتي ؟
- آه بقت احسن شوية ..
قالتها ثم سرحت بنظراتها بعيدا ، كانت خائفة بشدة من الحديث القادم ، اوقف سيارته فجأة و التفت بجسده كاملا لها : انتِ عارفة أنا هتكلم في ايه ..
ابتلعت ريقها و هي تتذكر ، حين اقتحمت مكتب ( معاذ ) و أطرافها ترتعش بلا توقف ، قال لها برفق : اهدي و احكيلي اللي حصل ..
جلست و هي تشعر بأن دموعها على وشك الإنهيار : أنا مش عارفة ده حصل ازاي .. هو اعترفلي بحبه ..
- ( امير ) ؟
هربت عبراتها و هي تهز رأسها بنعم ، تقص عليه عندما التقته من فترة ، و تحديدا ليلة موت ( حسين ) ، كانت تشعر بأنه يسترق النظر إليها من وقت لآخر ، ثم أتى بعدها في المنزل يعلن حبه ، حيث جلس أمامها في منزلها ، يخبرها بهدوء : طيب .. انا حابب اعترفلك بحاجة ..
صمتت تماما ، و أردف هو : بصراحة أنا بحبك ..
طالعته بدهشة ، ثم قالت في عدم استيعاب : انت بتتكلم جد ؟ انت عارف فرق السن بيني و بينك قد ايه ؟
- هو أنتِ مش قد ( بتول ) ؟
سألها بإستغراب ، فردت بما جعله يقف ذاهلا : أنا عندي ٣٩ سنة و ( بتول ) عندها ٢٧ ..
- ازاي يعني ؟
جلس أمامها مرة أخرى ، فأردفت ضاحكة : أنا مطلقة يا ( امير ) و عندي ولدين بس هما في اسكندرية ..
اخرسته المفاجأة ، توقعت أن ينصرف و لكنه أخبرها : أنا عندي ٣٢ سنة و كنت متجوز ..
اختفت ابتسامتها ، و سألته : مُطلق ؟
- ارمل ..
قالها في مرارة ، و عم الصمت بينهما لفترة قبل أن يتحدث مرة أخرى : توفت من ٥ سنين .. و بالمناسبة أنا كان عندي بنت .. بنت صغيرة اسمها ( ريما ) ..
ثم أخرج هاتفه يريها صورتها يحاول التحدث بصورة طبيعية : هي توفت مع مامتها ..
رأت الصورة بحزن و حمحم هو يقول : أنا مقدرتش اتخطى موتهم .. لأن كمان كنت متجوزها عن حب ، و وفاتهم جت فجأة ، حادثة عربية ..
تستمع إلى قصته بإهتمام و فضول ، كانت تعلم أن وراءه الكثير ، اكمل و هو يطالع صورة ابنته الراحلة : مش هخبي عليكي أنا حياتي اتغيرت و سيبت كل حاجة ، مكنتش قادر اتخطى الحزن اللي جالي ، و مكنتش قادر استوعب إن أنا خلاص مبقتش هشوفهم .. و جيت على القاهرة مع ( كريم ) .. أنا قفلت موضوع الجواز ده تماما من ساعة اللي حصل ، و بقيت اشوف كل ست بحس اني لازم اقفل على نفسي اكتر عشان مبقاش خاين ليها ، مع إن وصيتها كانت بتقولي اتجوز تاني .. لحد ما قابلت سيادتك ..
قالها بإنزعاج فضحكت ( ريحانة ) ، ابتسم هو الآخر و هو يردف : اهي ضحكتك دي شقلبت حياتي كلها ..
الخجل ظهر جليا عليها ، ثم أكمل حديثه يخبرها : أنا قولتلك كل حاجة عني ، معاكي وقتك تفكري ..
فتحت له باب المنزل ، و رحل هو .. سألها ( معاذ ) بعدها استمع لها : انتِ احساسك ايه ؟
اجابته بصوت ضعيف : معرفش .. أنا حاسة اني تايهة ..
- ريحانة ..
انتبهت إلى ( امير ) الذي لا يزال يجلس جوارها في السيارة ، يبدو أنها شردت كثيرا لدرجة أنها نسته ، تنهدت بعمق ثم قالت بهدوء : مش انت قولتلي إن أنا اللي هقولك ؟
أومأ برأسه في صمت ، ثم أردف بهدوء مماثل لها : أيوة .. أنا آسف ..
ثم انطلق بسيارته و الصمت هو المتحدث الوحيد في جلستهما ..
____________________________________________
دخلت ( فرحة ) في منتصف الليل تضحك ضحكات متتالية ، شربت حد الثمالة ، حينما أقنعها ( رامي ) بأن تأتي معه إلى ملهى ليلي ، رفضت حينها و لكنه أخبرها و هو يداعب وجنتها : ايه المشكلة يا حبيبتي ؟ .. ده حتى هتبقى تجربة ..
