فهم دابل

21 4 1
                                    

"العالم داخل رأسي أقسم أنه أكبر من العالم الذي بالخارج. هناك، في تلك العوالم السرية التي لا يراها أحد، تتشابك الأفكار كنجوم في مجرة بعيدة، تتوهج حينًا وتنطفئ حينًا آخر، لكنها لا تتوقف أبدًا عن الدوران. التفكير المفرط هو تلك العاصفة التي لا تهدأ، هو بحر لا شواطئ له، تسافر فيه بأشرعة مشتعلة، تفتش عن يقين في محيطات من الشك. إنه ذلك الصراع الأبدي بين ما تراه العيون وما يتخيله القلب، حيث الأحلام تحلق بلا قيود، لكن الجاذبية دائمًا تعيدها إلى الأرض.

التفكير المفرط هو أن تحمل العالم كله على أكتافك بينما تقف وحدك تحت سماء فارغة، أن تتحدث مع نفسك كما لو أنك تحاول إقناع عدو، أن تكتب قصائد عن أشياء لم تحدث، وتبكي على خسارات لم تأتِ بعد. إنه شعور بأن الكون كله يتقلص داخل رأسك، فيصبح ثقله لا يحتمل، ومع ذلك، لا تستطيع أن تفرّ منه. كل فكرة تولد فكرة أخرى، كأن عقلك غابة مترامية الأطراف، كلما دخلت فيها أكثر، ازدادت ظلالها غموضًا، وازدادت جذورها تعقيدًا.

لكن في وسط هذا الجنون، هناك شيء ساحر. التفكير المفرط هو أيضًا ذلك النبع الخفي الذي يولد منه الإبداع، هو الألم الذي يكتب القصص، هو الحزن الذي يلون الموسيقى، وهو الحب الذي لا يهدأ أبدًا، لأنه يعيش في كل زاوية من زوايا العالم الذي بداخلنا."

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان إيفيان ممسكًا رأسه بألم، نصف شعره يلتف حوله رباط ضيق، بينما النصف الآخر يتدلّى كشلال جامح يعانق جبهته ويهمس لجانبيه، حتى أن عينيه الخضراوين، كغابة زمردية مظلمة، بدتا وكأنهما تراقبان ما لا يُرى. لم يكن الألم الذي يشعر به جسديًا فحسب، بل امتزج بالخيانة، خيانة متجددة أشبه بالطعنة القديمة التي تأبى أن تلتئم.

تحدث إلى نفسه بصوت خافت، كما لو كان يخشى أن يسمعه قلبه الموجوع: "خيانة أخرى، ولكن هذه المرة... نفسي هي الخائنة."
مرّر يده على وجهه بتعب، مستعيدًا ذكرى الشخص الذي كان يومًا عزيزًا على قلبه. اندريا... نطق اسمها وكأنه نغمة موسيقية مهجورة. "دو ري مي... بحق الجحيم، ما الذي أفكر فيه؟!" فجأة نهض بحركة عنيفة، وأطاح بالطاولة القريبة من سريره، لترتطم بالجدار بعنف محدثة شرخًا كان ليقسم أي كائن يقف هناك إلى نصفين.

كان يشعر بتلك الغصة العالقة في حلقه، تسأله بصوت خفي: لماذا لا تزال تفكر بها؟ أقسم أنه كان يسكر بمجرد وجودها. حتى الهواء الذي تتنفسه كان بالنسبة له أعظم من أرقى أنواع الخمر. لكنه الآن... الآن يتكسر. يتكسر كرجل يحمل كأسًا مكسورًا، يشرب منه شظايا الأمل.

طرق الباب قطع خيوط غفوته المتوترة. صرخ بصوت غاضب: "من لعنتك؟!" رد صوت خلف الباب مرتجفًا: "سيدي، شخص ما جاء لمقابلتك."
أخذ نفسًا عميقًا وكأن الهواء كان يتخلله شوك: "دعه يذهب إلى الجحيم."
لكن الرد جاء خائفًا: "سيدي... لديه أمانة ليسلمها."

Darkside♕ جانبي المظلم حيث تعيش القصص. اكتشف الآن