[٤]

88 3 0
                                    

"ناردين"

هنيئًا لهؤلاء الذين ينسون سريعًا، الذين لا تنطبع على نفوسهم بصمات الآخرين، مازالت "ناردين" تشقى بقلب لين كالصلصال؛ كلما لامسته روح أحدهم في موضع غاصت فيه احترق من حرارة تعلّقها بتلك الروح وجفّ ليحفظ تلك الذكريات، أصبح فؤادها كالقالب، ذكرى ذكرى منقوشة فيه، ندبة ندبة تتحسسها فتوجعها، نقوش تحكيهم، هؤلاء الذين عبروا من بين ضلوعها، ولن تفنى أبدًا تلك العلامات إلا بموتها، ليتها تنام طويلًا وتنسى كلّ شيء في الصباح.

نشأت "ناردين" في أسرة صغيرة من الفلاحين البسطاء، كانوا يعيشون في السهل الكبير الذي يتوسط قرى مملكة الجنوب التي تناثرت حولها تلك القرى وكأنّها حفنة من النجوم حول القمر، كانت القرى صغيرة وسكانها متشابهون لكنّهم متفرقون، لو استطاعوا ملء الفراغات بين القرى ببناء عدّة بيوت لاتصلت وأصبحت كيانًا واحدًا عظيمًا، أو حتى يحولونها إلى ممرات ويرصفون أرضها بالحجارة ويتنقلون بين القرى بالعربات، لكن لكل قرية معتقداتها ولسكانها طباعهم الخاصة، يقولون إنّ البعض حاول أن ينتقل من قرية لأخرى لكنه لم يتمكن، أخبرها أبوها بأن هناك من لفظ أنفاسه الأخيرة على حدود قريته! وكأنّ روحه تأبى الخروج من الحدود، تستطيع أن تخرج وتعود للتجارة أو غيرها، أمّا أن تعقد العزم على هجران أرض القرية وتبيع دارك ثم تحمل متاعك للرحيل فأنت هالك لا محالة، وكأنّها لعنة أصابت سكان المملكة جميعًا.

كانت صغيرة عندما استمعت لأنين الأشجار لأوّل مرّة في حياتها، في الخامسة ربما أو السادسة من عمرها، كان هذا عندما صحبها أبوها للغابة ليجمع بعض أوراق النباتات العطرية التي يستخدمها في صناعة الأدوية والوصفات التي يبيعها في دكان العطارة الخاصّ به، أحبت "ناردين" جمع أوراق الريحان فقد كانت رائحته تعلق بملابسها وكفيها الصغيرين، كما كانت تفضل جمع إكليل الجبل نظرًا لأهميته الشديدة بالنسبة لأبيها، فقد أخبرها أنّ أوراقه تنشّط القلب، وشرابه الساخن يزيل الصداع ويعالج غازات البطن، كما أن زيته يفيد الأطراف المرهقة لو دلّكت به، أحبت رائحته التي تشبه رائحة الصنوبر، كانت أمها تغلّف اللحم به أحيانًا قبل أن تقوم بشيّه، كان يضفي نكهة لطيفة للحم وكانت هي تحبّه كثيرًا، حتى أنها دهنت بشرتها بزيته..كم كانت أمها جميلة! لا تدري لماذا لا تشبهها. كانت تجمع الأوراق لأبيها وتحتفظ بالأغصان فقد أوصتها أمها أن تجمع بعضها لتحرقها في أركان البيت فلها رائحة عطرية جميلة، وبينما كنت تضع الأغصان في جراب من القماش كانت تلفه فوق خصرها سمعت هذا الأنين، انتفضت حينها وصرخت، ألقت الأغصان ووقفت تحملق فيها وهي تئن، استمر أنينها فأدركت أن الصوت صادر منها بالتأكيد، حملتها مرة أخرى ومسحت عليها بحنانٍ كطفل رضيع فسكنت، وكأن بينهما وشيجة ما تربطهما! تفهم همهماتها وتفهمها.

دستها في جرابها وسارت بين أشجار الغابة فإذا بفروع الأشجار تنحني وتقترب منها، تلامس بشرتها بلطف وكأنّها تحييها ثم تعود لهيأتها، وعندما يقترب أبوها أو أحد رفاقه تسكن وكأنّ شيئًا لم يكن. أخبرت أباها لكنه لن يصدقها، وأخبرت أمها فوصفتها بالمجنونة، تكرر الأمر وكانت تخبرهم فيسخرون منها فتوقفت عن إخبارهم بما تراه وتسمعه وتشعر به، وأصبحت تعشق السير في الغابة وحدها، حتى أنها أحضرت نبتة صغيرة من تلك الغابة ووضعتها في أصيص بدارها وصارت تحدثها كثيرًا وتخبرها بأسرارها، مرّت السنون ومات أبوها فجأة وبعده مرضت أمها مرضًا شديدًا ثم لحقت به، وتزوجت "ناردين" من شاب كان يعمل مع أبيها في دكان عطارته، أخبرته بأمر النباتات التي تحدثها فغضب وظنها مريضة وتهلوس بسبب الحمل، فبدأ يسقيها منقوع الزعتر والزنجبيل وداواها بخلطة مميزة قام بصنعها خصيصًا لها لكي تبرأ من الهلوسة فتوقفت عن الحديث معه عن أمر النباتات فعاد لحنانه وحبّه لها ونسي الأمر، أنجبت بعدها ولدها الوحيد وقتل زوجها في شجار عنيف وكانت لا تزال ترضع وليدها، انفطر فؤادها ولم تفلح في مداواة جرح قلبها بالعطارة، لكنها داوته بالحب والرضا، حب ابنها وقرّة عينها وشبيه أبيه فصبرت عليه طويلًا طويلًا.

إيكادولي ل د.حنان لاشينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن