حكايتي كانت من الحدباء ام الربيعين الخضراء في قدها , المبهرجة في زينتها , العروس في لياليها , الزاكية في عطورها , الانيقة في عمرانها , الطيبة بـ ناسها , الحلوة في خلانها ..... حكايتي من الموصل .
كنت فتاة صغيرة مدللة و الوحيدة لوالدي أحظى بالأهتمام المفرط والحنان الفائض ولا ينقصني أي ناقصة .
كانت امي لا تزال تحتفظ بشبابها ورونقه وتحمل من الجمال ما تحمل وكانت تعاني قليلا من بعض الوزن الزائد لم تكن تعي ما يحصل لها في ذلك الوقت ...
فبمرور الايام والاسابيع و الأشهر لاحظت انخفاض وزنها بدون أن تسعى هي او تجتهد في ذلك بالتأكيد أسعدها النزول هكذا ولكنها لم تستفسر عن سبب هذا النزول وهذا ما جعل الامر يتفاقم دون ان تدرك . فمع مرور الايام بدأت امي تذبل ويخبو بريقها وبدأت الاوضاع تزداد سوءا يوما بعد يوم حتى اخبروني بالنهاية أنها تعاني من ' مرض عضال ' لم أكن افهم ما يعنونه بذلك الوقت فما هو مرض العضال بالنسبة لطفلة صغيرة لا تفقه شيئا من هذه الحياة القاسية التي تود حرمانها من امها !!
كان الامر يقطع قلبي كلما رأيت امي فقد بدأت بالنحول اكثر وغارت عيناها في المحجر وبدأت عضام وجهها تضهر اكثر واكثر عن ذي قبل وشعرها الأسود اللامع بات خصلات صغيرة فقط و كلما كانت تراني امامها ألعب يفيض ماء عينيها حسرة و تهم بأحتضاني والبكاء بصمت ولكني كنت أشعر بدموعها التي تتساقط على وجهي ....
لم يطل الأمر اكثر من ذلك فقد تجرعت المرارة اكثر ونال المرض من جسدها و أخذها الموت منا وهي متألمة وفي قلبها غصة على ابنتها التي تركتها يتيمة .........
مضت السنة الأولى وكانت سنة مؤلمة فمع ذهابها ذهب كل جميل في حياتي و محيت السعادة من سجل أقداري فلم يطق أبي صبرا على تحمل حياتنا الموحشة وكان بحاجة ماسة الى امرأة ترعاه وترعى بيته وتكون ام لأبنته لذا فقد أتخذ قرار الزواج وطلب من معارفه و الأقارب البحث عن زوجة مناسبة له ولوضعه ولم يطل الأمر طويلا حتى أخبروه عن امرأة مناسبة لتكون زوجته ولم يعترض ابي وتم الزواج بأسرع ما يمكن !
وجاءت العروس الجديدة وجاءت معها أقداري المؤلمة كنت صغيرة على فهم الحياة وخفاياه وعلى فهم البشر و قلوبهم المظلمة . كانت الأمور بخير في أول سنة فكنت أتقبل طلباتها بأدب و أستمع الى كلامها دون أعتراض احتراما لها ككونها في مقام خالة أو عمة لي و لكن ما أن أصبحت هذه الخالة أم و رزقت بطفلها الأول تغير كل شيء حتى أن أبي قد تغير كما تغيرت ايامي ... لقد باتت زوجة ابي أكثر تسلط وأكثر جبروت و خصوصا بعدما ارتبط ابي في عمل اخر ليستطيع توفير احتياجات المنزل فعمله الوحيد لم يكن يدر بالمال الكافي لسد حاجات زوجته وابنه الجديد .. فأستغلت زوجة ابي غياب والدي عن المنزل و أنشغاله عني فقامت بأكبر عمل ضالم لي وهو أجباري على ترك المدرسة بحجة أني غبية و فاشلة و ميئوس مني ... أنا حقا لم أكن غبية و لكني كنت أحتاج ألى شخص يتابعني و يشرح لي ما أستصعبه في المنزل و لكن أين عساي سأجد هذا الشخص ..
بعدما تركت المدرسة أصبحت خادمة لها رسميا أقوم بواجبات المنزل كلها على رغم صغر سني وكانت لا تتوانى عن ضربي في كثير من الأحيان أذا ما أخطأت و في مرة تمادت في ضربي فلم أستطع السكوت و الصبر وشكوت أمرها لوالدي و لكن و الدي برر لها وقال لي :
" لا بأس يا أبنتي أنها في مقام أمك ..هي لا تكرهك ولكنها تفعل ذلك من أجلك حتى لا تعيدي خطأك من جديد ... لا بأس يا عزيزتي فلتكوني متسامحة هذه المرة من أجلي ! "
عندما قال ذلك أيقنت أن ابي لا يريد صنع مشاكل معها و لا يود أن يستمع للمشاكل داخل المنزل فما يراه في الخارح من المتاعب و المشاق يكفيانه تماما فأستسلمت لأمري و كبرت وكبرت معي الامي المدفونة في صدري ...
عندما اتممت الخامسة عشر كان الاخ الثالث قد شرف بحضرته الى بيتنا وكنت انا المربية والحاضنة لتلك العائلة .. كانت أعمالي الرتيبة اليومية تخنقني وتقتلني بعبرتي فلا يوجد من أتكلم معه أو أقضي بعض يومي معه أو حتى اشكي له و أبوح بما أخفيه في صدري من هموم فلم يعد لي صديقات و لم يبق لي أقارب ليسألوا عني ! لذا لم يكن لي سوى أمي الحنونة الذي حرمني منها الزمان ولم يترك لي وقتا طويلا أتنعم بحنانها الدافي ... كنت أذهب ألى أخر ذكرى له وما تركته قبل مماتها .
في أيام حياتها كانت تحب صنع تنور من الطين _ اشبه بفرن لصناعة الخبز ولكنه مصنوع من الطين و وقوده الخشب و بمخلفات الاشجار والأغصان - وكان عمله لم يكن سهلا أبدا و يحتاج ألى وقت لذا بادرت في صنعه في الباحة الخلفية و المتروكة في المنزل و لكن لأن المرض هاجمها في فترة مبكرة لم تتم عمله و بقي شكله ناقصا ولم تستطع أكماله و لم يكمله أحد من بعدها ...
لذا كنت اشم فيه ريح أمي و أستنشق عبق الماضي كلما جلست عنده وحيدة حينما يفرغ علي البيت و أبقى فيه لوحدي .... فكانت تمضي علي بعض الأيام و أنا لوحدي في منزلي عندما تغادر هي و أبناءها لزيارة منزل عائلتها و بحكم عمل والدي فأني كنت أبقى حبيسة المنزل و ممنوع علي مغادرته فكنت ارمي بثقال حزني بجانب هذا التنور .
في يوما من الأيام و عندما كان عمري في السادسة عشر تقريبا كنت عند المطبخ أغسل أواني مائدة الغداء كالعادة ولم تكن ألا ضربة قوية من الخلف و على رأسي ففزعت و ألتفتت و وجدتها خلفي و تنوي أن تضربني بعد فقهرت على نفسي و تجمع الدمع في عيني و صرخت في وجهها :
- لماذا تضربينني ! كفي عن فعل ذلك .
- و تصرخين في وجهي أيتها الوقحة ... لا عتب على ذلك فأنت قليلة تربية و أحترام ... ألم اقل لك بالأمس قومي بغسل الملابس المتسخة لماذا لازالت كومة الغسيل تلك في مكانها ! لماذا لم تقومي بعملك ! لماذا لا تستمعين ألى الكلام ألى متى أنا أقوم بتعليمك النظافة .
- قومي بتعليمها لنفسك اولا ... أنها ملابسك المتسخة لم علي غسلها انا ثم أنك جعلتني اقوم بتنظيف العلية بأكملها بالأمس فأي طاقة تتوقعين أنها لدي حتى اقوم بغسل ملابسك بعد العمل الشاق الذي رميتيه علي .
