الفصل الثالث

67 8 8
                                    

الفصل الثالث
ومزقت الأوراق
المكان كان رائع بفكرة جديدة وكأنه كهف ببطن الجبل خاص بهما فقط والمنظر الطبيعي من أمامهم يمنحهم جمال خلاب
المناضد كانت على شكل أريكة مريحة والأرض مفروشة بسجاد وثير فتقدما للداخل، الجدران المحلاة بأشكال مختلفة من الحيوانات البرية المحنطة..
جلست وقالت "المكان رائع حقا"
جلس بجوارها ومد ذراعه على ظهر الأريكة بالقرب منها وكادت ساقه تلمس ساقها وقال "أعجبك؟"
لمعت عيونها وقالت بصدق "جدا، لم أرى مثله من قبل"
تحرك رجل للداخل وقال "مستر زهير، آنسة، هل المكان ملائم؟"
تحدث بجدية "نعم ميل، الغداء بموعده، الآن مشروبي المفضل، بيري ماذا تفضلين؟"
قالت "عصير مانجو"
انحنى الرجل باحترام وابتعد فقالت "تبدو معروفا؟"
لمست أصابعه شعرها المسدل فشعر بنعومته تزيده إعجابا وهو يواجه عيونها ويقول "يبدو ذلك، تحبين عملك بالشركة؟"
أبعدت شعرها عن أصابعه يكفيها قربه الذي يضعفها وقالت "جدا، بالبداية ظننت أني لن اجتاز الأمر بدون ليث ولكن هو دفعني بقوة منحتني ثقة بنفسي حتى خضت التجربة ونجحت"
دخل الرجل يصحبه رجل آخر يدفع مائدة صغيرة عليها جردل ثلج صغير به زجاجة مشروب بين الثلج وكأس كريستال بجواره، كوب المانجو كان كبير وقطع المانجو بطبق بجوارها، كان الأمر رائع حقا، انصرف الرجل الأخير ورفع ميل الزجاجة وقدمها باحترام له فنظر للزجاجة للحظة ثم هز رأسه بغرور لم تفهمه وقال
"حسنا، سأتناول كأس الآن ميل"
فتح الرجل الزجاجة وسكب القليل منه وهي بالطبع تدرك ماهيته فلم تعلق حتى انتهى الرجل وانحنى يقول "تأمر بشي آخر سيدي"
هز رأسه بالرفض وهو يتناول منه الكأس وقال "شكرا ميل"
انحنى الرجل مرة أخرى وما أن خرج حتى انسدل زجاج على المدخل نظرت له فقال "تشاهدين المنظر من هنا ولكن من الخارج لا يشاهدك أحد"
رفع الكأس لأنفه ليشتم رائحته وقبل أن يتذوق القليل منه فقالت "لن تفعل"
التفتت عيونه لها فرفعت حاجبها بتحدي وقالت "تعلم موقفي من ذلك"
وأشارت للزجاجة فسكنت يده بمكانها قبل أن يقول "أنا أتناول تلك المشروبات منذ كنت بالعشرين بيري وأخبرتك أني لا أثمل بسهولة"
وتناول رشفة مما بالكأس فنهضت بغيظ ووقفت أمام الباب الزجاجي وربطت ذراعيها أمام صدرها وهي تحاول وقف غضبها وربما خوفها
سمعته يقول "هل تخافين مني بيري؟"
لم تلتفت له، لن تمنحه هذا الشعور فقالت "ما رأيك أنت؟"
أجاب "وكيف أمنحك رأي وأنت كالصندوق المغلق بقفل حديدي مجهول ما بداخله؟ أنتِ حتى لا تسمحي لي بالاقتراب"
التفتت له فكان قد ترك الكأس وتناول سيجارة نفخ دخانها حوله فلم ترى نظراته وهي تقول "أنا لست كذلك"
اعتدل بمكانه وهو يضع قطعتين مانجو بالعصير ونهض به تجاهها حتى وقف بقامته الطويلة أمامها وتمنت لو أنها كانت أطول من ذلك لتناطحه الطول، عيونه اخترقت عيونها دون فائدة وهو يمد لها الكوب وقال
"إذن لماذا ترتدين تلك الألوان دائما؟"
ظلت جامدة بمكانها لوهلة قبل أن تأخذ منه العصير، لن يتركها ولن يحررها دون إجابات ولعبة القط والفأر لن تظل الفائز بينهم فقالت "ربما أجد بها الراحة"
التفتت للمنظر الجميل فاقترب حتى وقف بجوارها ودخن سيجاره وقال "تقصدين الحماية"
أخذت بعض العصير وقالت "ربما، ما أهمية تلك الألوان طالما بالنهاية كلها تؤدي الغرض"
اندهش منها ولم يفهمها وهو يقول "من الذي فعل بكِ ذلك بريهان؟ أي رجل قتل داخلك الأنوثة؟"
رفعت وجهها له وامتلأت عيونها بألم وحزن لم يفهمه وقالت "لماذا تريد ذلك؟"
