السماء بلون الدم هذا اليوم ، والأجواء مشحونة ، والإشاعات تملأ الشوارع ، فقد قرر الأمريكان قصف بغداد بالكامل ، هذا ما انتشر بين الأهالي كالنار بالهشيم . أمي ذات الأربعة والأربعون عاماً تستقبل القبلة وتبكي ، وأبي ينثر رماد سجائره على عمره الخمسين وثيابه ويجوب متاهات عقله بحثاً عن حل ، أما أخوتي فكانوا يلعبون ، فالأطفال لولا الله لماتوا قبل أن يكبروا في بلدي ، وأنا أسترق النظر بين أبي وأمي وأخوتي . في بغداد ، الصمت يحيك العاصفة على مقبض كل باب من بيوت بغداد ، حتى خرج أبي عن صمته ليقول :
- سنهرب إلى خانقين عند بيت أختي حنان .
ابتسمت أمي ونظرت إلى سقف البيت المتهالك كأنها تشكر الساعي بين الأرض والسماء . الأطفال يضحكون فرحين كأنهم سيذهبون إلى نزهة كأيام العطل ، لا يعلمون بأننا سنذهب إلى جحيم الأقارب ، هاربين من جحيم الموت تحت الرماد ، وأنا سارح في كيفية الخلاص من هذه المحنة ، فقلتُ لأمي :
- وهل يسعنا بيتهم ونحن ستة أشخاص ؟
قالت باطمئنان :
- لن يكون عندهم أحد غيرنا ، حتماً سيسعنا ويفرحون بنا .
أسرعت أمي تحضر الحقائب وتجهز الأطفال ، علي ومحمد وسارة ، وأبي ذهب ليجهز أوراق البيت والهويات خوفاً من السرقة ، أما أنا فصعدتُ إلى غرفتي لأجهز نفسي ، وقفتُ أمام المرآة فرأيتها حزينة كأمهات الشهداء . أنا بطبيعتي شخص هادئ لا أحب الكلام الكثير ، أغلب وقتي بين الصمت والعزلة ، راودني شعور بأن أودع هذه المرآة تحسباً لأي ضرر يحدث لي أو لها ، فابتسمتُ لها كأنها فتاة مراهقة سمِعت كلمة ( أحبكِ ) لأول مرة ، قلتُ لها :
- أنا رأفت ، قائد المركبة في هذه الغرفة ، قضيتُ الثلاث والعشرين من السنين أنظر إليكِ وكأنكِ الآلهة التي تعكس جمال عبادها ، في كل مرة أنظر إليكِ ألاحظ شيئاً مختلفاً ، أنتِ أول الموجودين في هذا البيت ، وفي هذه الغرفة تعيشين وترين خيباتي وعثراتي وحتى نجاحاتي التي لا تساوي شيئاً ، سنغادر هذا البيت ولا نعلم هل سنعود أم لا ، أتمنى أن تحافظي على زجاجكِ المتماسك منذ ثلاث وعشرين سنة .
سقطت دمعة من عيني لا أعلم حصة مَن ، أهي لبغداد أم لنفسي أم للمرآة حظ في ذلك ؟ استدرتُ على مكتبتي الخشبية فاحتضنتُ الكتب وودعتها . أخذتُ معي غوغول بمعطفه البالي ، وأخذتُ أشعار جلال الدين الرومي كطلسم لروحي ، وبضع ملابس خاوية ، ونزلتُ الى الطابق الأرضي لأرى الكل ينتظر حضوري . قال أبي غاضباً :
- لمَ كل هذا التأخير ، اسرع ؟
أجبته ببرود ثابت :
- لمَ العجلة ؟ سنصل في الوقت المحدد ، فالشوارع فارغة الآن .
خرجنا من المنزل إلى سيارة أبي التي تعمل بدعاء أمي ، فهي ليست سوى كتلة من الحديد المتآكل . صعدنا جميعنا إلا بيتنا ، بقي حارساً لجذوره . خرجنا من الزقاق الذي نسكن فيه ، كان هادئاً على غير العادة ، حتى جارتنا العجوز لم تكن هناك ، فهي اعتادت على الجلوس في الباب حتى منتصف الليل تترقب ولدها الذي استشهد في حرب إيران . آه على الأمهات ، ينكرن فكرة الموت عندما يمس الأمر أحد أولادها . خرجنا إلى الشارع العام وهنا كانت الصدمة ، فقد رأينا السيارات تزدحم ، وكل سيارة تحمل متاع أصحابها على سقفها هاربين من موت إلى موت أبطأ . تسير السيارات ببطئ شديد لكثرة السيارات القاصدة للنجاة . أحسستُ بألم فجأة في قلبي من غير إرادة مني . قلتُ بصوت مرتفع :
- أبي ، سأعود إلى البيت ، وأنتم اهربوا إلى بيت عمتي حنان .
التفت الجميع بعلامات حزن واستغراب ، فقالت أمي :
- كلا ، ستأتي معنا ، ستموت لو بقيت هنا .
- أفضّل الموت في بيتنا على الخروج من معشوقتي الأسيرة بغداد .
قاطعني أبي قائلاً بعصبية :
- ما هذه عقليتك المتخلفة ؟ أتحسب أنك مثقف ؟
- ليس للثقافة يد في ذلك ، إنها مشاعر يا أبي .
- حسناً ، أنت لم تعد صغيراً ، لا أرغمك على شيء ، اعتنِ بنفسك جيداً .
أما أمي فقد بكت بصوت عالٍ ليبكي معها الأطفال . نزلتُ من السيارة وفتحتُ الباب لأحتضن أمي وأودعهما فزاد نحيبها ، قبلتُ يديها وقبلتُ الأطفال وذهبتُ حتى ناداني أبي :
- أيها الولد العنيد ، وأبوك ؟ أليس له قبلة ؟
رجعتُ فاحتضنته وقبلتُ يده ، ولا أعلم لمَ نجعل علاقتنا مع الآباء رسمية ومع الأمهات علاقة إلهية ؟ عدتُ أدراجي مع حقيبتي وكتبي والقليل من الحب لقراري بالبقاء هنا حيث ولدتُ وحيث أنتمي . عدتُ إلى بيتي ومرآتي ومكتبتي حيث يقبع المؤلفون . دخلتُ إلى المنزل وأنا في تناقض من أمري ، تارة يخفق قلبي من خوف الفراق والقصف ، وتارة يهدأ قلبي لوجودي هنا بين ما أحب . جلستُ أخرج ملابسي وكتبي من الحقيبة وأرجعتُ كل شيء إلى مكانه . نزلتُ بعدها لأحكم إغلاق الأبواب تحسباً لأي حدث طارئ ، فأغلقتها جميعها وصعدتُ إلى غرفتي لكي أريح بدني قليلاً ، لكني تذكرتُ الأخبار فأسرعتُ لتشغيل المذياع لأطلع على ما يجري . استقرت بي الموجة على صوت مذيع من وكالة أخبار تذيع الأخبار العاجلة :
- هذا وقد أكد رئيس الوزراء الأمريكي بأن الساعات القادمة هي الساعات الأخيرة لحكم صدام حسين ومن يساعده ويسانده .
أغلقتُ المذياع وتنهدتُ ضاحكاً حيث بدأت الأفكار والأسئلة تقرع الطبول في عقلي ، سيقول الناس : وهل صدام كبقية الناس ليموت؟ وهل سيبقى صامتاً ولا يرد على الأمريكان ؟ كيف سيتصرف ؟
عدتُ إلى فراشي وما زلتُ أفكر في هذه الحرب التي سيراق بها الكثير من الدم من أجل شخص واحد . قررتُ النوم قليلاً لأصحى بعدها فأحرس البيت ليلاً . ما إن وضعتُ رأسي على الوسادة حتى ذهبتُ في راحة ورحلة بعيدة عن الواقع ، حلمتُ بأني قد عدتُ إلى الجامعة ، وعادت الحلقات السرية المعارضة للنظام ، وحلمتُ بأنني زعيم هذه الحلقة وعلى يميني سارة التي لم أمتلكها حتى في أحلامي من شدة جمالها ، حلمتُ بأنها تبادلني أطراف الحديث حتى سقطتُ من سريري على الأرض بعد سقوط أول صاروخ على بغداد معلناً بداية الحرب على العراق . قمتُ من سريري غير مبالٍ لما حدث . ما زلتُ قابعاً في حلمي . نحن العراقيون ، تدخل السياسة في أحلامنا وكأنها شخصية بريئة ، والحقيقة أنها الظلام بعينه . نفضتُ يديّ من اللاشيء وقمتُ لأرى ما يحدث في الخارج ، فتحتُ باب الغرفة فأهتز البيت مجدداً وبدأت الصواريخ تسقط هنا وهناك ، تارة أسمعها تسقط بالقرب مني وكأنها في بيتنا ، وتارة أسمع صداها كأنها قريبة على أمي . أسرعتُ بأغلاق الباب بعد أن اشتد إطلاق النار من كل جانب قريب وبعيد حتى سمعتُ انفجاراً قريباً تناثر بسببه زجاج البيت فوضعتُ رأسي بين يدي وجلستُ تحت السلم خائفاً بأن التالي هو بيتنا . هذه الليلة غنية بالموتى ، لا شك في ذلك . اهتزت الأرض من جديد ، هذا الصاروخ قد أحزنني ولم يخيفني لأنه أسقط صورة عمي الشهيد ، نظرتُ إلى الصورة وأنا ما زلتُ تحت السلم ، تعساً للبلد الذي لم يرتح شهداؤه حتى في صورهم . خرجتُ لأرجع الصورة إلى مكانها لكن أعاقني رماد الزجاج الذي على إطارها الذي أعلن استشهاد صورة الشهيد . واستمر الليل بين الموت والفزع على بغداد ، ملك الموت كان مرهقاً هذه الليلة ، وأنا كذلك ، فنمتُ وأنا في مكاني إلى جنب الصورة ، لا أعلم كيف أغمضتُ عينيّ ولكن صحوت على الشمس وهي تلهتم البيت بالضوء ، نهضتُ من مكاني والزجاج يفترش الأرض ، حملتُ عمي دون شريطه الأسود وصعدتُ ليبدأ يومي بانكسار بعد الخوف . لقد شاهدتُ المرآة قد احتضنت الأرض بذراعها الخفي ، آه على أيامها الجميلة ، شاهدتُ كل شيء حتى موتها ، أدرتُ رأسي فرأيتُ مكتبتي تحتضن نفسها على الأرض ، وأكثر ما أحزنني هو أن كتاب الجريمة والعقاب بطبعته القديمة كان الجزء الأول منه يفترش الأرض والجزء الثاني عالق بين الأرض والمكتبة ، راسكولينكوف الذي خبأ كل آثار الجريمة لا يستطيع إخفاء الموت الساكن في هذه الغرفة . قتلني الحزن على بيتي وما حالت به الأحوال فقررتُ الخروج ومشاهدة ما تم تدميره من مدينتي ، نزلتُ مسرعاً إلى الطابق الأرضي ، فتحتُ الباب الخارجي وخرجتُ لا لوجهة محددة ، قصدتُ السير فقط ، وما أن وضعتُ قدمي خارج المنزل حتى امتلأت برائحة الدخان القادمة من المجهول ، فمشيتُ إلى الشارع العام لأرى ما جرى من موت فانزلقت دمعة على خدي معلنة الحداد على مدرستي التي أصبحت أرضاً فوق الأرض ، سرتُ بعدها إلى الشارع الثاني من المنطقة المقابلة وجلستُ بعد عبوري الشارع فلم تعد قدماي تقويان على المشي ، دمار في كل الاتجاهات ، بغداد خالية من البشر ، هرب الكل من الموت ، ولا أدري من سيعود ليموت قهراً على ما حدث ؟ تباً لكل السياسات والحروب التي تعيدنا إلى الصفر وتسلبنا حقنا في العيش وتجعلنا نموت فقط . آه على بغداد ، كانت ملجأ العلماء والطلاب ، والآن هي موت على هيئة شوارع بلا حركة .
فقط موت ودمار ..