وصول

190 4 0
                                    

خفف القطار من سرعته وأطلق صفيرا اهتزّ له زجاج النوافذ، وثب الركاب من أماكنهم واحدًا تلو الآخر عندما لاحت لهم لافتة المحطّة، تزاحموا في الممر المؤدي لباب القطار فسقطت بعض الحقائب من أعلى الرفوف، ترجل "أنس" من القطار ثم وقف يفتش بين وجوه المارّة عن وجه جدّه، أخيرا التقطته عيناه من وسط الحشود فقامته المديدة وعليها المعطف الأزرق الطويل، ولحيته الرمادية اللطيفة التي برزت من الوشاح الخوخي اللون الذي كان يلف به عنقه، عويناته المستديرة، ونظرته الواثقة من خلفها، وتلك الابتسامة الواسعة التي كانت تضيء وجهه، كل تلك اللفتات البسيطة التي يحبّها "أنس" ميّزت جدّه عمّن حوله فأسرع يحتويه في حضنه. طال العناق قبل أن يقول الجدّ وهو يمسح وجه حفيده بكفّه الدافئة:
- ازددت طولًا يا أنس، وتباعد منكباك.
- أرأيت، الآن أنا الذي يحتويك في حضنه يا جدّي وليس العكس.
- أوحشتني يا "أنس".
- وأنت يا جدي.. أوحشتني كثيرًا.

أسرعا بالخروج من الزحام واتجها معا إلى بيت الجدّ حيث كانت هناك الكثير من الأحجيات التي لا يعرفها "أنس". من بعيد كان هناك من يراقبه ويرصد حركاته وهو يبتعد مع جدّه. كان يتفحّصه بإمعانٍ شديد.

وقفت سيّارة الأجرة أمام بوابة بيت الجدّ الحديدية، والتي كانت تتوسط السور الحجري الذي يحيط بالبيت، كان ارتفاع السور شاهقًا وقد تدلّت من فوقه أغصان الأشجار وكأنها تراقب الطريق. بعض الفروع بدت مخيفةً وكأنها تهدد من ينظر إليها. كان السائق يحدّق في التواءات حديد البوّابة باندهاش، رفع حاجبيه وهو يلتقط النقود من يد الجدّ الذي رمقه بصرامة وهو ينصت إليه وهو يقول:
- بوابة رائعةٌ وبيت أنيق.

أنطلق السائق مبتعدا ومتبوعا بنظرة تبرّم من الجدّ، وكأنّ السائق قد طالع للتوّ إحدى نسائه المختبئة في خدرها! حمل "أنس" حقيبته الجلدية على ظهره، ورفع الأخرى بيده عن الأرض ثم دلف مع جدّه من البوابة وسارا معا فوق ممر ضيف مرصوف بالحجارة بين صفّين من الأشجار القصيرة على الجانبين. وقفا أخيرا أمام باب البيت المصنوع من خشب الزّان العتيق، أخرج الجدّ مفتاح الباب من جيبه ليفتح الباب بينما كان "أنس" يتفحص النقوش الغريبة التي كانت تتوسط الباب والمطعّمة بقطع دقيقةٍ من النّحاس. انعكس الضوء عليها فتلاعب بريقها الذهبيّ بعيني "أنس" الذب قال باندهاش:
- تلك النقوش بديعة حقا، لا أدري لماذا لم أنتبه لها من قبل!

رمقه الجدّ بطرف خفيّ ولم يعلّق، ثم دفع باب البيت بحرص فأصدر أزيزًا مزعجُا ليس غريبًا عن "أنس" بل ربما يشتاق إليه، أسرع "أنس" بخطى واثبة وألقى بحقيبته بجوار الحائط ووقف في وسط ردهة الاستقبال وفتح ذراعيه ودار حول نفسه وكأنه يحتضن أجواء البيت ثم قال بمرح:
-كم أُحبّ هذا البيت....أُحبُه كثيرًا.

ابتسم الجدّ وقال بودّ:
- هو بيتك يا حبيبي، وبيتكم جميعًا.

فاجأهما صوت ارتطام قوي، سقط شيء ما على الأرض. أسرع الجد إلى غرفة المعيشة وتبعه "أنس"، كان هناك كتاب على الأرض وحوله تبعثر حطام جزء من تمثال رائع من خشب الأبنوس الأسود لشجرة عجيبة، انحنى الجد وأمسك بالجزء المحطم، كان فرعًا من فروع الشجرة، بدت على وجهه علامات القلق وجال بعينيه في الغرفة وكأنه يبحث عن شيء ما، انحنى "أنس" والتقط الكتاب، تأمّل غلافه الجلدي الباهت بتعجب، كان لونه يشبه لون التراب المبتل بماء المطر، شابته لفحات من لون يشبه قشر البرتقال الجاف، أمّا الأوراق فقد بدت صفراء عتيقة.
        وقرأ عنوانه بصوت مسموع:
-"أبادول"..... ماذا تعني تلك الكلمة يا جدي؟

إيكادولي ل د.حنان لاشينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن