"ما عاد في النفسِ للأحلام مُتّسَعُ
قد أرهقوا القلب أحبابي وأعدائي"
- ليلى محمد | ليل ..
____________________________________________
على أية حال .. نحن مجرد أمانات تسير على الأرض ، بكل المصائب و المِحن التي نمر بها مصيرنا واحد .. سواسية جميعا لا تفرقة و ربما ذلك الشئ الواحد العادل بيننا ، ننتهي مع خروج النفس و اغلاق القبر علينا و نحن وحدنا في الظلام لتبدأ الحياة الحقيقية و ليست تلك الحياة الزائفة التي اعطينا لها أكبر من حجمها بكثير ، نحن انفاس تدخل و تخرج فقط ، لم نأتي لنحمل آثام لم نفعلها ، و لم نُوجد على هذه الأرض لنحمل أكثر مما نتحمله فوق عاتقنا .. و إن كان الألم حقيقي لدرجة تجعلني أرى الدنيا كالبئر المظلم الذي سقطت به كيوسف ، و حتى لو كان من دفعني إلى القاع هم اخوتي مثل اخوته ، فسأنتظر يوما السيّارة التي ستدلي بدلوها لتخرجني .. و لتلقي الحياة بقميصها علي روحي لترتد بصيرة بعدما ابيضت عيناها من الحزن ..
كانت الرحلة فردية .. و لا تزال فردية ..
حتى الآن لا تستطيع أن تعرف كيف وصلت إلى تلك النقطة ، خسرت كل شئ .. اصدقاءها و عائلتها و .. ذاتها ! سرحت قليلا عندما جلست وحدها في الإستراحة ، أغلقت هاتفها تماما و هي ترتشف كوب الشاي الساخن على مهل و بخاره يتصاعد ليداعب رائحته أنفها و تعانقه هي بيديها لتشعر بالدفء ، راقبت المطر بالخارج بشرود .. عالم كامل من الوهم .. كانت في حالة خطيرة ، و كأن كل حواسها متجمدة منذ أن عرفت بكل تلك الأكاذيب التي حولها .. ترى محاولات الإتصال الصامتة منهم جميعا ، و لكنها لا ترد ، عقلها متجمد .. خذلان وراء خذلان جعل الرؤية ضبابية و جعلت رغبتها في الحياة شبه معدومة ، و لكن حتى الموت لا تجسر على اقتحامه ! ، طول عمرها تكره التشتت و لم تعاني في حياتها سوا منه ! ، إلى اين تذهب ؟ و مع من ؟ ، انسابت دموعها بهدوء و هي تنظر إلى السماء الرمادية ، تقول بهمس خافت لا يسمعه سواه ، الذي لا يخفى عليه شئ في السماوات و لا في الأرض ، تضع يدها على قلبها المنهك و هي تحاول كبت صرخات روحها المستغيثة ، تناديه بكل حواسها و ضعفها كأنه النداء الأخير : يارب .. يارب ..
لم يقوى لسانها إلا على لفظ اي كلمة بعدها ، و اخبأت وجهها بين كفيها تبكي بحرقة و هي تغمض عيناها بنفور شديد من ذاتها التي تخطئ في كل خطوة تخطوها ، لم تعد تدري بأي شئ تدعو ، حتى ضياعها وصل في دعائها ! ، بل كان الخجل يكسوها من رأسها حتى احمص قدميها .. لم تستطيع أن تستعيد رباطة جأشها أكثر من هذا .. و شتات روحها ملقاة و متناثرة أمامها كقطع الزجاج إذا لمستها ستجرحها و بشدة .. ، رأت نفسها في انعكاس الزجاج ، و صُعقت بشدة عندما رأت الغرة تغزو مقدمة شعرها ، ظنت في البداية أنها مجرد تهيؤات و لكنها حقيقية تماما .. شعيرات بيضاء في وسط شعرها الكنستنائي ، و تلك التجاعيد التي زحفت على وجهها بلا هوادة لا تعلم متى ظهرت ، بدت رحلة العودة إلى الماضي فكرة سخيفة و عارية من الواقع تماما .. بكل قوانين الطبيعة و الدنيا بأكملها ، و لكنها تعود الآن تاركة كل شئ ورائها دون ذرة ندم واحدة و بكثير من الخوف .. ستكمل رغم كل شئ و لكن جسدها وحده هو من يكمل رحلته تجاه المستقبل .. حيث الطريق بلا عودة !
____________________________________________
من اسبوع قبل الآن ..
كان لقائها بعد شهر من الغياب يؤلمه ، لم يعرف ( كريم ) كيف يقابلها بعد كل تلك الفترة و بأى وجه ؟ ، و لكن بمجرد أن علم بخبر زواج ( معتز ) و ( عاليا ) شعر و أنه على وشك الجنون ! ، دخلت إلى الردهة حيث يجلس ، لم ينكر أنه قد اشتاق اليها بخطواتها العرجاء تلك .. جلست أمامه و هي ترتدي قميص ابيض و بنطال كحلي اللون و رفعت شعرها في شكل ( ديل الحصان ) و يتدلى من اذنها قرط ذهبي اللون جعلها تبدو جميلة .. و لكن لم يخفى عليه نظراتها المعاتبة تلك ، شعر بأن المبادرة ستكون صعبة للغاية ، رغم ذلك قالت تحاول الإبتسام : ازيك يا ( كريم ) ..
رفع رأسه و كأنها قد انتشلته من قاع أفكاره ، و يرد : الحمد لله انتِ اخبارك ايه ؟
- الحمد لله ..
عم الصمت مرة أخرى ، حتى قطعته هي تخبره بهدوء يسبقه العاصفة : ايه الكلام اللي انت بعته ده ؟
- احنا هنروح الفرح ..
أجابها بهدوء ، و بنفس هدوءه اردفت : لو عايز تروح روح يا ( كريم ) بس انا مش هروح ..
- لا هتروحي معايا .. و رجلك فوق رقبتك ..
قالها واقفا بحدة و قد فقد ثباته الإنفعالي ، صمتت قليلا ثم نظرت له تخبره : أنا قولتلك لا .. انت ملكش سُلطة عليا اصلا .. و بعدين هروح فرح ( معتز ) طليقي و ( عاليا ) اللي اتجوزها عليا عرفي سنتين ..
صرخت بإنفعال في آخر جملتها ، فأردف : عشان كده هنروح يا ( بتول ) .. عشان ميحسوش أنهم كسروكي ..
- أنا اتكسرت .. هما نجحوا أنهم يكسروني ..
قالتها بقهر و جلست على الكرسي و استرسلت في نوبة بكاء عميقة .. جثا على ركبتيه أمامها ، فنظرت له و لم تخجل أن تقول له بألم : ليه بعدت عني يا ( كريم ) .. ليه ؟
نهض يدافع عن نفسه بقوة : لا مش كده يا ( بتول ) أنا ..
قاطعته تقول بإنهيار : أنا قلت انك مش هتسيبني يا ( كريم ) .. أنا وثقت فيك ..
انهارت حصونه و ذابت الكلمات من على لسانه تماما ، هي محقة لقد خذلها بإبتعاده عنها دون مقدمات و يبدو أنها مرت بالكثير في فترة غيابه ، توقف عن دفاعه عن نفسه ، لابد أن يعترف أنه مخطئ ، وقف أمامها بقامته الطويلة ، و عندما لم تنظر إليه و لم تقف حتى جثا على ركبتيه مرة أخرى و انزل رأسه ليطالع عينها الدامعة ، قالت بنبرة متألمة زلزلت كيانه و جرحت روحه دون هوادة : انت حققت اسوء مخاوفي .. عارف أنا كنت صابرة على اللي حصل ده عشان انت كنت جنبي ، عملت اللي اخويا معملوش معايا .. أنا كنت مطمنة عشان كنت حاسة بكل حاجة بتعملها ..
جملتها الأخيرة اصابته بالإرتياب ، و انكمش حاجبيه و هو يطالعها ، فأردفت بما جعلته يتجمد أمامها : أنا أيوة مكنتش في وعيي و مكنتش عارفة احس و لا استوعب اللي حواليا ، بس وجودك جنبي و كلامك و تفاصيل يومك اللي بتحكيلي عنها حتى و انت عارف اني مش هعرف اديلك ردة فعل مناسبة كان بيخليني احس اني فايقة و ليا لازمة .. احس بالأمان اللي عمري ما حسيته غير و انا مع بابا ..
عبراتها التي تهبط مع كلمة تقولها جعلته على وشك الفتك بنفسه ، ظن أن الإبتعاد هو الحل الأفضل لها و له ، و لكن في الحقيقة كان كان ذلك الهجر هو ما جعل جرحهما يتضاعف أكثر ، هزت رأسها و هي تغمض عينها بشدة تتذكر كل ما مرت به من سوء ، أخفت وجهها بكفيها و علا نشيجها .. و هو لا يصدق أن كل دموعها هذه بسببه ، لا يستطيع مواساتها ، فقط نظرت له مرة أخرى تخبره بعتاب : ليه عملت كده ؟ .. ليه يا ( كريم ) ؟ ، أنا قلت لنفسي طالما انت معايا مفيش حاجة هتكسرني خلاص .. عارف .. كل حاجة بسيطة منك في الوقت ده كان بيبقى ليها اثر كبير اوي في نفسي ، فاكر يوم ما كنت خايفة من المطر ؟ فاكر لما وقفتني عند الشباك و مديت ايدي ، أنا بخاف من المطر من ساعة ما كنت صغيرة .. بس بعد اللي عملته يومها مبقتش بخاف .. عشان خاطري يا ( كريم ) بلاش تبعد عني تاني .. أنا بس الفترة دي متلخبطة و تايهة و مش عارفة أنا عايزة ايه .. بس الحاجة الوحيدة اللي انا عارفاها هي انك تفضل جنبي ..
قالتها بصدق شديد أمام نظرته الداهشة ، ابتلع ريقه ثم قال ناظرا في عينيها : مش هسيبك لحد آخر نفس فيا يا عناق الروح ..
شعرت بخدر طفيف بأوصالها ، تطالع عيناه التي التمعت ببريق مختلف و كأنه يستطعم تلك الجملة التي نطقها للتو .. اقترب منها يسأل بنبرة رخيمة : هتروحي ؟
أغمضت عيناها تشتم رائحة العطر المميز الذي يضعه ، و لم ترد ، سألها بهدوء بعد صمتها : خايفة ؟
هزت رأسها و شعرت بأنها على حافة البكاء ، و لكنها تجمدت حينما شعرت به يهمس محذرا : متعيطيش يا ( بتول ) .. مفيش حاجة مستاهلة احنا بنتكلم عادي ..
- أنا خايفة ..
قالتها و هي تكاد تموت حرجا مما يحدث ، و لكنها شعرت بجملته التي تخترق اذنها : ايه اللي مخوفك ؟ مش انا معاكي ؟
هزت رأسها بخوف ، و لكنها اردفت : خايفة تمشي يا ( كريم ) .. خايفة اوي ..
- هششش .. ( بتول ) ركزي معايا ، أنا مش هسيبك أبدا مهما حصل .. كل اللي في دماغك ده حاجات عبيطة متخوفش و لا حاجة ..
فلتت منها شهقة ، فتح عينه ليجدها تبكي .. قال برفق : طب خايفة من ايه ؟
رفعت رأسها تخبره بألم : من كل حاجة ..
لم تتوقع سؤاله ، نظر لها يسألها بصوت حنون : طب اعمل ايه و تبقي مطمنة ؟
- متعملش حاجة .. خليك جنبي ..
جلس جوارها بالفعل بفترة ليست بالقصيرة و في نفس الوقت لم يتبادل معها اي حديث من اي نوع .. ، انتظر حتى ارتاحت قليلا ، ثم أردف بهدوء و رفق : هنروح .. عشان دموعك الغالية دي مينفعش تنزل على ناس رخيصة زي دي ، و ديني لأجيبلك حقك و قدام عينيكي يا ( بتول ) .. ارفعي رأسك ..
رفعتها ليبتسم على منظرها الطفولي بأنفها الوردي و وجنتيها المتوردتين ، ضحك و هو يخبرها : زي القمر ..
ضحكت بخجل ثم اردفت : هقوم اعمل حاجة و اجيلك ..
ابتسم لها حتى غابت عن نظره ، ضحك بخبث شديد و هو يبحث عن اسم صديقه في قائمة الإتصالات ، لحظات ثم قال بسرعة : الو .. الو يا ( امير ) ..
- bonjour Monsieur .. comment ça va ?
( اهلا سيدي .. كيف حالك ؟ )
انفجر ( كريم ) ضاحكا ، و هو يرد عليه بطلاقة :
- ça va bien .. tout va bien ?
( في افضل حال .. هل كل شئ على ما يرام ؟ )
- super ..
( رائع .. )
سعل ( كريم ) من كثرة الضحك ، هو يقول بصعوبة : مش قادر .. عملت فيها من حواري باريس ؟
ابتعد ( امير ) عن ( عاليا ) و ( معتز ) اللذان يتابعان حسابات المزرعة قبل بيعها له ، و هتف بنزق بصوت خافت : بقى موديني الشرقية .. و تبعت ( رؤوف ) عشان يقنعم ببيع المزرعة اللي اخدوها من ( بتول ) و يمثل عليهم أنه سمسار و مترجم ليا و تقوله يقولهم اني مصري بس عشت حياتي كلها في فرنسا ؟
حاول كبح ضحكاته حتى لا ينفعل ( امير ) اكثر و اردف بجدية زائفة : مكنش ينفع اخليك من فرنسا فعلا ..
قبل أن يؤكد ( امير ) على حديثه ، قال ( كريم ) بتهكم : المفروض اني اقولهم انك من ايطاليا ..
عقب تلك الجملة صدرت ضحكاته عبر الهاتف ، بصق عليه يخبره : أنا مش عارف ايه اللي ممشيني ورا عيل تافه و مهزأ زيك كده .. المهم صالحت السنيورة ؟
- oui .. ton ami est sympa ..
( نعم صديقك ذكي .. )
تأفف ( امير ) بضيق من الناموس الذي يحوم حوله ، بينما أردف ( كريم ) بإهتمام : المزرعة حلوة ؟
- حلوة .. حلوة ايه بس دي كلمة قليلة عليها .. دي روعة .. فظيعة .. أنا دلوقتى بس عرفت ليه اخدوها من ( بتول ) ، بفكر افضل كاتبها بإسمي و اخدعك ..
- فكر تعملها كده .. و هتلاقيني طالعلك من قاعدة الحمام بتاعت بيتكم ..
رد ( امير ) بإشمئزاز : ايه القرف ده ؟ .. لم لسانك الزفر ده على ما اخلص ام البيعة دي مع جوز الغربان دول .. ده الطيور على اشكالها تقع حقيقي .. مش عارف ( بتول ) كانت عايشة مع ( معتز ) ده ازاي اصلا ؟
شعر بإقترابه فهمس سريعا : طب اقفل يلا يا ( كريم ) عشان جايين عليا ..
اغلق المكالمة سريعا ثم التفت إلى ( معتز ) يتحدث باللهجة الفرنسية : j' aime la farme .. Elle est super ..
( أنا أحب الحقل .. أنه رائع .. )
نظر ( معتز ) بعدم فهم إلى ( رؤوف ) الذي قال بإبتسامة : الخواجة عجباه المزرعة جدا ..
هز ( معتز ) رأسه بإهمال و هو يسير أمامها ، تمسك ( امير ) ب( رؤوف ) و همس برجاء : ابوس ايدك صباع صباع عايز امشي .. الناموس اكلني و خلصت كلمات الفرنساوي اللي انا حافظها كلها ..
رد عليه ( رؤوف ) بضجر : ما أنا ماشي وراك عمال اترجم و لا كإني سلام الترجمان .. المزرعة عاجبة الخواجة ..
عقب تلك الجملة ضحك كلاهما ، انتهت جميع الإجراءات و عادت ل( بتول ) المزرعة من جديد ، قبل أن ينطلقا بالسيارة ليعودان للقاهرة ، ناول ( رؤوف ) ( امير ) كتاب و هو يردف ضاحكا : خد كتاب كيف تتعلم اللغة الفرنسية في ثلاثة أيام ..
بادله ( امير ) الضحك و هو يشعر بنشوة الإنتصار ..
____________________________________________
- رايحة فين يا ( بتول ) ؟
سألتها ( ريحانة ) بشك و هي تطالع صورتها في المرآة ، فردت بهدوء و هي تمشط شعرها : هنزل اتمشى شوية .. حاسة اني مخنوقة ..
- طب استنى البس و اجي معاكي ..
وضعت الفرشاة و هي تبتسم بحزن : متقلقيش عليا .. مع السلامة ..
أغلقت الباب خلفها و هي تضم المعطف على جسدها ، أثناء نزولها الدرج شعرت بتعب يجتاح ساقيها ، كان ذلك الألم طبيعي في حالتها ، بل أصبح اخف وطأة من ذي قبل ، و لكن تحسن بالجلسات ، أكملت نزولها حتى رأت إحدى جاراتها تبعد ابنتها عن ( بتول ) سريعا و كأنها تخشى منها ، انكمش حاجبي ( بتول ) لوهلة ثم خمنت أنها ربما لم تقصد ، و لكن النظرات العدائية التي وجدتها من جارها أيضا كانت توحي بخطب ما ، قبل اتمامها النزول تماما سمعت جارة أخرى تقف مع رفيقتها يتحدثان بصوت خافت و بمجرد أن ظهرت أمامهما حتى اردفت احداهن بإنزعاج : ايه الأشكال دي ؟
رمقتها ( بتول ) و قد شعرت بالتوتر و انتقل الإنزعاج أيضا ، حاولت أن تقنع نفسها بأن الكلام لم يكن موجه إليها ، و لكن نظرات السيدة التي أمامها تقول عكس ذلك ، لذلك و بدون تردد سألتها بإستنكار : افندم ؟
ردت الأخرى و هي تشملها بنظرات مشمئزة اوجعتها و جرحت أنوثتها : في حاجة يا مدام ( بتول ) ؟
النبرة المستهزئة و السخرية في آخر كلمتين التي تحدثت بها جعلتها تفقد أعصابها كليا ، لذلك كادت أن تنسحب لولا تقدم الأولى منها تخبرها بحدة و تعالي : اسمعي بقى يا بت انتِ .. شغلك الشمال ده تروحي تعمليه في اي حتة تانية غير هِنا ، احنا هِنا عمارة نضيفة و ناسها محترمين سامعة و لا لأ ؟
حتى الآن لا تستوعب أن الكلام موجه إليها ، لذلك اردفت بصدمة : هو ايه الكلام ده ؟
رمقتها بسخرية و هي تردف : مش معقول بجد .. ناس تخاف متختشيش ..
أفاقت على صوت الباب الذي غُلق في وجهها دون أدنى احترام .. أغمضت عيناها تحاول أن تهبط إلى الدرج و لكن قدماها لم يسعفاها ، أنقذت نفسها بآخر لحظة .. تلك اللحظات القليلة حُفرت في ذهنها و لم تستطيع الخلاص منها ، جلست على مقعد أمام النيل و في وسط الظلام الحالك حتى تستطيع البكاء في صمت دون أن يراها أحد ، تهتز خصلات شعرها و بكاؤها لا ينقطع ، مرت الساعات طويلا و رغم الصمت الحالك لم يخف ضچيچ عقلها و لو قليلا ، تذكرت الكثير من الذكريات و التي كان منها نصيب الأسد هو ( معتز ) ، تتذكر اول قُبلة منه ، و لمساته الدافئة الرقيقة ، حينما كانت تطبخ و مزاجها لم يكن جيدا ، دخل عليها يتسحب دون صوت على أطراف و هو يغلق باب الشقة خلفه جاء من خلفها ثم لثمها في خدها بغتة ، فشهقت بخوف ثم ضحكت تردف : خضتني ..
تناول إحدى قطع الخيار و هو يرد مبتسما : اعيش و افضل اخضك كده .. مالك شايلة طاجن ستك ليه ؟
تنهدت بحزن و هو تكمل ما تفعله ، فأردف بحنو و هو يرفع رأسها : مالك زعلانة من ايه ؟
لمعت العبرات في عينيها ترد في قلق : مر شهرين و لسه محملتش ..
فلتت ضحكة منه و هو يخبرها برفق : و أنتِ ارنبة يا ( بتول ) يعني ؟ طبيعي يا حبيبتي عشان ممكن بس تكوني متوترة كل ما تحطي الموضوع ده في دماغك اكتر كل ما هتتأخري اكتر ..
صمتت بحزن شديد ، فقال بشك : ( بتول ) هي مامتك قالتلك حاجة ؟
عند تلك النقطة بالتحديد انفجرت باكية فأوقع كل ما بيده و هو يحضنها و يسألها بخوف عليها : ايه اللي حصل ؟
تتذكر حينما ذهبت لها ، و أثناء جلوسها معها قالت إنها بغتة : هو أنتِ لسه محملتيش ؟
شعرت ( بتول ) بالحرج و خاصة أن ( ريهان ) زوجة ( عمرو ) وقتها تجلس معهما ، فأردفت بخجل : لسه .. أنا و الله بتابع الموضوع بس ..
ضحكت امها بسخرية توجه حديثها إلى زوجة ابنها : و الله ما اعرف حابب فيها ايه ، ده لا جمال و لا ذكاء و لا حتى خلفة .. بقى البشمهندس ياخد واحدة ارض بور زيك !
احمر وجه ( بتول ) من الغضب و الإهانة معا ، فردت ( ريهان ) و هي ترتشف كوب الشاي تضحك : ما هي كده مع الهُبل دُبل ..
ردت على معتز بعدما تذكرت : و لا حاجة .. أنا ..
أعاد رأسها إليه مرة أخرى و يركز عيناها على شفتيه يردف بحب : عارفة اني بحبك و هضل جنبك حتى لو هنخلف بعد ١٠٠ سنة ..
- بجد ؟
تساءلت بيأس ، و صوت امها يتردد في اذنها تخبرها بتشفي : لو مخلفتيش هيتجوز عليكي .. مش هيصبر كتير و ساعتها هيتلهي لمراته التانية و عياله ، و أنتِ هتبقي لوحدك و ساعتها هيطلقك ..
- هو في ايه ؟
سألها و هو ينظر في عينيها بعدما شردت طويلا ، فطالعته بإبتسامة شاحبة تردجف : و لا حاجة ..
أفاقت من تلك الذكرى على صوت هاتفها ، كانت الدموع ألهبت وجنتيها فردت على ( كريم ) تقول بصوت متعب : ايوة يا ( كريم ) ..
اعتدل في جلسته يسألها : مالك ؟
علم من ( ريحانة ) التي حدثته أن ( بتول ) خرجت وحدها فأتصل بها يطمئن عليها ، و كان يخاف بشدة أن تتذكر شيئا يتعبها ، و لكن حدث ما يخشاه و هو يسمعها تقول بعد تنهيدة متعبة و هي تمسح على وجهها : افتكرت حاجة حصلت من سنين ..
- طب أنتِ فين دلوقتي ؟
نظرت حولها و هي تردف بإهمال : معرفش .. أنا على النيل دلوقتي ..
- اجيلك ؟
- ملهاش داعي .. أنا كويسة و الله متخافش عليا ..
هكلمك شوية كده .. يلا سلام ..
أغلقت هاتفها بسرعة قبل أن يصر على المجئ ، و سرعان ما سرحت نظراتها مجددا نحو النيل المظلم ..
- ( بتول ) ؟!
سمعت صوت ورائها بدأ لها مألوفا ، التفتت ببطء لتنظر لوهلة تحاول التذكر ، ثم اتسعت عيناها تقول بذهول : ( كاريمان ) ..
احتضنتها ( كاريمان ) بقوة ، تضحك بغير تصديق و هي تطالع صديقة الطفولة تتحدث : مش معقول يا ( بتول ) بعد كل السنين دي ..
ابتسمت بحرج شديد ، هيئتها و شكلها لم يكن مناسب للقاء كهذا بعد العديد من السنوات ، التفتت إلى نظرات ( كاريمان ) المتفحصة لها تقول بنبرة بدت ل( بتول ) مشفقة : بس أنتِ شكلك متغير اوي ، يعني ..
تأملها من أعلى لأسفل ، و شعرت بأن الكلمات لم تسعفها ، لطالما كانت ( بتول ) أنيقة و تهتم كثيرا بشكلها و ربما كان جسدها لم يكن بتلك النحافة و كذلك وجهها المُرهق الحزين ، كل ذلك لم يكن من طبيعتها اصلا و خمنت أن هناك أمر جلل قد حدث لها ، حتى جلوسها هكذا .. افاقت من شرودها على صوتها : تعالي اعزمك على حاجة ..
كادت أن ترفض ( بتول ) لولا ( كاريمان ) التي حذرتها ضاحكة : اوعي ترفضي .. أنتِ عارفاني مش بحب المجادلة ..
هكذا و قد وجدت نفسها في كاڤيتريا شبابية ، و تجلس أمامها ( كاريمان ) التي اردفت بإبتسامة : تصدقي بتيجي على بالي علطول يا ( بتول ) ؟ معرفتش اوصلك بعد الكلية خالص ..
ابتسمت ( بتول ) دون أن تتحدث و كفيها يحاوطان الكوب الذي يحتوي على الكاكاو الساخن و هي تسمعها تكمل : ما أنتِ متتنسيش برضو .. كانت احلى ايام بجد
ايدتها ( بتول ) بتأكيد كانت ايام جميلة حقا و إن كان يعكر صفوها علاقتها بأمها .. و لكنها ستظل الأيام الأفصل بحياتها برفقة ( كاريمان ) و رفقائها من الإبتدائي إلى الكلية ، قالت بهدوء : و الله كنتي بتيجي في بالي دايما .. بس أنتِ عارفة الدنيا تلاهي ..
رن هاتفها في تلك اللحظة فإبتسمت و هي تستأذنها بأدب : ثانية واحدة يا ( بتول ) معلش ..
في عقلها اللاواعي دخلت في مقارنة مع التي تركتها ترد على المكالمة بإنشغال ، تنظر إلى قوامها الممشوق و ملابسها المهندمة و ملامحها المسترخية تماما ، ( كاريمان ) لم تكن اجمل من ( بتول ) اطلاقا و لكنها كانت مغامرة من الدرجة الأولى ، نظرت إلى حالها في حسرة .. كيف اصبحت هكذا ؟! هي التي علمتها كيف تكون أنيقة و تهتم بذاتها حتى اليوم ، نسيت ( بتول ) كل شئ .. نسيت حتى كيف تحب نفسها ..
جلست مرة أخرى بعد دقيقة ، تقول بإعتذار : معلش كانت مكالمة مهمة ..
هزت رأسها بتفهم ، ثم سألتها بهدوء : قوليلي بقى عملتي ايه في حياتك بعد الكلية ؟
ضحكت ( كاريمان ) بسعادة تخبرها غامزة : خمني ..
استغربت ( بتول ) من طريقتها التي لم تتغير ، فكرت قليلا تحاول إنعاش ذاكرتها علها تتذكر حلمها ثم ضحكت بشدة ، فبادلتها ( كاريمان ) الضحكة و هي تخبرها : كده يبقى عرفتي ..
- كوافير ( كاريمان ) للسيدات ..
ضربتها ( كاريمان ) كف و هي تضحك : يا فهماني .. هو اسمه مش ( كاريمان ) للأسف زي ما كنت متخيلة و انا صغيرة ، بس بقى اسمه Black Horse و في فرع في اسكندرية و فرع في القاهرة ..
- ماشاء الله ..
تمتمت بتلك الجملة في شرود ، كيف مر بها قطار العمر إلى هذه الدرجة ؟ سبعة و عشرون عام لم تستطيع إنجاز اي شئ ، حتى احلامها فتحت حفرة و ردمتها ..
- عملت فيكي ايه الدنيا يا ( بتول ) ؟ ..
قالتها ( كاريمان ) بحزن حقيقي حاولت اخفاؤه منذ لحظة اللقاء الأولى بعد تلك السنوات ، التمعت عينا ( بتول ) و هي تشيح بوجهها دون أن تنظر لها حتى لا تفضحها عيناها : عملت كتير يا ( كاريمان ) .. أنا عايشة طول عمري كده ..
- الكلام ده تقوليه لحد تاني مش ليا أنا .. أنا عارفاكي من ساعة ما كنا عيال صغيرة ، نظرة الكسرة اللي في عينيكي دي أيوة كانت موجودة بس مع ذلك كنت احلى واحدة في كل حاجة و بشهادة الجميع ، انهارده أنا شايفة الحزن طفح في وشك و جسمك .. أنتِ ملامحك اتغيرت كتير جدا كإنك كبرتي فوق عمرك يجي خمسين سنة ! ..
تنهدت بعمق ، و اردفت ( كاريمان ) بدهشة : صحيح هو فين ( معتز ) ؟
عند ذكر اسمه شعرت بالعبرات تنهمر من عيناها بلا توقف ، أمام نظرات ( كاريمان ) تحدثت بقهر : هو اللي عمل فيا كده ..
انكمش حاجبي ( كاريمان ) و قالت بعد صمت : أنا عايزة اعرف كل حاجة ..
مسحت دموعها و هي تهمس بضعف : صعب اوي .. صعب اوي عليا اللي حصل ده ..
أمسكت بيديها تحثها على الحديث : بس ممكن لو حكيتي ترتاحي ..
ابتسمت بسخرية أمام قول صديقتها المقربة ، ثم اردفت بمرارة : أنا بقيت شاكة اني هرتاح في حياتي فعلا ..
شعرت بإصرار التي أمامها فتنهدت بعمق و هي تحاول السيطرة على انفعالتها : ( معتز ) .. أنا و هو انفصلنا من كم شهر ..
جحظت عينا ( كاريمان ) العسليتان ، قصة الحب الأسطورية التي نشأت بين الثنائي لم تُنسى ابدا و قد تمنت أن تعيش في مثل تلك قصص الحب ، شعرت ( بتول ) بالغصة و لكنها اختارت أن تكمل بصوت مهزوز أدمعت له عينا ( كاريمان ) : سبب الطلاق اني مش بخلف .. و بعدها بفترة قليلة حملت ، بس هو قالي أنه مش عايز الطفل ده عشان كان متجوز عليا عرفي من سنتين بنت خالته ( عاليا ) .. و هي كمان حامل بس في توأم ، و بعدها كمان لما باباه توفى فكر إني انا السبب فراح ضاربني لحد ما فقدت البيبي ..
هبطت دموع ( كاريمان ) دون وعي منها ، تطالع عينا و ملامح ( بتول ) التي جعل منهما الألم موطنا ، تلك الرقيقة الذي أكثر ما يزعجها الصوت العالي .. الحنونة حد السماء ، الفتاة الجميلة التي يشهد لها الجميع بالأخلاق و خير الصديقة يحدث معها كل هذا ؟
- مش كده و بس ، ده لما عرفت إن ( حسين ) الله يرحمه كان كاتبلي ورث ، بعتت ناس و مضوني بالعافية و ..
صمتت ( بتول ) و قد تعالت شهقاتها ، ترد بما جعل ( كاريمان ) على وشك الجنون : و اغتصبوني ! ..
أغمضت عيناها تحاول استعياب ما قالته ( بتول ) ، بينما أكملت و هي ترتعش : و جابولي نزيف في المخ جابلي عاهة .. و كمان حملت بسبب اللي حصل ده و سقطت .. و حتى اخويا طردني لأني عرفت أنه كان شاهد على عقد الجواز و كمان كان مشترك في اللي حصلي ..
و هزت رأسها و كأنها تحاول نفض تلك الذكري تردف : و كمان أعلنوا إن فرحهم هيبقى بكرة ..
هزت ( كاريمان ) رأسها بشدة و كأنها تريد أن تنفض عن أذنيها ما سمعته منها ، تسألها و تريد من كل قلبها أن كل هذا كذب : ده مش حقيقي صح ؟
- ياريت .. أنا مش عارفة انام غير لما بحلم بكوابيس .. أنا مش قادرة أخرج من الذكرى دي ..
قالتها و هي ترمي بنفسها بين أحضانها تتشبت بها و تقول برجاء : بلاش تسيبيني لوحدي يا ( كاريمان ) .. أنا خايفة اوي ..
رغم صدمتها و ذهولها بكل ذلك شدت على أحضانها و هي تقبل رأسها : أنا مش عارفة ايه اللي بعدنا السنين دي كلها ، بس اللي متأكدة منه اني مش هسيبك تاني .. تعالي معايا ..
- هنروح فين ؟
اجابتها مبتسمة : مش عايزة تشوفي فكرتك اللي زرعتيها في دماغي لحد ما حققتها و بعدين ..
أمسكت بخصلات شعرها تخبرها بحزن : ليه تعملي في شعرك كده ؟ .. تعالي معايا نظبط الدنيا دي ..
جلست جوارها في السيارة الفارهة ، فقالت بضجر و هي تقود : كان حلال فيه التنمر و الله .. كان عندي بُعد نظر ..
لم تستطيع منع نفسها من الضحك ، ( معتز ) يكره ( كاريمان ) كثيرا ، و كانت تمارس عليه التنمر دوما حتى يبكي ..
اردفت فجأة و كأنها قد تذكرت : صحيح الواد تيمون عامل ايه ؟
كانت تقصد ( امجد ) ، كانت قد أطلقت عليهما اسم ( تيمون و بومبا ) ، فقالت ( بتول ) ضاحكة : الحمد لله سافر و حقق نجاح و رجع عشان يساعدنا بس طبعا لما اكشتف اللي ( معتز ) عمله خرج من الموضوع و قطع علاقته بيه ..
- انتوا الكسبانين و الله..
رن هاتف ( بتول ) لتجده ( كريم ) ، استرقت ( كاريمان) النظر ثم أطلقت صفير عاليا تقول : مش معقول ( كريم الشهاوي ) .. اوباا ، الواد ( كيمو ) واحشني و الله .. ردي ردي ..
ردت لتسحب منها الهاتف ، تخبره بصوت عالي : عم الناس ..
لبث دقيقة ثم سأل بترقب : ( كاري ) ؟!
ذلك الإسم المشهور الذي كان عادة يُنادى عليها من خلاله في فترة الجامعة ، انطلقت ضحكاتها فعلم أنها هي ، أخبرها بعدم فهم : انتِ مع ( بتول ) دلوقتي ؟
- أيوة يا اخويا .. معاها دلوقتي و هي راكبة جنبي في العربية ..
شعر بأن هناك شئ ما ، فسألها بنبرة جاهد لتكون طبيعية : هي كويسة ؟!
أغمضت ( بتول ) عيناها و هي تحاول أن تتغاضى عن نبرته تلك ، فتحت عيناها مرة أخرى تضحك بإستمتاع : في ايه يا يلا هو أنا خطفاها ؟! لا اوعى تنسى انها صاحبتي .. و أننا كنا بنعمل فيك مقالب الجامعة كلها تحلف بيها ..
ابتسم ( كريم ) و أردف بغيظ : ده أنتِ كنتي ست سوْ ..
ضحكت ( بتول ) هي الأخرى عندما تذكرت ، و لكن رغم ذلك كان احساس الضيق يلازمها ، و كان مصدر ذلك الضيق هو طريقة تحدث ( كاريمان ) مع ( كريم ) .. رغم عِلمها بأن هذه هي طريقتها في الحديث ، شعرت لوهلة بأنها تود أن تسحب الهاتف من ( كاريمان ) ، ذلك الشعور السخيف الذي يحاوطها كانت تعرف بسبب الغيرة الصبيانية التي دخل عقلها بها معها ، كان يتعامل مع ( كاريمان ) على أنها امرأة بحق .. أما معها فهو ربما يتعامل معها بشفقة لا اكثر ! .. لو كانت أخبرت ( كاريمان ) بحقيقة علاقتها مع ( كريم ) ربما ستتغير اشياء كثيرة للغاية ، أفاقت على صوتها و هي تخبره : يلا كلم ( بتول ) بقى ..
ناولتها الهاتف ، و هي تحاول ابعاد شعورها السئ : أيوة يا ( كريم ) ..
- ساعتين و هاجي اخدك يا ( بتول ) .. تمام ؟
- في حاجة ؟
سألته بشك فنفى ذلك و هو يخبرها : عايز اطمن عليكي بس .. يلا سلام ..
- سلام ..
أغلقت المكالمة فوجدت ( كاريمان ) قد أوقفت السيارة بغتة تلتف بغيظ : حلو اوي .. ( كريم الشهاوي ) بقى لسه علاقتك معاه مكملة ليه ؟
نظرت لها ( بتول ) و قالت بعدم فهم : مش فاهمة قصدك ..
- ( بتول ) .. انت بتتكلمي مع ( كريم ) لحد دلوقتي ليه ؟
صمتت ( بتول ) تماما ، فتنهدت ( كاريمان ) بغيظ و هي لا تزال تنظر لها ثم قالت بعد صمت : طيب .. قوليلي انتوا علاقتكم دي من ساعة ما كنت متجوزة ( معتز ) ؟
التفت بحدة ترد بعدم تصديق : ايه اللي بتقوليه ده ؟! ده طبعا مينفعش ..
ادارت مفتاح السيارة من جديد تمتم : طمنتيني ..
ضربتها ( بتول ) بغيظ في كتفها تردف بضجر : انتِ ازاي تصدقي عليا حاجة زي دي ..
- ما هو بصراحة الموضوع مريب ، كلنا عارفين إن ( كريم ) كان هيموت عليكي .. و عارفين كمان ازاي كان فيه حساسية ما بينكم و المشاكل اللي حصلت بينه و بين ( معتز ) .. ازاي سبحان الله فجأة علاقتكم ترجع بعد كل السنين دي ..
لم ترد ( بتول ) بل تنهدت بضيق و هي تشيح بنظرها ، و علمت ( كاريمان ) أن سبب ضيقها هو ما تفوهت به ، فأكملت مسرعة : سامحيني لو ضايقتك .. بس بجد أنا عايزة افهم ، و بعدين واضح أنه لسه بيحبك .. أنا مش هسألك غير سؤال واحد بس ، أنتِ فعلا بتحبي ( كريم ) ؟
لم ترد و قد نظرت للأسفل ، تنفست بعمق و هي تتحدث : يا ( بتول ) .. لو مش بتحبيه ملهاش لازمة يفضل جنبك لا انتوا طايلين سما و لا انتوا طايلين ارض ، خليه يشوف حياته يا حبيبتي .. خدي بالك كمان ( كريم ) شاب و الف بنت تتمناه ..
- ( كاريمان ) لو سمحتي ..
قاطعتها بغضب و قد برزت عروق وجهها ، اندهشت ( كاريمان ) من غضبها المفاجئ و لكنها رغم ذلك أكملت لا تبالي بغضبها : أنا شايفة إنك غيرانة عليه .. شايفة ده في عينك دلوقتي ..
قالتها بثبات ، تحدق في مقلتيها .. فبررت ( بتول ) سريعا : مش زي ما أنتِ فاهمة ، أنا مقربتش منه و لا حاجة ، الصدفة جمعتنا و هو جدع .. أنا مش عارفة بحبه و لا لأ، أنا اكتشفت اني معرفش يعني ايه حب ! .. بس هو معايا .. معرفش ده الطبيعي و لا لأ ، دايما بيهتم بكل حاجة و كل تفصيلة .. هو لما عرف اني نزلت لوحدي تقريبا دي تاني مرة يرن عليا ، خايف عليا عشان لسه صحتي مش احسن حاجة ، كان بيعمل الحاجة قبل ما اطلبها منه ، و انا معاه كنت بحس بأمان .. بس مش عارفة ..
قالتها و عبراتها تهبط بغزارة ، نظرت حولها بعجز تقول : بس ( معتز ) كان بيعمل كده .. كان بيحسسني اني احلى ست في الدنيا ، و الله العظيم أنا لحد دلوقتي ما مستوعبة ازاي يعمل فيا كده ؟ كان دايما حنين و طيب ، أنا بقيت خايفة من كل حاجة .. بقيت خايفة حتى من اللي بيحسسوني بالأمان !
مسحت على وجهه تخبرها بتعب : احنا مننفعش لبعض ، زي ما قولتي من شوية .. ( كريم ) شاب و الف بنت تتمناه ، بس اكيد مش من كل بنات الأرض هيختار بضاعة معطوبة زيي .. أنا عايزة اروح انام مليش نفس اعمل اي حاجة دلوقتي ..
تأملتها ( كاريمان ) بألم ، و هي تعود برأسها للخلف تغمض عيناها ، لتتحاشى اي حديث ! .. و لكنها تفاجأت بأنها تنحرف بسيارتها لتسير عكس اتجاه العودة ، نظرت لها بقلق و لكن لم تبالي ( كاريمان ) ظلت تسير حتى وصلا إلى صالون التجميل و ذُهلت ( بتول ) من جمال المحل الذي سيطر على واجهته اللون الأسود و اللون الأبيض الذي تداخل فبدأ مثلا خطوط رفيعة ترتسم بحرفية شديدة و لمحت رسمة الحصان الأسود باللون الذهبي ، وقفت ( كاريمان ) جوارها بفخر تقول : ايه رأيك ؟
- تحفة ..
قالتها ( بتول ) بإنبهار تام .. سحبتها من يديها حتى اجلستها على أحد المقاعد ، نظرت إلى صورة ( كاريمان ) في المرآة و هي تسأل مستفسرة ، فأردفت ( كاريمان ) و هي تضحك : ( كريم ) اللي طلب مني ..
- ( كريم ) ؟!
هزت رأسها بإبتسامة و هي تقول : بصي يا ( بتول ) سيبيلي نفسك خالص ..
- هتعملي ايه ؟
رفعت ( كاريمان ) حاجبيها فقالت برجاء : عشان خاطري يا ( كاري ) .. و اوعدك هسكت خالص ..
اقتربت منها و هبطت إلى مستواها : هخليكي احلى من العروسة شخصيا بكرة ..
ابتسمت ( بتول ) و أغمضت عيناها ، كان ( كريم ) يقصد ذلك إذن بعد ساعتين ..
____________________________________________
- أنا مش فاهمة يا ( عمرو ) ..
قالتها ( روان ) بنفاذ صبر ، فرد عليها ببرود و هو يطالع التلفاز : مش فاهمة ايه ؟
جلست أمامه تحاول أن ينظر لها : من الصبح بتهرب مني .. اسألك مين الست اللي خبطت علينا دي متردش ، اقولك اختك فين متردش برضو و تقعد تحور عليا ، حتى عيالك فيهم حاجة .. احنا متفقناش على كده ..
زفر بضيق و هو ينظر لها : اولا يا ( روان ) أنتِ اتجوزتيني أنا مش اختي .. يعني ملكيش دعوة بيها ، و ملكيش انك تسألي اصلا عنها ، و الست اللي سألت عليها انهارده صاحبتها ، هي سابت البيت و مشت عشان مش راضية عن جوازنا .. ارتاحتي كده ؟!
سألها بإنفعال ، فقالت بنفس الإنفعال : انت قولتلي إن ( بتول ) متفهمة .. و بعدين ليه لما نزلت اشتري حاجة لقيتك واقف مع جارتنا اللي تحتنا ..
- صوتك .. صوتك عشان متلقيش ايدي نازلة في وشك ..
جحظت عيناها مما قاله ، فتساءلت بعدم فهم : افندم ؟!
ظن أنه سيتراجع عما قاله ، و لكنها وجدته يصدمها بهز رأسه يؤكد : صوتك عشان متلقيش ايدي نازلة على وشك .. انا حر انزل اعمل اللي عايزه .. محدش له كلمة عليا و خصوصا انتِ ..
و تابع حديثه لا يبالي بشكل أخته أمامها : أما بقى بالنسبة ل( بتول ) فتنسيها خالص ، دي بت دايرة على حل شعرها ، الجيران لاحظوا ده .. و اضطريت اطردها ..
- تطردها و لا تمشيها ..
لم يستيطيع الرد ، فقال بإنفعال جلي : كده كده في الحالتين غارت .. انا ماشي طالما هتبقى نكد كده ..
قالها ناهضا و تركها هي في قمة حزنها ..
____________________________________________
- أنا خايفة ..
قالتها ( بتول ) و هي مغمضة العينين ، كانت ( كاريمان ) منهمكة في العمل و هي تخبرها : اتقلي تاخدي حاجة نضيفة ..
- أنا تقلانة بقالي ساعتين ..
قالتها بضجر ، فأردفت : عشان الجرح اللي في دماغك و الله ابعد عنه على قد ما اقدر ، و بعدين استني عشان محضرالك مفاجأة ..
شعرت بالقلق من نبرتها ، و سألتها بترقب : هو أنتِ صبغتي شعري ؟
كتمت ( كاريمان ) ضحكتها و اردفت بنبرة جاهدت لتكون جادة : اصبري بقى الله ..
انتظرت دقيقة حتى شعرت بالغمامة التي على عينها تنزاح و سمعت صوتها تقول بإبتسامة : افتحي عينك ..
بمجرد أن فتحت عيناها حتى شهقت ( بتول ) بصدمة و التفتت لها تقول بنبرة ظهرت بها اثر صدمتها جلية : فواتشح يا وحيد ؟!
صرخت و هي تمسك بخصلات شعرها : ايه ده ؟! ايه اللون ده ؟! أنا كنت مفكراكي هتظبطيه بس مش هتصبغيه كمان ؟! ..
حاولت ( كاري ) إقناعها : يا بنتي اللون ده تريندي جدا ..
- تريندي ايه ؟! .. ده انا معرفتنيش .. و هخرج الشارع ازاي باللون ده ؟ .. و ( كريم ) ..
أغمضت عيناها و هي على وشك البكاء تتخيل ردة فعل ( كريم ) .. تهتف ببكاء : منك لله يا ( كاري ) .. أنا حسيت اني بقيت رقاصة ..
ضحكت ( كاريمان ) تخبرها : يا عبيطة .. ده مخلي شكلك lady كده .. مديلك الهيبة ..
شعرت ( بتول ) بدموع الغيظ تكاد تهبط من مقلتيها ، و هي تهمس : راحت الهيبة راحت .. بجد أنا مكسوفة جدا .. هو اللون حلو بصراحة ، بس مخلي شكلي كده ..
- مختلف .. و قمر كده .. و على فكرة هو قريب اوي من لون شعرك الحقيقي ..
تأملت ( بتول ) ملامحها بيأس ، كان شكلها مختلف تماما ، و جعلها تبدو فاتنة و اشرقت ملامحها أكثر ، و لكن رغم ذلك اردفت بنفور : لا لا .. شكلي مش حلو ..
دفعت ( كاريمان ) ( بتول ) بغيظ تردف : بقولك ايه .. شكلك تحفة .. بطلي هبل و أنتِ على فكرة عارفة ده بس مكسوفة ..
لم تنكر ( بتول ) و ضحكت و هي تتأمل خصلات شعرها و لم تستطيع أن تقول إلا بطريقة جعلت ( كاريمان ) تقهقه : الله عليك يا وحيد يا لاشين .. هو ده اللون اللي عايزاه بالظبط ..
تبعت تلك الجملة الكثير من الضحك منهما ، و الجميع يتابع المشهد بإستغراب ، ( كاريمان ) التي عُرف عنها الصرامة في التعامل ، تضحك و لا تبالي بأي شئ .. توقفت ( بتول ) عن الضحك و هي ترى هاتفها يرن بإسم ( كريم ) ، شهقت بخوف و هي تقول بإرتباك : ارد ؟!
- لا مترديش ..
قالتها ( كاريمان ) بغيظ ، أغلقت هاتفها تردف بتوتر : عندك حق ..
صاحت بها و هي تمسك بهاتفها : أنتِ هبلة يا بنتي ؟! أنا بتريق .. ردي عليه بسرعة ..
فتحت المكالمة و اردفت بهمس : بلاش تيجي ..
سمعها و اردف ضاحكا : عايز اشوفك ..
زفرت بتوتر و هي تستمع لضحكاته المتتالية ، ثم قال : على فكرة أنا واقف بره ..
جحظت عيناها و هي تنظر ل( كاريمان ) بإستغاثة ، فأشارت لها بأن تخرج ، اغلقت المكالمة و تنظر ل( كاري ) بشر ثم رفعت طاقية الچاكيت تقول : مش هخرج أنا بشعري كده ..
لم تنتظر اجابتها و خرجت لتجده يقول بحماس : وريني ..
- لا ..
رفع حاجبيه دهشة مصطحب بالإستنكار ، فأسرعت تبرر : خليها مفاجأة احسن بكرة ..
اقتنع بالفعل و هز كتفيه ، ثم عاد أمامها و كأنه تذكر شيئا ما : على ذكر بكرة بقى .. ايه رأيك في الفستان دي ؟
نظرت إلى صورة الفستان و قالت بإعجاب : جميل اوي اوي .. شكله رقيق ..
- ده اختيار ( ريحانة ) بصراحة و اختياري أنا كمان ..
نظرت له بعدم فهم ، ما علاقة ( ريحانة ) بذلك ؟ ، وجدته يشبع فصولها بقوله : ما أنا لاحظت انك مش مهتمة اصلا بشكلك و أنتِ رايحة بكرة ، و بصراحة أنتِ عندك حق في دي .. حاجة تسد النفس ، بس مش هتبقى رايحين مناسبة زي دي و احنا لابسين اي حاجة كده ..
- ( كريم ) ..
التفت اليها ، قالت بهدوء و لا تعرف كيف تحدثت بتلك الكلمات : انت عايز ايه ؟
لم يتوقع تلك الجرأة منها ابدا ، و لم تسعفه كلماته بل الجم لسانه تماما ، نظر إلى السماء و تنفس بعمق ، أردف بهدوء بعدها أمام نظراتها : قصدك ايه ؟
رمى إجابة السؤال إليها ، أغمضت عيناها بعصبية و هي تشعر بألم شديد يغزو رأسها .. حاولت الحفاظ على المتبقي من هدوئها : ( كريم ) لو سمحت قولي كل حاجة ..
- اقول ايه يا ( بتول ) ..
سألها و هو يتصنع عدم الفهم ، لمع الإنفعال في عينها في تلك اللحظة ، تعلم لماذا الإشتعال اصابها .. كانت المقارنة بينها و بين ( كاريمان ) ازدادت شراسة في عقلها ، تتخيل أنه يحبها حقا .. نار الغيرة التي أشعلت قلبها و قد وجدت نفسها تبكي بدون سابق انذار و هي تدفعه بصدره ، تقول بغضب كي تثأر لأنوثتها : ايه عجباك ؟!
طالعها بغير فهم و سألها بصوت عال يستنكر حالتها تلك : في ايه ؟ و مين اللي عجباني ؟!
ضربت بكلتا يديها على السيارة ، حاول أن يهدئها بقوله : طيب .. فهميني بالراحة أنا زعلتك في ايه ؟ ..
ظن أنها نوبة من نوبات التغير المفاجئ في مزاجها ، و لكنها صرخت بإنفعال : بلاش تتعامل معايا كده .. انت شايفني عيلة قدامك ؟
شعرت بأنها على وشك فقدان أعصابه و لكنها سمعته يقول برفق : طب خلاص .. عايزاني اتكلم ازاي ؟
دارت بعينيها تنظر حولها ، طال صمتها ثم أخرجت علبة المهدئ مو حقيبتها و كادت أن تبتلع قرص لولا يده التي منعتها يخبرها بصرامة : لا يا ( بتول ) ..
- ملكش دعوة يا ( كريم ) ..
منعها مرة أخرى بقوة : أنا قلت لا .. أنا عايز اعرف انتِ غضبتي فجأة كده من ايه ؟
- يووه .. بقولك ايه اعتبرني عبيطة .. و روحني بقى عشان أنا متعصبة دلوقتي ..
ركبت سيارته دون أن تسمح له بالحديث ، تشعر بسخافة ما فعلته و لكن شعور الغيرة لا يفارقها ، و شعورها بأن ( كريم ) معها لمجرد الشفقة فقط يذبحها ذبح .. و ذلك الأمر يجعلها على وشك الجنون ..
____________________________________________
فرح أقل ما يُقال عنه أنه اسطوري ..
وقفت ( عاليا ) أمام المرآة تتأمل نفسها بزهو شديد فستان الزفاف الذي اختارته بعناية شديدة ، و اثناء تصفيف شعرها حرصت كل الحرص على إخفاء بطنها التي بدأت بالإنتفاخ ، و ( رجاء ) تجلس وراءها تتصفح هاتفها بشغف كبير و هي ترى المباركات ، تأففت ( عاليا ) و هي تقول : لا التسريحة دي مش حلوة .. أنا عايزة شعري زي دي ..
ثم رفعت الهاتف لترى مصففة الشعر صورة ( بتول ) يوم فرحها فقالت : بس دي مش هتليق عليكي .. البنت عشان ملامحها رقيقة ف..
قاطعتها ( عاليا ) بحدة : أنا قولتلك عايزة التسريحة دي ..
هزت المصففة برأسها و بداخلها تشعر لو أنها لم تحضر لكن افضل لها ، رن ( معتز ) عليها فقالت امها بسرعة : خليكي تقيلة بلاش تردي ..
- دي خامس مرة يرن يا ماما ..
قالت ( رجاء ) بضجر : انتِ عروسة و مشغولة .. اقفلي تليفونك دلوقتي ..
اغلقته بأمر منها ، تأفف ( معتز ) و هو يسأل : مش بترد ليه دي ؟
نظر إلى صورته في المرآة ، كان يرتدي بدلة أنيقة و بدا وسيما أكثر ، رغم ذلك لم يكن سعيدا ، يتذكر زواجه الأول عندما كان يجلس بالغرفة و وراءه ( امجد ) الذي يمشط شعره و يتحدث : كده حلو ؟
هز رأسه بالإيجاب و هو يرد : بقيت احلى مني .. يكش يتمر .. عارف لو خرجت من فرحي من غير عروسة هعمل فيك ايه ؟ صحاب ( بتول ) كلهم جايين .. و كلهم من النوع اللي هيعجبك ..
هز ( امجد ) رأسه دون اهتمام ، طرق ( حسين ) الباب و دخل و هو يعدل من حلته : جهزتوا و لا لسه ؟
- أنا خلصت .. كنت فين يا بابا ؟
ابتسم ( حسين ) و هو يقول : كنت بطمن على ( بتول ) .. بشوف لو ناقصها حاجة ..
رد عليه ( معتز ) بإنشغال : ايه يا ( حسين ) و انا كنت هخطفها ؟ ..
ضحك ( امجد ) و هو يردف : الله يعينك .. أنا هروح اشوف المعازيم اللي تحت ..
انصرف ( امجد ) و عم الصمت التام ، حتى تحدث ( حسين ) : كويس أننا بقينا لوحدنا يا ( معتز ) ..
انكمش حاجبي ( معتز ) بإستغراب و هو يسأله : هو فيه حاجة ؟
صمت ( حسين ) طويلا يتأمل ابنه ، حتى تحدث الأخير بقلق : حضرتك كويس ؟
دمعت عيناه و هو يقول : خد بالك من ( بتول ) .. اقسم بالله لو لفيت الدنيا دي كلها مش هتلاقي حد زيها في حنيتها و جمالها ، لو مفكر إن ملهاش حد فأنت غلطان .. أنا عندي استعداد اقف معاها و ضدك في اي مشكلة تحصل ، حطها في عينك يا ( معتز ) .. دي تتحط على الرأس و تعيشك طول العمر ملك .. اياك تبهدلها دي زي بنتي ..
- ايه يا بابا الكلام اللي حضرتك بتقوله ده ، انت بتوصيني على ( بتول ) ؟ أنا بحلم باللحظة دي بقالي سنين ..
- المشكلة مش في اللحظة يا ( معتز ) .. المشكلة في اللي بيحصل بعد اللحظة ..
تنهد ( معتز ) بعمق و هو يقول مبتسما : حاضر يا بابا ..
بينما كانت أم ( بتول ) تصيح بعنف أمام صديقات ( بتول ) التي وقفت في احراج شديد : يعني ايه مش عايزة تدخلي مع اخوكي ..
نظرت إلى ( عمرو ) الذي يطالعها بإنزعاج شديد و هو يستند إلى الحائط ، تلك الحادثة القديمة تسيطر عليها و على تفكيرها للحد الذي منعت اقترابه منها مرة أخرى ..
قالت ( بتول ) برجاء : طب نتكلم لوحدنا يا ماما عشان شكلي قدام صحابي ..
ابتسمت ( عزة ) بسخرية شديدة و هي تقول : خايفة على شكلك اوي يا اختي .. لا متخافيش هما عارفين انك ### من زمان زي ابوكي ..
دمعت عيناها و هي تراقب صديقاتها و ردود أفعالهم المصدومة ، و لكن رغم ذلك قالت : أنا مليش دعوة .. أنا مش هدخل مع ( عمرو ) .. مش عايزة المسه و لا يلمسني .. أنا هدخل مع ( حسين ) ..
دخل ( حسين ) في تلك اللحظة فتشبتت به ، و طالعت بقلق نظرات امها التي تنذر بغضب شديد و نزلت مع صديقاتها حتى يحضر الجميع الزفاف ..
افاق من شروده على صورته في المرآة ، يشعر بإقترافه ذنب عظيم .. و يبدو أنه لن يُغفر ابدا ..
____________________________________________
بعد ساعات وقف ( معتز ) جوار ( عاليا ) و على جانبيهما الفرقة الموسيقية التي تأخرت عن ميعادها ساعة كاملة و السبب يكمن فيما فعله ( كريم ) بالسيارة التي كان بها تلك الفرقة ، حيث قام بفك العديد من الأسلاك مما أدى إلى عطل لها ، و هم على وشك زف ( معتز ) الذي يتأفف من حركات ( عاليا ) المثيرة للريبة من ناحية اصدقائه و السخرية من ناحية آخرى من أصدقاء ( بتول ) القُدامى ، و الجميع يستغرب ( معتز ) الذي تنازل عن حب عمره و استبدلها بهذه ، فجأة سمعوا صوت سيدة تصرخ ببكاء : بودي .. انت روحت فين ؟
انتبه الجميع لصوتها العالي ، فعض ( معتز ) على شفتيه بغيظ و قد انفض الوفود من حولهما و قد اتجهوا نحو السيدة التي تبكي بإنهيار على ابنها الذي ضاع ، و بعد أكثر من نصف ساعة وجدوا ابنها اخيرا الذي كان يختبئ تحت المنضدة ، عادوا إلى الزفة و قد فقدوا الحماس ، و بعدما ذهبوا إلى القاعة ، جلست ( عاليا ) تحاول الإبتسام بلباقة و لكن كانت تواجه نظرات الإشمئزاز من جميع الحاضرين ، و كذلك ( معتز ) الذي لم يسلم من نظرات اصدقائه المستنكرة ، و فجأة شعر بكل حواسه تتوقف و هو يراها ، شعر بأنه يتخيل فصمت ، و لكنه ادرك أنها حقيقة عندما مالت ( عاليا ) على أذنه تخبره بإشتعال : ايه اللي جابها ؟
لم يرد عليها بل ظل نظره متحجرا نحوها و نحو ( كريم ) الذي يسير جوارها بنسق منتظم ، وجهها المشرق و عيناها اللامعتان ، و ( كريم ) الذي تقسم قسماته بأنه يعيش افضل لحظاته الآن ، اقتربا منهما وسط ذهول الحاضرين ، و اتجهت ( بتول ) ناحية ( عاليا ) التي تطالعها بشر تقول بإبتسامة و هي تمد يدها : الف مبروك ..
لم تمد ( عاليا ) يدها بل ظلت نظراتها الحاقدة تتفحصها ، بدت في غاية الجمال و الاناقة ، خطفت في ثانية أنظار الجميع ، التفت نحو ( معتز ) و هي تقول : بما إن مراتك قليلة الذوق و مردتش عليا فأنا هقولك انت مبروك رغم انك برضو مختلفتش عنها كتير ..
طالعها ( كريم ) بإعجاب مما أدى إلى زيادة حدة نظرات ( معتز ) .. اختارا مجلس بعيد نسبيا عن الجميع ، بعدما ذهبا إلى اصدقائهما و أثنى الجميع على اختيار ( بتول ) المميز في كل مرة رغم أنها بدت نحيلة و وجهها شاحب ، بعدما انفرد بها في القاعة ، شعرت بتعب شديد و اردفت : ( كريم ) .. الكعب ده عالي عليا اوي و انا حاسة اني تعبانة .. و بعدين ده منظر فرح ، دي جنازة ..
ضحك ( كريم ) و هي ضحكت ، و قال : ( كاري ) مش ناسية إن ( معتز ) معزمهاش على فرحه على الزفتة دي ..
نظرت له بغير تصديق و اردفت بخوف : هتعمل ايه ؟
غمز لها و هو يضحك في تواطؤ : هتشوفي ..
لم يكد أن يكمل جملته حتى وجدا ( كاريمان ) التي دخلت نحو المسئول عن السماعات و سحبت من الميكروفون تقول و هي تخبط عليه : تس تس .. بسم الله ..
كتمت ( بتول ) ضحكتها بصعوبة و نظر ( كريم ) لها مبتسما يطالع ما يحدث ، و استطاعت ( كاريمان ) ببراعة أن تجعلهما ينتبها إليه : Attention please .. احب ابارك و اهني الأستاذ M على المدام ( عاليا ) .. الحقيقة يا جماعة الخير ، أنا ( معتز ) معزمنيش .. بس قلت لنفسي برضو ميصحش ، هو لو قليل الأدب احنا نبقى زيه ؟
حاولت ( بتول ) جاهدة أن تكتم تلك الضحكات التي تتسلل إليها في وقت صعب كهذا ، بينما يتابع ( كريم ) بشغف ما يحدث و قد ألقى نظرة على ( معتز ) الذي يتابع بصدمة تامة ما يحدث : بما إن الفرح ميت و مفيش حد مبسوط غاليا فخلوني احكي موقف تذكرته ، تحديدا في شهر مارس سنة ٩٥ ، لما وقعت البنطلون للأستاذ ( معتز ) أثناء الفسحة ، كان حتى لابس .. و لا بلاش عشان لو في اطفال و لا حاجة ، و مرة أخرى في ابريل ٩٧ حطيت لزق امير على الكرسي بتاعه ففضل ماشي طول اليوم و الكرسي لازق فيه و سميناه من ساعتها ( معتز كراسي ) ، حرفيا كان عيل عبيط و دي صورته ..
( ظهرت على الشاشة الكبيرة صورة قديمة لمعتز و هو يقف ببلاهة و يمسك ببنطاله .. )
كان كل شوية يجري يعيط و كنت أنا و الصحبة الكريمة نقلبه في السندوتشات و المصروف بتاعه ، بس اتصدقوا حسيت إن شكله نضف شوية بس للأسف هي لو كانت بالشكل كان الموضوع اختلف ، عامة أنا جيت انهارده عشان حسيت إن الأستاذ ( معتز ) نساني و لا حاجة و بدأ يدوس على خلق الله ، و في النهاية مبروك للعروسين و الف مبروك ..
قالتها ثم خرجت و كأنها لم تفعل شئ بينما تحدث الحضور عن مواقف شبيهة و انقلب اضحك في القاعة على ( معتز ) ،، نظر الجميع ل( معتز ) الذي ود لو أن تنشق الأرض و تبتلعه ، أشارت ( عاليا ) بعصبية كي تبدأ فقرة الأغاني .. نهض ( كريم ) و هو يسحب ( بتول ) من يديها مع من بدأ بالرقص ، تصنع وضع يده على خصرها و امسك بيدها .. لم يلمسها بل كان يفعل ذلك حتى يغضب ( معتز ) الذي لم يرفع عينيه عليهما مال على اذنها هامسا : الفستان تحفة عليكي ..
احمرت وجنتاها بخجل و هي تردف بنفس همسه : طب بص قدامك لو سمحت ..
ضحك و هو يحاول قدر الإمكان الا يلمسها ، و لكنه شعر بشرودها المفاجئ و هي تمسك به حتى لا تقع ، انتبه لها فقالت بصدق : كنت هقع .. اتكعلبت في الفستان ..
سرح في عينيها و هو يمسك بها ، شعرت به و هو يتأمل ملامحها بشكل دقيق ، أما عنها .. فهي لم تستطيع النظر سوا لثانيتين ثم همست بتوتر بعدما ابتلعت ريقها : ( كريم ) ..
لم يرد بل ظل ينظر إلى عينيها .. احست بأن قلبها على وشك القفز من ضلوعها من فرط دقاته القوية ، للمرة الأولى تشعر بذلك الإحساس الذي حاولت إنكاره كثيرا .. أنها ليست معجبة به فقط .. بل تحبه أيضا ، إبتعدت عنه برفق بعدما شعرت بأنها استغرقت وقت طويل في تأمله و هي تخبره بإرتباك جلي : أنا تعبت ، أنا هروح اقعد على جنب ..
- ( بتول ) ..
قالها و كأنه قد خضع للشعور الذي بداخله ، لم تستجيب لندائه الذي أصاب قلبها ، نبرته الخاضعة و كأنه قد سلم مفاتيح قلبه إليها وحدها ، رغم ذلك ذهبت من أمامه ، و لا يعلم التردد الذي في داخلها ، لا تعلم ما الذي تخشاه الآن .. و لكنها تعلم أن بحضرته يخبو قلقها و خوفها ، ملاكها الحارس و ما لها إلا أن تسميه هكذا ..
بعدما افاق من تلك الحالة العجيبة التي أصابته ، سار وراءها و جلس قريبا منها ، تظاهرت بأنها تعدل ثيابها و لكن في الحقيقة كان تفكيرها منصب نحوه ، رن هاتفه فإستعاد تركيزه و هو يخبرها : يلا .. لازم نخرج من هِنا دلوقتي ..
انكمش حاجبيها في استغراب ، و كادت أن تسأله لولا أنه كان يركض و يحرص على عدم لفت انتباه أحد ، سارت وراءه حتى ركب سيارته و هو يتنفس بعمق و يضحك بشماتة من الذي سيحدث ، نظرت له بقلق و هي تقول : طب انت بتضحك كده ليه ؟
![](https://img.wattpad.com/cover/343926205-288-k782663.jpg)
أنت تقرأ
حَتى اَتَاهَا اليَقِينْ
Romantizmلعل كل الأقدار كانت سبب فى تأخر امنيتها .. هذه الدنيا لا تعطى كل شئ .. ربما تخطط لحياتك ثم يأتى كل شئ فى لحظة قاطعة يخبرك بأنه لا ينفع .. كمثل الموج الذى يأتي على غفلة فيقلب سفينتك رأسا على عقب ، حتى سألت نفسها ذات مرة متى سترسو سفينتها على الجزيرة...