- أنك حقا فتاة و قحة !
و صفعتني على وجهي صفعة قوية مؤلمة تركت أثر اصابعها احمرار على وجهي الابيض الملون بغبرة الألام المكبوتة .
غادرت و أخذت معها أطفالها الثلاثة أغلقت باب المنزل علي وتركتني حبيسة احزاني و انكساراتي التي لا تنتهي فأنفجرت باكية على ضليمتي و كنت بحاجة ألى احد لمواساتي فلم أجد غير التنور هو محراب صبري فرحت ابكي و أنا اتحدث أليه و كأني أجالس أمي أفرغت كل ما في جعبتي و تحدثت عن كل ما يهمني و يكسر خاطري و أطلت البقاء هناك حتئ شارف الغروب و عندما كلت عيناي من البكاء و و جفت دموعي سكت وهدأت ولم يبق ألى تنهدي المثقل بأستسلامي و خيبة أمالي الكاتمة على صدري .. و في تلك اللحظات أتاني صوت من خلف الجدران :
- و أخيرا !! لقد كففت عن البكاء أخيرا .... يا أللهي أي طاقة هذه التي لديك حتى تبكي بهذا القدر .... لقد تصدع رأسي .
ثم ضهر شخص من خلف الحائط و لم أرى ألا وجهه الذي بالكاد رأيته لأرتفاع الجدار فيما بيننا فنزل من عنده بسرعة و لا اعرف ما جرى و لكن كنت أسمع بعض الضوضاء عنده حتى أخيرا عاد ليضهر لي و يقف عند الحائط و لكن هذه المرة قد رأيته جيدا فقد أصبح أعلى أرتفاعا فنظر ألي معاتبا على الصداع الذي سببته له وكنت أبادله نظرات الخوف و الاندهاش فأنا لا أعرف هذا الفتى حقا ثم قال لي :
- لماذا كل هذا البكاء هل لديك فائض بالدموع حتى تفرغيه هنا !
- لماذا تتدخل ألا يحق لي حتى البكاء في بيتي !
- وهل فقدتي عقلك حتى تبثي شكواك ألى الحائط هل ترين أشباح يا ترى .
- أنا لا اشكو همي ألى الحائط أنا أشكو لأمي اجلس بجانب هذا التنور الذي صنعته قبل أن تموت .
فأشرت ألى التنور بسبابتي و نظر هو أليه ثم عاد لينظر ألي و أطال النظر و كأنه يتفكر في ما سمعه لكني خجلت من أن أطيل النظر اليه هو الإخر فأبعدت نظري ولم أتكلم بشيء عندها قال :
- حسنا من الأن و صاعدا فلتشكي همك لي ... البكاء عند شخص حي أفضل من البكاء للحائط .
- قلت لك لا أبكي للحائط !
فمد يده نحوي وقال :
- لنبدأ عقد صداقة فأنا ليس لدي صديقة أنثى .. اسمي ليث !
وجدت يدي لا شعوريا تذهب نحو يده و تصافحها بمحبة و قلت له و ينتشيني شيئا من الأمل في هذه الصحبة الجديدة :
- أسمي ريام .. و ليس لدي أي صديق !
ضهرت بعض الدهشة في وجهه و لكنه أردفها بأبتسامة حنونة فسألني عما يحزنني وكنت سعيدة لأشجو لأحدهم أحزاني .
أنت تقرأ
احكي يا شهرزاد
Krótkie Opowiadaniaروايتي عبارة عن قصص مختصرة بأسلوب سهل وسلس يحكي عن قصص واقعية لأناس واقعيين عاشوا احداثها بحذافيرها بحلوها ومرها عن الحب والغرام ، وعن الخيانة والغدر بعد العشق والهيام. عندما سمعتها لأول مرة بكيت كثيرا حتى ان احد القصص قد حرمتني النوم من شدة القلق...