قال بدهشة "ماذا؟"
قالت بضيق "الماضي! كلانا يكره هذا الحديث عنه فلماذا تدفعنا له مرة أخرى؟"
اعتدل بوقفته ليواجها وقال بجدية واضحة "لأنه يقف حاجزا بيننا"
رددت كلمته بهمس "بيننا!؟ ليس هناك بيننا سيد زهير"
انحنى كعادته منها ورائحة الدخان مع الويسكي جعلتها ترتد للخلف وهو يقول "بل هناك، منذ ذلك اليوم بمكتبي ونشأ بيننا رابط لم ينقطع حتى رأيتك بذلك الحفل الأخير"
ظلت تحدق به حتى ابتعدت من أمامه لجانب الباب الزجاجي وقالت "حتى لو، لا يجب أن يستمر هذا الذي تقول أنه بيننا، علينا أن نعترف أننا غير متناسبين"
يده لمست ذراعها برفق ليعيدها أمامه وبدت قصيرة وهي بالفعل قصيرة وهي ترفع رأسها لتلتقي بزرقاء عيونه الجريئة وهو يقول "دعينا لا نطلق أحكام قد لا تناسبنا، فقط اتركي نفسك تخرج من سجنها بريهان، هذا حقك دعيني أعيد لكِ ما فقدتيه"
تذكرت ذكرياتها المؤلمة ودمعت عينيها فأبعدت نفسها للخلف فاصطدمت بالزجاج وما زالت تواجه عيونه وقالت "ما ذهب لا يعود سيد زهير"
اقترب جدا ورفع يده بجوار رأسها على الزجاج وانحنى على وجهها ورفع يده الأخرى ليلمس وجنتها وهمس "إذن لنصنع ذكريات جديدة تملأ الفراغ الذي نحيا به بيري"
ودون أي مقدمات تفاجأت بشفتيه تهبط على فمها وما زالت عيونها تنظر له بذهول أفاقت منه قبل أن تضيع بقبلة تذهب عقلها فدفعت يداها الصغيرة بصدره ليرتد للخلف قليلا من دفعتها وهو ينظر لها وقد توهج وجهها وهي تتنفس بصعوبة والغضب يشع من وجهها وهتفت
"أريد أن أذهب الآن، افتح هذا الباب"
رفع يده لخصلات شعره ليبعدها عن جبينه وهو يستدير موقفا رغبته التي اشتعلت به تجاهها وربما أوقفه الغضب لرفضها له وهي تعود وتهتف "ألا تسمعني؟ افتح هذا الباب الآن"
التفت لها بغضب وقال "كفى بريهان أنا لن أغتصبك، لقد كانت قبلة ولم تكتمل"
دموع اندفعت لعيونها وهي تقول بنفس الغضب "أنت ماذا تظن بي؟"
أشاح بيده وهو يلتفت مبتعدا للكأس الذي كان على المائدة ودفع بما به بفمه مرة واحدة وشعر بالشراب يحرق صدره وغضبه بذات الوقت محاولا التحكم بزمام الأمور ويستعيد ترتيب أفكاره لتلك المرأة التي تدفعه بعيدا كلما اقتحم أسوارها
الصمت طال لدرجة أثارت أعصاب كلا منهما وارتد لها عندما سمع حركتها وهي تبحث عن أي مجال لفتح الباب الزجاجي حتى وصلت لذلك الزر الخفي وما أن ضغطته حتى ارتفع الحاجز فارتد لها وهو يجذبها من ذراعها ويقول
"توقفي عن هذا الجنون"
أبعدت يده بقوة ونظرت له من بين دموعها وقالت بقوة "نعم لابد أن أوقف هذا الجنون، وجودي هنا جنون السماح لك باقتحام حياتي جنون لذا لابد أن يتوقف"
أدرك كم الغضب الذي يشتعل بداخلها من عيونها المظلمة ودموعها المتهاوية وربما للحظة شعر بأن ما فعله خطأ هي بالفعل ليست مثل الباقين
ما أن استوعب ما يحدث حتى وجدها تختفي خارج الكهف فأسرع خلفها ليوقفها وهي لم تكن تذكر بأي اتجاه يمكنها أن تسير وإنما اندفعت دون تفكير للأمام وهي تجري باندفاع ولكنها وجدت نفسها بين ممرات ترابية لا تعرفها فتوقفت تستدير حولها لتصطدم به مرة أخرى خلفها
دفعته مرة أخرى بقبضتيها بصدره وهي تهتف "أخرجني من هنا، أخرجني من هنا"
أمسك يديها بيده وقال "حسنا بريهان أهدئي من فضلك وسنذهب فقط توقفي عن هذا الغضب، أنا آسف"
هدأت من ضرباتها وانطلقت دموعها دون توقف وما زالت يدها بيده برفق ولكنه جذبها لصدره ولم تشعر لأن الدموع والغضب كانا يتملكان منها والماضي يعصرها بقوة، لن ترتد لسنوات للخلف، لن تلقي بنفسها بأحضان أي رجل ولن تفعل ذلك..
استعادت نفسها بسرعة وتراجعت وهي تجذب يدها من يده دون أن تنظر له فقال "لو أردتِ أن نذهب حالا سنفعل ولكن لو قبلتِ بتناول الغداء وأعدك بألا أتجاوز مرة أخرى"
رفعت وجهها له فشعر بنبض حاد بعقله يؤرقه لأنه بطريقة لا يفهمها سبب كل تلك الدموع بعيونها وهذا الألم على ملامحها، عندما لم ترد تبدلت ملامحه لشخص تكاد لا تعرفه، ذهب منه الغرور والثقة وتبدل للرجاء وهو يقول
"لقد فهمت بريهان، فهمت أنكِ لستِ تلك المرأة"
ورفع يده بانتظار يدها ولكنها أخفضت عيونها ليده لحظة ثم تحركت من جواره عائدة من حيث أتت دون أن تمنحه يدها فأغمض عيونه بضيق مما حدث وهو أصلا لم يتوقع أو يخطط لما كان بل ظن أنه سيمكنه الاستمتاع باليوم وتحقيق هدفه..
التفت ولحق بها وبخطواته الواسعة القليلة كان قد وصل لها ولم ينظر أحدهم للآخر وما أن دخلت حتى تبعها وخلفهم ميل الذي تنحنح فالتفت زهير له وميل يقول "هل تفضل الغداء سيد زهير الآن؟"
رفع خصلات شعره المتساقطة بأصابعه وقال "نعم ميل والقهوة بعدها"
انحنى الرجل بينما مسحت هي دموعها ولم ترفع وجهها له وهي تقول "كان علينا أن نذهب"
تحرك للأريكة المواجهة وجلس وهو يخرج هاتفه الذي كان يصدر اهتزازات بجيبه ورأى اسم امرأة كان يعرفها مؤخرا فلم يجيب وأعاد الهاتف لجيبه ورفع وجهه لها وقال
"نقطة ومن أول السطر بريهان"
رفعت عيونها التي تلونت بالأحمر وقالت "لقد جربنا كل السطور ولم ننجح دعنا نغلق الكراسة ونوقف كل ذلك"
أخرج السجائر والولاعة ودخن واحدة نفخ دخانها وقال "لو لم ننجح هذه المرة أعدك أن نمزق كل الأوراق ونلقي بالقصاصات خلفنا دون رجعة هل اتفقنا؟"
لم تفر من عيونه وقلبها يخبرها أن توافق أما عقلها فاعترض بقوة وغضب يريد انتزاعها من هنا وإعادتها لعالمها حيث تنتمي، ظلت تتابعه من خلف الدخان وفتحت فمها لتسأله ولكنه رفع يده وقال
"لأنني ما زلت أصر أن هناك شيء بيننا يجذب كلانا للآخر، أعلم أن لدي سمعة لا أحسد عليها وهي حقيقة لا أنكرها ولن أنكر أيضا أن نواياي لم تكن بريئة ولكن أنتِ محصنة ضدي ولقد وصلت رسالتك فلنلعب الآن بطريقتك"
تنهدت بصوت مرتفع وهي تشعر بالحاجة للهواء رغم المكيف وارتفع صدرها المختفي خلف بلوزتها الواسعة وقالت "نلعب!؟ هي لعبة بالنسبة لك؟"
ضاقت عيونه وقال "هو تعبير مجازي بيري"
قالت بغضب "أخبرتك ألا تناديني بذلك"
جذب الدخان بغضب مكتوم ثم أخرج الدخان بقوة وقال "أنتِ لا تريدين لكل ذلك أن يستمر أليس كذلك؟"
دق الباب الزجاجي وانفتح ليدخل ميل وخلفه رجلان يدفعان مائدة الطعام وقد لاحظت اختفاء الأولى، شردت بسؤاله، هل تريد لتلك العلاقة أن تستمر أم كما قال لا تريدها من الأساس؟ إذن لماذا أتت معه؟ ما سر وجودها هنا وضعفها أمامه؟
كان الطعام شهي بالفعل والغريب أنه المفضل لديها، أطفأ سيجارته ونهض ليجلس جوارها ولكن حافظ على مسافة بينهم منحتها الأمان وبدأ بصمت يتناول الطعام فاضطرت أن تفعل المثل وقالت
"أنا لا أثق بك"
