لمح "أنس" طيفًا يمرّ قريبًا منه قد افترش ظلّه على الأرض وقبل أن يلتفت نحوه فوجئ بخبطة على كتفه فالتفت متأهّبًا وأمسك بذراع هذا الذي باغته فجأة من الخلف وسحبه ثم انقلب به على الأرض واضعًا ركبته فوق صدره وقابضًا بأصابعه العشرة على رقبته، ابتسم الشاب بسخرية وقد فتح كفّيه مظهرًا استسلامه الكامل ل"أنس" وقال بصعوبة من أثر قوة قبضة "أنس" على أنفاسه:
- مهلًا يا رجل، وددت فقط أن أُرحّب بك.خفف "أنس" من قبضته وتركه وتراجع إلى الخلف، تحسس الشاب رقبته وقال بنظرة ماكرة:
- يبدو أنّك تمارس الرياضة، أليس كذلك؟
- من أنت؟ وماذا تريد؟
- أين تعلّمت تلك المهارات؟ هيّا أخبرني؟حدّجه "أنس" بنظراته، بدا وجه الشاب يحمل مسحة من الوسامة بشعره البنيّ، وبشرته الباهتة وفكّه العريض، وتلك النظرة الساخرة التي تُطلّ من عينيه الضيقتين، لكن تلك الملامح جعلت "أنس" يرتاب منه. كان يظنّ أنه سيلتقي بأناس سمر البشرة وبملامح نوبية، كتلك التي قرأ عنها ورآها من قبل. سأله متجاهلًا سؤاله الأخير قائلًا:
- ما اسمك؟
- أنا "شهاب" وأنت؟
- "أنس".
بدأ "شهاب" يدور حول "أنس" ويتأمّله بتمعّن ناقلًا عينيه من أخمص قدميه وحتى قمّة رأسه، ثم قال باستخفاف:
- تبدو غريبًا عن المكان، ألك صديق هنا؟
أجابه "أنس" بتحفّز:
- الرمادي.
- ذاك الكهل الأحمق.
شعر "أنس" بالإهانة وكأنّ السبّة وجهت له، فأخفى غضبه وسأله:
- وهل تعرفه؟
- أنا أعرف الجميع هنا...حتى ذاك الكهل البغيض.
بدأ كلاهما يدور حول الآخر، سأله "أنس" بترقّب:
- هل...أنت مثلي!خرجت من "شهاب" قهقهات عالية، اسغرقته للحظاتٍ قبل أن يقترب منه حدّ ملامسته وقد شَخَضَ فيه بسحنة متوّعدة:
- لستُ مثلك!
ثم تغيرت ملامحه الضاحكة فجأة وصارت صارمة، وقال وهو يتراجع إلى الخلف:
- أنا لست مثل أحد...أنا مختلف! أنا مميّز.التفت "أنس" تجاه الطريق الممتد أمامه بين الأشجار ورماه بنظرة خاطفةٍ ثم قال بهدوء محاكيا طريقة "شهاب" في الكلام:
- كيف تعالج الأمور هنا؟
- أيّ أمور؟
طاف "أنس" بنظراته في كلّ اتجاه ثم قال:
- كلّ شيء...أود أن أعرف ما دوري.
- ليس لديك دور هنا، أنت مجرد شاهد.
- على ماذا؟
- على ما ستراه هنا من أحداث.
- لا أظنّ.
- ومن أنت حتى تظن أو حتى تفكّر!
تجاهل "أنس" نَبرة الاستخفاف التي شابت الكلمات، وتخطاها قائلًا:
- لكلّ منا دور في حياته وحياة الآخرين، كل كلمة ننطق بها وكل فعل نفعله.
- لكن الأمور هنا ستسير رغم أنفك على طريقة لن تحددها أنت.
- صحيح، وهكذا الحياة كلّها، لكن لا تخبرني أننا هنا لنراقب في صمت كالجمادات.ران عليهما الصمت للحظة، بدا فيها "شهاب" وكأنّه يجترّ بعض الذكريات قبل أن يقول بنَبرة تشوبها المرارة:
- أتدري، ربما أنت على صواب.. كلمة (مسئول) قد تقلب حياة شاب، كلمة (خبيثة) قد تفرق بين اثنين، وإشاحة بنظرة قد تعني (أكرهك).
رمقه "أنس" وقرأ على وجهه الآلم فتحرك تجاهه وقال:
- والتفاتة قد تعني الحب، مجرّد الحضور في موقف ما قد يعني الكثير لآخرين دون أن ندرك هذا، لكنهم يدركون، حتى الصمت أحيانًا إن كان في موضعه الصحيح فله دور.
- حتى إساءتنا لآخرين؟
- نعم.. حتى إساءتنا لآخرين وإساءتهم لنا، أنت مثلًا قد تعزم على إزاحة جبل لكي تثبت لمن آذاك وأساء إليك أنه على خطأ، نحن نتعلم في مدرسة الحياة ومازال أمامنا الكثير من الدروس.
ابتسم "شهاب" وقال وهو يهزّ رأسه إعجابًا:
- تبدو حكيما يا فتى، بدأت أحبك.
ثم عاد يتفحّص وجه "أنس" قبل أن يقول وهو يحكّ أنفه:
- كم عمرك؟
- ثلاثة وعشرون عامًا، وأنت؟
- خمسة وثلاثون عامًا.
ثم سكت هنيهة وقال ل"أنس":
- هل...تحب أن تأتي معي؟
- إلى أين؟
- حيث أقيم.
- لكنني لا بدّ أن ألتقي الملكة أوّلًا.
- الحوراء؟
- نعم هي "الحوراء"
ما كادا ينهيان الكلام حتى تناهى إلى سمعهما صوت حوافر الخيول وهي تضرب الأرض، أفزع صهيلها "شهاب" الذي تلفت في اضطراب ثم شهق وقد كست وجهه علامات الرهبة وركض سريعًا وشق الطريق بين الأشجار وكأنّ الموت يطارده! تبعه "أنس" وهو يتساءل عن سبب فزعه، أصابته عدوى الفزع لمجرد رؤية نظرات "شهاب" الشاخصة ثم شهقته التي جعلت "أنس" يرتبك بشدة، كان "أنس" يركض وعينه على رأس شهاب.في تلك اللحظة، ارتفع صهيل الخيول ثم علت أصوات حوافرها وأصدرت شرارة وهي تقدح الأرض التي انتقلت إليها للتو بعد أن غادرت البستان المجاور للغابة، كانت تلك الأرض تبدو كشريط عريض يفصل بين البستان والغابة التي ركض فيها "أنس" خلف "شهاب"، لم تتحرك الخيول خطوة واحدة، وقفت صفًا واحدًا على ذاك الشريط الحجري الفاصل بين الجهتين، وهي تنظر تجاه "أنس"، صاح "الزاجل الأزرق" بصوته الجهوري:
- يا إلهي.. تأخرنا!
ثم قال بتوجس:
- بدأت رحلته دون أن يسمع منّا!!⬜️⬛️⬜️⬛️⬜️⬛️⬜️⬛️
مالت الشمس فانزاح النقاب عن وجهها بحياءٍ فأضاءت شرفات القصر، جلست "الحوراء" في ديوانها بوقار، حيث كانت ترتدي برنسًا مرصعًا بالجواهر تتدلّى منه سلسلة ذهبية مطعّمة بالأحجار الكريمة، ثيابها البيضاء الواسعة تشعر من يراها بمهابةٍ وسكينةٍ كانت تلف رأسها بوشاح أبيض وقد انسدل من فوق رأسها شال طويل غطى كتفيها وقد لفّته باحتشام على صدرها. عجوز كانت .. لكنّها جميلة!
استأذن أحد رجال الديوان وقال بعد أن حيّاها بإجلال:
- مولاتي شغب بعضُ الجند في المنطقة الشرقية... ماذا سنفعل؟
أشارت "الحوراء" للكاتب الذي كان جالسًا بالقرب منها وعلى يمينه الدواة والقلم وأمامه الأوراق متأهّبًا ليكتب ما ستقوله وقالت:
- لا يُلبُّوا على الشغب، ولا يُحوَجون فيما بعد إلى الطلب.هز رجال الديوان رءوسهم وهمهموا موافقين، مرت لحظات ناقشوا فيها كيف يكفون حاجة الجُند حتى يتفرغوا لما هو أهم، وهو حماية "مملكة البلاغة" من الأعداء، ثم قال أحدهم:
- إن أهل المنطقة الشرقية رفعوا مظلمة يشكون فيها عاملًا هناك.
أشارت "الحوراء" مرة أخرى للكاتب ليدوّن خلفها وقال:
- أرسل لهم..."عيني تراكم،وقلبي يرعاكم"وأمرت "الحوراء" بإرسال من يتحقق من الأمر ويعود إليها، ثم التفتت إلى أحد رجال القضاء الذي قال وهو يرنو لرجل يقف بعيدًا يراهم ولا يكاد يسمعهم:
- مولاتي لقد قمت باستدعاء والي المنطقة الغربية كما أمرتِ وهو يستأذن بالدخول.
- أذنت "الحوراء" له بالدخول وبعد أن ألقى عليها السلام
قالت بحزم:
- أخربت البلاد، وأهلكت العباد؟
فقال الوالي مرتبكًا:
- يا مولاتي، ما تحبِّين أن يفعل الله بكِ إذا وقفتِ بين يديه، وقد قرعتك ذنوبك؟
فقالت الحوراء:
- العفو والصفح.
قال الوالي بلهجة يشوبها الإحساس بالذنب:
- فافعلي بغيرك ما تختارين أن يُفعل بك.
صمتت "الحوراء" لوهلة ثم قالت:
- قد فعلت، ارجع إلى عملك فوالٍ مستعطف خير من والٍ مستأنف.
أسرع الوالي بالانصراف وشيّعه رجال الديوان بأعينهم ثم قال أحدهم فور أن انصرف:
- حقًا يا مولاتي إنّك من أفضل حكّام المملكة حلمًا.
قالت الحوراء:
- وأنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه.فرغ الرجال من باقي مراسيمهم، وانتهى وقت الديوان وعادت "الحوراء" لقصرها واتجهت إلى صالة واسعة حيث كان الجميع يستعدّون للاحتفال بمناسبة هامّة.(١)
⬜️⬛️⬜️⬛️⬜️⬛️⬜️⬛️⬜️⬛️
١- بعض العبارات في حوار ديوان المملكة مقتبسة من حوار الخليفة المأمون في ديوانه.
أنت تقرأ
إيكادولي ل د.حنان لاشين
Fantasyسعف النخيل يظلل الأفق من بعيد وكأنه سحاب أخضر. صيحة غريبة صمّت أذنيه ثُمّ شعر فجأة بمخالب تقبض على كتفيه، فرفع بصره ورأى طائرًا عملاقًا يبسط جناحيه مظللًا فوق رأسه ،تسارعت أنفاسه وهو يطير على ارتفاعٍ شاهق فوق وادٍ عميق يقطعه نهر ماؤه رقراق زمرّدي ال...