وجدت نفسها تُساق بملابس شبه عارية عكس ملابسها المحتشمة تماما ، و تضع مساحيق التجميل على وجهها الرقيق فبدا شكلها اكبر من سنها بكثير ، و الآن تعود بعدما اوصلها ( رامي ) بسيارته و وجدها في حالة رثة لا تسمح لها بالعودة وحيدة ، توقفت بغتة عندما سمعت صوت ( امجد ) في وسط الظلام يسألها بقلق : كنتي فين ؟ و مش بتردي على مكالماتي ليه ؟
فتح النور و ليته لم يفعل ، رآها بحالة ليست جيدة ابدا ، انطلق نحوها يهز كتفيها بخوف ، و لكنه اشتم رائحة سجائر فأخبرها بغير تصديق : هو أنتِ شربتي سجاير ؟
مطت شفتيها بتذمر و هي تردف بلسان ثقيل : ملكش دعوة يا ( امجد ) .. بقالك فوق الشهرين مش بتسأل .. و يوم ما تسأل تيجي تعاتبني ؟! ..
كادت أن تبتعد عنه لولا أنه صاح بها و هو يجرها من يديها : ايه مليش دعوة دي .. أنتِ كنتي فين يا ( فرحة ) ؟ و ايه اللي مبدل حالتك كده ؟
- كنت مع ( رامي ) يا ( امجد ) ..
جحظت عيناه و هو يردد بذهول : ( رامي ! )
هزها بعنف و هو يصيح بها بعصبية : كنتي بتعملي ايه مع الزفت ده ..
صاحت به هي الأخرى تخبره بضياع : كنت معاه في كباريه يا ( امجد ) ، بحاول اكون زيه عشان ابوك يبصلي حتى ، يفتكر اني بنته ..
أكملت بقهر و تبدلت حالتها كليا : رايح يربي واحدة مش بنته .. اخت ( رامي ) يا ( امجد ) ، و سايبك و بيربي ( رامي ) اللي برضه مش ابنه .. أنا تعبت ..
شعر بألم في صدره يخترقه عندما تذكر شيئا ما من الماضي ، حينما رمته أمه بعدما لم يحصل على الدرجة النهائية في مادة ما و لكنه حصل على درجة عالية ، كان يعرف عنوان أبيه ، طرق الباب عدة مرات لتفتح له زوجة والده تسأله بإقتضاب : خير ؟
طالعها بحزن يخبرها : عايز بابا أقوله حاجة ..
رمقته بإستهزاء ثم دخلت ، لحظات ثم امرته بالدخول .. دخل ليجد أباه يجلس يتابع التلفاز مع ( رامي ) و أخته .. كان صغيرا وقتها ، دون أن يرفع أباه عينه عن التلفاز سأله ساخرا : ايه يا ( امجد ) ؟
انسابت دموعه و هو يحكي : ماما طردتني من البيت يا بابا ..
ثم ارتفعت شهقاته ، فنظر له اباه في ضيق و دون أن يتعاطف معه أردف بإهمال : و انا يا ( امجد ) مش هعرف اخليك تقعد عندي ، البيت صغير ..
لم يكن صغيرا كما قال ، بل كان يحتوي على غرفة ل( رامي ) و غرفة لأخته ، و غرفة لزوجته و له ، و غرفة مكتب و غرفة للضيوف ، و لكن رغم ذلك قال : طب مينفعش ابات مع ( رامي ) .. انام على الأرض حتى ؟
نظر له ( رامي ) الذي كان صغيرا ، يرتدي ملابس مريحة و مهندمة عكس ( امجد ) الذي ملابسه قديمة لا تقيه من البرد ، قال والده في جمود : لا .. لو سمحت يلا عشان عايزين نتفرج على البرنامج ..
كان البرنامج المفضل له أيضا ، و لكن انسحب من المنزل دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، جلس على الرصيف و هو يبكي بقوة ، ثم اتجه إلى أقرب سنترال و هاتف ( حسين ) والد ( معتز ) ، حكى له كل شئ و هو يبكي بحرقة و أمره ( حسين ) بأن ينتظر حتى يأتي له ، حينما أتى كان معه ( معتز ) الذي أردف ببراءة : متزعلش يا ( امجد ) .. تعالى اقعد معانا في البيت نلعب شوية .. اعتبرني اخوك ..
و حضنه ( حسين ) بلهفة و يخبره : متخافش ، طول ما أنا عايش انت هتفضل في أمان و اعتبر بيتي هو بيتك .. اتفقنا ؟
افاق ( امجد ) من كم الذكريات ليجد أخته التي تضحك بهيستريا ، تقول : تخيل يا ( امجد ) مش بيفكر فيا خالص ؟ كل ما أقول ل( رامي ) بيفكر فيا يقولي لا ..
تحولت ضحكاتها لبكاء غزير ، و سحبها من يديها في هدوء إلى الحمام و وضع رأسها تحت الصنبور البارد علها تفيق من تلك الحالة التي اصابتها ، و يفكر في نفس الوقت في صديقه .. صديقه الذي أخبره أن يعتبره أخاه .. و واجب الأخوات الا يتركوا بعضهما ابدا ..
____________________________________________
- حبيبي .. اصحى يلا ..
فتح ( كريم ) عينيه بصعوبة ، ثم أردف و هو يتقلب في السرير : سيبيني شوية يا ( بتول ) ..
قالها و اغمض عينيه ثم انتفض بغتة و هو يرى ( بتول ) تجلس أمامه مبتسمة ، داعبت وجنته تخبره : لا يلا عشان هنتأخر على الشغل ..
- هو أنتِ مش تعبانة ؟
سألها و هو يرى عينها البندقية الشائهة ، اردفت بإبتسامة متجاهلة ما يقوله : شكلك مش عايز اروح انهارده .. تصدق أنا كمان ..
كان قريبا منها ، و داعبت خصلة من شعره تهتف بنبرة اذابته : عارف انك شكلك حلو عن كل يوم ..
اغمض عينيه و اقترب من وجهها و كاد أن يقبلها ، لولا أنه انتفض فجأة و نظر حوله ليجد نفسه لا يزال نائما جوارها ، و هاتفه يرن في الحاح خرج من الغرفة ، مسح على وجهه و هو يرد : الو ..
ليقول شقيقه ( شادي ) : الو يا كيمو .. صباح الخير ..
ذم شفتيه بإستياء ، و هو يقول بملل : أنجز يا ( شادي ) هببت ايه ؟
- و لا حاجة يا حبيبي ..  بقالك فترة مختفي فقولت اشوفك ..
رد بسخرية : لا متشوفش وحش ياخويا .. أنجز يا شادي عملت ايه و عايزني اداري عليك ؟
- الدرس يا غالي .. العبد لله اتطرد منه ..
- ليه ؟
قال ( شادي ) بضجر : محضرتش كذا حصة ، فكرشوني .. قالولي مترجعش و غير لما ولي الأمر يكلمنا .. ماما تحديدا يعني ..
- معلش يا ( شادي ) هسألك سؤال و اعذرني يعني هسأل سؤال زي ده ؟
سأله بهدوء ثم صرخ في وجهه فجأة : شايفني امك ؟ تصدق أنا كان عندي شك انك شايفني حاجة تانية غير اخوك ، كنت مفكرك بتعتبرني ابوك مثلا او صاحبك أو مثلك الأعلى بس يعني متوصلش انك تشوفني امك  ، و بعدين انت بتتصل بيا الساعة ٧ الصبح تقولي كده ..
- أنا عايزك تكلمهم يا ( كريم ) ، عشان امي حلفت عليا أنها لو سمعت مني شكوى تاني هترتكب فيا جناية .. و انت عارف امك ..
- خلاص خلاص .. هاتلي رقمهم و انا هتصرف ..
- بس هما عايزين ماما يا ( كريم ) ..
زفر ( كريم ) بضيق : لا اله الا الله يا ( شادي ) .. انت عايز ايه دلوقتي ، و بعدين يا أعمى البصر و البصيرة هعمل اني امك ازاي فهمني ، ده انا اول ما اقولهم الو هيعرفوا .. طب قول ل( سمر ) اختك تبقى معقولة شوية ..
رد ( شادي ) بسخط : الحيوانة عايزة رشوة عشان متقولش لماما .. و بعدين يا سيدي ممكن تقولهم انك امي فعلا بس جالك دور برد أو شايل اللوز مثلا فصوتك بقى خشن .. او اقولك اشرب ينسون و صوتك هيبقى ناعم ..
- اقفل يا ( شادي ) عشان مغطلش فيك و نخسر بعض انهارده .. ابعتلي الرقم و انا هتصرف ..
اغلق معه المكالمة ، و هو يشعر بألم في ظهره ، و لمح ( رؤوف ) يقترب منه يخبره بود : صباح الخير ..
ابتسم ( كريم ) و هو يرد : صباح النور ..
أعطاه ( رؤوف ) كوب من القهوة ، رشفه ببطء و هو يجلس جواره ، عم صمت بينهما قبل أن يسأله ( كريم ) بلهفة : هو مفيش حاجة جديدة ؟ يعني مفيش تحسن في حالتها ..
اومأ بالرفض ، فظهرت امارات الخيبة على وجه ( كريم ) .. تردد ( رؤوف ) قبل أن يسأله : ( كريم ) هي تقربلك ايه ؟ او تعرفوا بعض منين ؟
ابتسم ( كريم ) بحزن و هو يراقب الدخان المتصاعد : عارف يا ( رؤوف ) لما تفضل قافل على قلبك ، عمرك ما حبيت حد ، و فجأة تيجي واحدة تسحرك ببراءتها و جمالها و تصرفاتها العفوية ، بس تتعذب بسبب حبك ليها !
صمت بينما انطلقت اغنية شهيرة ل( ميادة الحناوي ) من الكاڤيتريا تعبر عن حالته المتلهفة لها ، و عن ألمه و شوقه لها :

حَتى اَتَاهَا اليَقِينْحيث تعيش القصص. اكتشف الآن