توقفت يده بالشوكة قبل أن يدفعها باللحم وقد سمعها جيدا فأكملت "أنت اعترفت أن سمعتك.. ومع ذلك سمحت لنفسي أن أصحبك لهنا وهذا أيضا خطأ، أنا فقط"
لم يضع الطعام بفمه ولم يتركه ولم ينظر لها أيضا وإنما أجاب "تخافين مني وتأكد خوفك بسبب ما حدث منذ قليل"
ظلت تعبث بالشوكة دون أن تتناول أي شيء ولم تنظر له هي الأخرى ولكنها هزت رأسها فتناول اللحم وقال "وبالنسبة لبداية جديدة؟"
ظلت تنظر للشوكة بيدها وقالت "طلبت ذلك بالأمس و"
أيضا لم تكمل فهز رأسه وهو يقطع اللحم وقال "لديكِ كل الحق، هل تقترحين أن نتوقف هنا ولا نكمل؟"
كان قرار صعب ولا تعرف ما عليها اتخاذه ولكنها قالت "نحن مختلفين زهير"
رفع عيونه لها فالتقى بعيونها الرمادية وقال "الآن أريد سيد فهي أفضل من الطريقة التي نطقتِ بها اسمي الآن"
وترك الطعام ونهض باحثا عن السجائر فنهضت هي الأخرى وقالت "آسفة ولكن صدقني أنا أختلف كثيرا عن كل من عرفت، لا أحيا بالطريقة التي اعتدت أنت على أن تراها بالنساء من حولك، بحياتي الكثير مما يدفعني للطريق الذي أسير به"
لم ينظر لها وهو يجذب الدخان بقوة كادت تحرق صدره ونفخ الدخان بنفس القوة وكأنه ينفخ معه الغضب الذي بداخله وهتف "حاولت معرفة طريقك لأسير به ولكنك تضعين كل الحواجز"
التفتت وقالت "لأني اعتدت على حياتي كما هي ولا أريد تغييرها"
التفت لها وقال "لا تريدين أم تخافين؟ أنت مجرد جبانة حمقاء تفر من مواجهة نفسها وتظن أنها تنجو بذلك ولكن إليكِ الحقيقة؛ المواجهة مهما كانت مؤلمة فهي الدواء الأمثل للألم"
التفتت له وقالت بقوة "تبدو وكأنك جربت الدواء جيدا ولم تفر من حقيقة مؤلمة لتصبح جبان أحمق مثلي"
صدمه كلامها الجريء كالعادة واخترقت كلماتها غشاء البرود والسخرية والغرور الذي يرتديه وجعلت وجهه يتجعد أكثر واحترق إصبعه من السيجارة فهتف "اللعنة"
أطفأ السيجارة وقال وهو يتحرك للباب "أظن أن من الأفضل لكلانا الابتعاد عن طريق الآخر الآن قبل أن نندم"
وتحرك للخارج فظلت بمكانها لحظة وقد أدركت أن كلماتها أصابت وسجلت هدفا مزق شباك ذلك الرجل وفر قبل أن يعترف بهزيمته
عندما وصلت للسيارة كان ينتظرها خلف المقود وما أن ركبت حتى انطلق بالسيارة بقوة أخافتها وبنظرة جانبية لمحت وجهه الذي تجمد وفمه المذموم بشدة حتى كاد يصبح مجرد خط رفيع بوجهه ولاحظت ارتفاع أنفاسه فأبعدت وجهها ولم تحاول الحديث
ما أن وصلا المنتجع حتى قال "الآن نحن نمزق الأوراق بريهان ولن نجمعها مرة أخرى"
هزت رأسها ولم ترد وهي تفتح الباب وتنزل وتحركت لغرفتها والدموع تنتظر حتى تغلق بابها وتنزل بهدوء وهي تتحرك للفراش وجلست على طرفه تحاول أن تستوعب تلك الحرب الغريبة التي دارت بينهم، لم يتحدثا محادثة هادئة حتى لدقائق، كلاهم كان يهاجم ويدفع ويماطل وبالنهاية كلاهم أيضا كان يهرب
أغمضت عيونها لتعصر الدموع الفارة من بين رموشها وتنفست بعمق ودهشة من أن زهير يؤثر بها بتلك القوة وهي بالكاد تعرفه..
أوقف السيارة أمام ملهى ليلي زاره مرة أو اثنان عندما أتى لوس انجلوس من قبل، نزل وصفع الباب خلفه بقوة الغضب الرابض داخله وتحرك للمكان الذي كان شبه خالي من أي أحد بذلك الوقت من النهار، تحرك للبار وطلب مشروبه المعتاد فنظر له الرجل بقوة ولكنه لم يعترض وهو يصب له بالكأس وما أن انتهى حتى رفع زهير الكأس وألقى كل ما به بجوفه دفعة واحدة جعلته يشعر بالدماء تندفع بقوة بشرايينه ربما توقف الغضب الذي يشتعل داخل عقله بل كل خلية من جسده، كيف تهزه امرأة بتلك الطريقة؟ كيف توقفه عن أن يأخذها كما اعتاد مع سواها؟ كيف بضعفها هذا تصير قوية معه؟
قال بصوت عميق "آخر"
سكب الرجل بالكأس وما زال يرمقه بنظرات قلقة وكرر ما فعله وهو يدفع بالمشروب بفمه دون تردد وهو يتنفس بقوة ونظراتها لا تتركه بل وكلماتها تندفع لرأسه "نحن مختلفين زهير"
أغمض عيونه ولم يدرك أن ملامحه الجامدة كانت تعلن عن حالته، عادت كلماتها تدفعه أكثر لحافة الجنون "تبدو وكأنك جربت الدواء جيدا ولم تفر من حقيقة مؤلمة لتصبح جبان أحمق مثلي"
هتف بقوة وألم "آخر"
الرجل قال "سيدي أنت"
فتح عيونه بنظرة نارية وهو يقول بغضب ناري كاد يأكل ما حوله "آخر"
لم يتردد الرجل وهو يسكب له مرة ثالثة وهو الآخر لم يتردد وهو يلقي المشروب بفمه وما زال يراها وهو يدفعها بعيدا ويخبرها أنهم مزقوا أوراقهم وألقوها بلا عودة
نهض فجأة فترنح قليلا ولكنه تماسك وهو يخرج مبلغ مالي وقذفه على البار ثم تحرك خارجا وهو يردد لنفسه لن نجمع القصاصات أبدا، أبدا
شهر مضى على اللقاء الكارثي ولم يحاول أيا منهما معرفة أي شيء عن الآخر، عاد هو نيويورك حيث مقره الرئيسي واستسلمت هي لحياتها التي رسمتها لنفسها وقنعت بها بدون ندم فهي اكتفت من الندم على الكثير من حياتها ولن تفعل مرة أخرى..
انتهت من اجتماع المدراء بوقت متأخر ونهض الجميع وتناولت كوب القهوة ونظرت للحاسب وهي ترى ليث على الشاشة وقالت "هل أرسل لك قائمة الاقتراحات"
نهض أمامها من خلف مكتبه وقال "لا، الأمر انتهى عندك بيري والقرار قرارك"
ارتبكت وقالت "ولكن ليث"
ابتسم لها بالشاشة وقال "أنتِ قادرة على اتخاذ القرار الصواب حبيبتي، أنا لابد أن أذهب بلغي ماما تحياتي"
وأغلق الاتصال وقد شعرت بالخوف كالعادة رغم أن كلماته تمنحها ثقة ككل مرة، سمعت أليكس تقول "هل انتهيتِ؟"
تناولت القهوة وهي تغلق جهازها وقالت "نعم غدا سأتخذ قراري"
نهضت فقالت أليكس "عليكِ بالذهاب الآن إذا كنتِ ستحضرين ذلك الحفل"
رفعت وجهها لها بدهشة وقالت "حفل؟"
ثم تذكرت وهتفت "يا الله لقد نسيت، أنتِ ملاكي الحارس أليكس، أثناء أجازتك بعد الولادة كنت كالضائعة، لولا ذاكرتك هذه لكان هاري قتلني لو لم أذهب فالشريك الجديد هام جدا بالنسبة له وهو يظن أن وجودي سيزيد من قوة الصفقة"
تحركت لمكتبها وتركت قدح القهوة وجذبت هاتفها وحقيبتها وقالت "هل طلبتِ الفستان؟"
ابتسمت أليكس وقالت "لا شك بذلك"
ابتسمت وقالت "اطلبي السائق ليس لدي وقت بالفعل، واطبعي قبلة كبيرة على وجنتي ماريا الصغيرة"
دولت كانت تنتظرها فقبلت وجنتها وهي تسرع وتقول "ماما حبيبتي كيف حالك؟"
وضعت حقيبة جهازها وقالت دولت "بخير حبيبتي، تبدين أفضل هذه الأيام"
دفعتها كلمات دولت للخلف وقد عانت بالأيام السابقة مما وقع لها وأخذ منها جهد كبير كي تستعيد نفسها ولكنها بالنهاية فعلت، لم تنظر لدولت وهي تخلع الحذاء الطبي وقالت "نعم العمل يسير للأفضل الآن، ماما لدي حفل وهاري سيمر بعد نصف ساعة وسيقتلني إن لم أكن جاهزة"
وأسرعت لتستعد بفستان بنفسجي طويل مفتوح من الأعلى وينضم على خصرها بحزام فضي ثم ينساب للأسفل بخيوط فضية لامعة وأقراط ليث وتوقفت يدها عليهم وهي تذكر كلمات زهير لها، ما زال يخترق ذهنها ولم يخرج منه رغما عنها، قوتها تعجبها ولكنها تخشى من نفسها..
دقات هاري جعلتها تهرع للخارج على قدر قوتها وفتحت له فابتسم لها ببدلته الرائعة وليتها استطاعت أن تحبه لكان قد أعلن إسلامه وتزوجته وانتهت عقد حياتها فهو الوحيد الذي عرف سرها بالصدفة ولم يعترض أبدا عليه..
دخل وطبع قبلة على وجنة دولت التي ابتسمت له وهو يقول "كان علينا اصطحابك معنا ماما"
ضحكت دولت وقالت "لا أفضل تلك الأمسيات حبيبي فقط اهتم بها"
لمعت عيونه عليها وهي تجذب حقيبة فضية صغيرة وقال "بالتأكيد لدي الليل كله لأفعل"
لم تنظر له وهي تقبل دولت وتقول "ماما لا تنتظريني"
تحرك هاري وهي أمامه وأغلق باب السيارة خلفها وقال "تبدين رائعة الليلة ما السر؟"
كانت تفهم سؤاله فالأيام السابقة كان يتابع حزنها وغضبها وهي لم تتحدث، قالت "الاجتماع كان جيد اليوم، لماذا تهتم بهذا الحفل هاري؟"
نظر للطريق واندهشت من الاختلاف الكبير بينه وبين زهير المتهور المغرور بينما هاري هادئ ومتزن ليتها كانت تلائمه، أجاب "الشريك الجديد الذي أخبرتك عنه سيكون موجود الليلة، لقد وافق أخيرا على دخول مجال النقل والتوريد وأنا بحاجة لذلك كي تقل التكلفة وهو سيمنحني الألوية بحكم الشراكة"
نظرت له وسألته "هل أعرفه؟"
نظر لها وقال "لا أظن هو يعيش بنيويورك ربما ليث يعرفه ولكن أنتِ لا أظن"
هزت رأسها ولم تهتم وقد وصلا للفندق حيث الحفل وبالطبع وضعت يدها بذراع هاري وهي تتقدم للداخل بثقة معه وقد تعرفت على الكثير من الموجودين وظلت ابتسامة رقيقة تعلو شفتيها حتى هتف هاري فجأة
"ها هو قد وصل"
وما أن التفتت حتى شحب وجهها واتسعت عيونها وارتجف جسدها كله من المفاجأة
يتبع..

الماضي الملوث بقلمي داليا السيدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن