( تيماء ...... اريد تيماء في الحلال يا حاج , سآخذها و نرحل من هنا للأبد ...... )
قبل حتى أن ينهي احرف عبارته القاطعة .... استطاع أن يلمح الرفض في عيني جده .....
الرفض الممتزج بصلابة قد يكون ورثها عنه ....
تحفزت عضلات قاصي تلقائيا وهو يرى الرفض قبل أن يسمعه ...... و أوشك العصيان أن يعلن أكثر نوباته تهورا ... الا أن جده بدأ كلامه قائلا بهدوء و رزانة
( لا يا قاصي ...... تيماء ليست لك يا ولدي ....... )
لم يرد قاصي على الفور .... للحظات كان وقع الكلمات الهادئة على أذنه أشد وطأة من توقعه قبلها ....
لذا استقام واقفا ببطىءِ من جلسته ... و عيناه بعيني جده في تحدٍ صامت ناري ....
قبل أن يقول بصوتٍ هادىء ... خطير في نبرة التحفز التي ظهرت به و كأنها الهدوء الذي يسبق العاصفة ...
( تيماء قدرت لي منذ البداية يا حاج سليمان .... و أنا لن أتخلى عنها ..... )
رفع جده ذقنه كي ينظر الى قاصي المشرف عليه من علو .... ليقول بصوته المهيب دون أن يفقد ذرة من هدوءه
( هل ألمح في صوتك نبرة التهديد يا قاصي ؟!! ..... أنت تتحدث عن الزواج بإحدى بنات الرافعية .... أي أنك لا تطلب مجرد فتاة ... بل تطلب الإقتران بقبيلة كاملة , لذا لا مكان للتهديد ... لا مكان للأهواء ....و حتى القلوب لو عارضت القانون ..... )
تصلب جسد قاصي و انقبضت كفاه حتى حفرت أظافره في راحتيه عميقا .... لكنه حين تكلم قال بصوتٍ غير مقروء الا أنه شديد البأس وهو يواجه جده
( و ما هو القانون الذي عارضته في طلب الزواج من تيماء ؟! ....... )
صمت جده و لم يرد .... لكنه لم يخفض وجهه و بقت عيناه الرماديتين بفعل الزمن في مواجهة عيني قاصي الناريتين .... و قبضته ممسكة برأس عصاه بثباتٍ دون أن تميل ....
حينها ابتسم قاصي دون مرح ..... ابتسامة اقرار قاسية وهو يتابع قائلا
( النسب !! ...... لا تستطيع أن تمنحني النسب يا حاج سليمان لذا فأنا لا أليق بتيماء .... اليس كذلك ؟؟ ... )
لم يكن يسأل ... بل كان يقرر واقعا مريرا , ظهرت مرارته في صوته رغم قساوته الصخرية ...
للحظات اطرق الحاج سليمان بوجهه وهو يستند الى عصاه المنتصبة ...
و ساد صمت طويل قبل ان يقول سليمان
( بعض الأمور لا تستوي يا قاصي يا ولدي .... حتى أنا لا أملك عليها سيطرة .... )
صمت عدة لحظات ثم عاد ليرفع وجهه الى قاصي قائلا
( الأمر يوجعني ..... و أعلم بالظلم الذي تعرضت له , الا أنني لا أستطيع مخالفة اعرافنا ..... تيماء بنت الرافعية هي من ستحمل وريث جديد .... و لقد سبق ووهبتها ارض من ارضي .... فالإناث لدينا لا ترث الأرض كما تعرف ..... و لهذا مصير هذه الأرض يجب ان يعود للرافعية ..... )
استعرت عينا قاصي وهو يستمع الى جده ... ثم قال بصوتٍ باتر كشفرة من الصلب
( الأرض ..... أهم من أرواح و قلوب ..... )
رفع سليمان وجهه ليقول بهدوء
( بل الأرض هويتنا ..... تحمل جذورنا و عليها نشأ نسلنا من جدود الجدود ..... الأمر أكبر مني يا قاصي يا ولدي ..... )
كانت قاصي يتنفس بسرعة ... و عيناه تشتدان سعيرا ... و قبضتاه تزدادان انقباضا ....
قبل أن يقول بصوتٍ خافت متردد كصفير الريح في مكانٍ خاوٍ مهجور
( و لماذا مسك اذن ؟!! ............... )
كانت الإجابة واضحة .... و شعر قاصي بالدناءة للسؤال , حيث أنه يعرف الجواب جيدا ...
لكنه كان في حاجةٍ لأن يضع مرآة واضحة لجده أمام نفسه بكل قسوة وواقعية ....
الا أن وجه جده لم يتغير ... لم يهتز لكن عيناه انخفضتا قليلا مما جعل قلب قاصي يشفق عليه للحظة ...
فهو يعلم جيدا مدى غلاوة مسك عنده .... لكن ...
رفع سليمان وجهه ليقول بهدوء
( تعرف الجواب يا قاصي .... و مع ذلك أنت من القسوة بحيث تريد مني النطق به , لا بأس اذن .... سأقوله إن كانت تلك هي رغبتك .... لأن مسك لا يمكنها أن تحمل وريثا لسالم ولدي .... شاء الله أن يبتليها و لا اعتراض على مشيئته .... )
ازداد انقباض كفي قاصي بقوة ... و انعقد حاجبيه ألما و غضبا , قبل أن يتابع جده بنفس الصوت الهادىء
( مسك .... فرس تلك العائلة .... عنفوانها .... تذكرني بأمها رحمها الله .. و بابنة عمها سوار ....ستظل دائما ذات مكانة في قلبي لن تمس أبدا ...... لكنها لن تحمل وريثا لأرض سالم لذا فهي الأنسب لك ... خاصة و أن سالم يستحق هذا العقاب بعد أن كانت له أطماع في بقائك تحت جناحه كل تلك السنوات ..... )
شعر قاصي في تلك اللحظة أنه قد وصل الى نهاية حافة سيطرته على نفسه فهدر فجأة بقوة
( كفى ......... )
انتفض سليمان الرافعي و هاجت عاصفة عينيه قبل أن يضرب الأرض بعصاه وهو يهدر بقوة أكبر
( اخفض صوتك يا ولد ....... و تعلم من تخاطب .... )
لكن جنون قاصي في تلك اللحظة كان قد وصل الى منتهاه وهو يقول بعنف مادا قبضته أمامه
( أنت تتكلم عن مسك و تيماء و كأنهما مجرد فرستين للإستيلاد و التناسل ......)
نهض سليمان من مكانه ليتند الى عصاه .... وأصبحت عيناه بمستوى عيني قاصي .... في تحدٍ صلبٍ لا يقبل التهاون
( هذا ما لن تفهمه أبدا يا قاصي .... على الرغم من نشأتك قريبا من هذه الأرض , الا أنك لم ترث انتمائك لها ... لم ترث منها سوى الدم .... و الدم لا ينبت النسل .... )
صمت سليمان للحظة قبل أن يرفع يده ليمسك بكتف قاصي و نظر الى عينيه مليا ثم قال بصرامة
( تيماء هي الابنة الوحيدة لولدي سالم ..... عليها أن تتزوج أحد أبناء أعمامها يا قاصي .... لا أن تتزوج من كسر ذراع والدها يوما .... ستظل تلك الذكرى تبخس من حقه كوالدها و مكانتك كزوجٍ لها ..... )
ابتلع قاصي تلك الغصة المسننة الشاطرة في حلقه قبل أن يقول بخشونةٍ عنيفة
( كنت أدافع عنها ...... آخذ لها بحقها .... )
اشتدت قبضة سليمان على كتف قاصي حتى أوشكت أن تخلعه وهو يرد بقوة
( لكنه لم يكن حقك أنت ....... )
عاد ليصمت قليلا وهو يتأمل قاصي طويلا و قبضته تخف عن كتفه ثم ربت عليها وهو يقول بهدوء
( أترى مكانتك لدي ؟؟ ...... كان علي أن أكسر لك ذراعيك بعد ما فعلته بولدي .... لكن انقاذك لتيماء و استغاثتك بي وقتها جعلتني أعفو عنك ....فلا تتمادى يا قاصي ... أنت تطلب المستحيل .... )
كانت أنفاس قاصي تهدر بقوة .... صدره يعلو و يتردد بعنف .... عيناه تحترقان بنيران الغضب و الرغبة في التدمير .....
الا أنه قال بصوتٍ خافت عنيف
( تعلم أن مسك سترفض ....... أنت لا تقبل بي بمسك , لكنها كانت محاولة تهديد للجميع ..... )
أبعد سليمان كفه عن كتف قاصي ليستدير عنه بوقار .... ثم قال أخيرا
( لو قبلت بك فلن أمانع .............حتى لو رفض سالم , كلمتي عليه ستكون قانون و مسك ستكون من نصيبك ...... لكن لو رفضت !!! .. )
ضحك قاصي بقوة .... ضحكة استياء عنيفة هادرة .... الا أن جده لم يستدير اليه , بل ظل مكانه ينظر من النافذة الى الأرض الواسعة المنبسطة ....
ثم قال قاصي فجأة بصوتٍ جامد بدا كصخرة جليدية
( ماذا اذن لو قبلت بي تيماء ؟!!!!! ........ماذا لو اختارتني أنا ؟؟ ...... )
استدار سليمان اليه بقوة ينظر لعينيه المشتعلتين .... و انتظر بدهاء طويلا قبل ان يقول بصوتٍ صارم قاطع
( لا يا قاصي ........ تيماء ليست لك .... هي الوحيدة التي ستجدد نسل سالم عبر اسم الرافعية ..... )
أطرق بوجهه وهو يطرق الأرض بعصاه بشرود .... ثم قال بصوتٍ عميق
( لقد سلمت من قبل بابتعاد ابنتنا عنا كرامة لابنة اخي .... أم مسك ...... التي اختارت سالم دونا عن رجال العائلة جميعا ..... أما بعد موتها رحمها الله , فلا شيء يمنع عودتها ..... )
رد قاصي بصوتٍ قوي .. صلب كالحديد
( لا يعنيني كل هذا ....... ماذا لو اختارتني تيماء ؟؟ ....... كيف ستعاقبها ؟؟ .... )
استدار سليمان اليه ليقول بصوتٍ قاتم
( هل ترى نفسك كفؤا لها ؟!! ........... تيماء اختلفت .... تيماء الآن باتت شابة تمتلك الجمال و العلم و الأرض و المال و ..... النسب ..... )
ساد صمت طويل شاحب .... باهت ...... كالأموات ....
الا أن قاصي قال بصوتٍ لا حياة به .... صخري لا يتنفس ...
( ماذا لو اختارتني تيماء ؟؟.......... )
أطرق سليمان بوجهه قليلا قبل أن يقول بصوتٍ غريب هادىء ...
( حينها ستقتلعها من الأرضها و تبتعدان .........لكن الإقتلاع صعب لا يخرج الا بالدم .... )
عقد قاصي حاجبيه و اشتدت نظراته حتى بدت مرعبة وهو يقول بخفوت مهدد
( هل سينالها الأذى ؟!! .......... )
ظل سليمان مطرق الوجه .... متباعدا جدا عن قاصي للمرة الأولى .... ثم قال اخيرا بقتامة
( الأمر أخطر مما تظن يا قاصي .... و السبب يكمن بك أنت و بنسبك دون أن تدون مذنبا ..... أعلم ذلك .....لا تبرير لي وقتها لأبنائي و أبنائهم .... )
الا أن قاصي سأل مجددا بصوتٍ أقوى
( هل سينالها الأذى ؟!!! ............ )
قال سليمان دون مواربة
( هذا احتمال وارد يا قاصي .......... )
حينها لم ينتظر قاصي , بل قال بصوتٍ قاسي كالسيف ... مسلطا بسطوة
( كلمة منك أمام كلمة مني ....... )
ارتفع حاجبي سليمان قليلا الا انه قال بغموض
( ماذا تريد ؟؟ ......... )
رفع قاصي رأسه ليقول بصوتٍ لا يقبل الجدل
( إن اختارتني تيماء ..... فكلمة ثقة منك الا ينالها أذى و كلمة ثقةٍ مني الا أقتل ابنك عمران ..... )
.................................................. .................................................. .....................
( هل أنتِ معتادة على تلقيبه ب " حبيبك " كذلك ؟!!! ........ )
ارتفع حاجبي مسك اكثر ... و التوت شفتيها بتسلية اكبر ... فقالت تؤرجح ساقا فوق أخرى
( معظم الوقت ........... )
كانت هذا هو رد مسك لها بمنتهى البساطة ... مما جعل تيماء تقف أمامها مصدومة ... لا تفهم ... لا تستوعب ....
كل ما فهمته في تلك اللحظة هو أن مشاعرها حاليا كانت عبارة عن عاصفة هوجاء متناقضة الأحاسيس ... لكن أغلبها كان عنيفا .... غاضبا ....
استدارت تيماء بعيدا عن مسك ... لا تريد أن تريها هذا الضعف الذي أوهن ساقيها .....
لن تقبل أن تظهر بمظهر المنهزم ... خاصة و أن هذا هو تحديدا ما تشعر به في تلك اللحظة ....
وضعت تيماء يدها على معدتها و هي تهمس لنفسها بصدمة
" ما تلك النار التي تحرق أحشائي !!..... و أنا التي كنت أظن انه ماضٍ و انتهى , لكن من أخدع ؟!! ..... "
سمعت صوت مسك تقول بهدوءٍ من خلفها ...
( ألن تمنحينني ردا مستفزا من ردودك المعقدة ؟!! ....... )
أغمضت تيماء عينيها بألم فاق الحد .... و يدها تزداد انقباضا على معدتها ....
لكنها ابتلعت تلك الغصة في حلقها و همست بهدوء مماثل تدبرت أمره بمعجزة
( لا رد عندي .... اشبعي به ........ )
سمعت صوت حركة من خلفها و مسك تنهض من مكانها لتتقدم منها خطوتين قبل ان تقف خلفها مباشرة ثم قالت بهدوئها المعتاد و المفسر دائما بالغرور
( أشبع به؟!! ...... هذه لهجة سوقية جدا من انسانة المفترض أنها ستكون استاذة جامعية قريبا !! ... )
ازداد انقباض جفنيها بقوة ....
تلك الأستاذة الجامعية تشعر ... و تتألم .... بل و تحترق ألما .....
يوما ما قديما كانت ألفاظها أشد سوقية من هذا .... كانت تحارب و هي تهتف متمردة بأحقيتها في حبها الوحيد ...
أما الآن ...
فقد وطنت نفسها على أن تكون شديدة التصلب تجاه تلك الشاعر ... هذا العشق .....
ربما لأنها لم ترغب سوى في الهرب بعد أن تعرضت لما تعرضت له .....
رفعت تيماء وجهها و فتحت عينيها ببطىء ... ثم قالت بهدوء حزين دون أن تستدير ....
(لم تتعرفي علي بما يكفي من قبل ..... كنت أسوأ .... )
ساد صمت قصي قبل أن تستدير تيماء الى مسك و تلاقت نظراتهما في حوارٍ طويل ... قبل أن تتابع بصوتٍ أكثر هدوءا
( لكنني أتحسن ..... و سأكون أفضل ..... )
صمتت للحظة قبل أن ترفع ذقنها و تقول ناظرة الى عيني مسك مؤكدة
( سأكون افضل ...... خاصة بعد سفري .... للأبد ..... )
للحظة توهمت أن ابتسامة ساخرة يائسة ظهرت على شفتي مسك .... لكنها قالت في النهاية بمنهتى البساطة
( جيد ..... أتمنى لكِ الأفضل اذن ....... )
ثم لم تلبث ان استدارت و هي تقول
( سأخرج لأرى ما يمكنني فعله بأمر الحجز لكِ معي ....... طالما أن هذا هو قرارك الأخير ..... )
خرجت مسك من الغرفة و هي تغلق الباب خلفها بهدوء ...
فشعرت تيماء فجأة أن الغرفة توشك على أن تطبق عليها بجدرانها .... لذا أسرعت في الخروج الى الشرفة مجددا ....
كان الصباح قد أشرق بشعاعٍ ذهبي .. ... جعل .الأراضي الخضراء تكتسي باحمرارٍ مذهب ...
و رائحة الخيول قريبة جدا منها .... أما أصوات الطيور فكانت لحنا بديعا ....
الا أنها لم تشعر بكل هذا القدر من السحر و الجمال .....
ذكريات ما تعرضت له في هذا المكان .... بالإضافة الى الحاضر الصادم بكل مفاجآته ....
لم يسمحا لها بالإستمتاع بأي شيء هنا .....
شيء ما جعلها تنظر لأسفل ....
و ها هي للمرة الثانية تجده أمامها خارجا من ابواب الدار .....
كان مندفعا .... يضرب الأرض بخطواته الثقيلة و كأنه يحفر بها .......
لكن شيئا ما جعله يتوقف فجأة ....
ارتبكت تيماء و هي تنظر الى ظهره و رأسه المطرق .... قبل أن يستدير و يرفع عينيه اليها مباشرة ....
انتفضت و ازداد تمسكها بحاجز الشرفة .... لكنها لم تستطع أن تبعد عينيها عن عينيه ... أو حتى أن تستدير
شيء ما جعلها تقف مكانها و تنظر اليه ....
أما هو فقد كانت عيناه غامضتان .... شديدتي العمق و .... الألم ...
و هذا هو تحديدا ما جعلها غير قادرة على الإستدارة عنه ....
لطالما كانت حليفته في أشد أوقات ألمه .....
دون حتى أن يبوح لها بالكثير عن مأساته الخاصة .... لكنها كانت متواجدة بجواره دائما ... و كان هذا أكثر من كافي بالنسبة له ...
رأته فجأة يخرج هاتفه من جيب بنطاله .... يطلب رقما و يضعه على أذنه ناظرا للبعيد !! .....
فارتعش قلبها ألما .... هل يهاتف مسك ؟!! ... مجددا ؟!!
الم تكفيه مكالماتهما الليلة بعد ؟!! .....
لكنها قفزت مكانها و هي تشعر بهاتفها يهتز و يغني بجيب سترتها ....
عقدت حاجبيها و هي ترى الرقم الغريب , فرفعته الى أذنها متوجسة و هي تهمس بخفوت
( السلام عليكم !! ........ )
حينها أتاها صوته العميق ... المتنفس باهتياج خافت ... مكبوت
( لم يكن الأمر بتلك القذراة التي وصفتها ..... أنا آسف ..... )
اتسعت عينا تيماء بذهول و هي تسمع جوابه المتأخر عن عبارتها المريرة له .......
كانت ترتعش بقوة ... الا أنها لم تخفض عينيها عن عينيه ... و لم تبعد الهاتف عن اذنها ......
فتابع يقول و كأنه لا لم يتوقع أن ترد
( كنتِ لي واحة ..... لا صحراء جافية ....... كنت أعود اليكِ و أنا أعلم أن لا مخدر من الألم سواكِ ... )
ابتلعت تلك الغصة المفزعة و هي تقول بإختناق
( نعم كنت مخدرا لكِ يا قاصي ..... لو كنت أعني لك أكثر لكنت أفضيت الي بكل ما مررت به و حدث لك و لأمك .... كنت أستطيع الوقوف بجوارك أكثر ... و اتفهمك أكثر .... )
ضاقت عيناه على جمر النار بهما وهو يقول بهدوء
( و ها أنتِ بتِ تعرفين ........ فأين أنتِ ؟!! ........ )
ارتعشت شفتيها و هي تقول بخفوت
( الآن ..... فات الأوان .... أنا آسفة ...... )
هدر فجأة بقوة
( اللعنة على أسفك البارد ....... لقد راهنت عليكِ ...... )
قفزت من مكانها رعبا و هي تستدير عنه في شرفتها ..... الا أنه عاد و هدر مجددا بصوتٍ آمر
( استديري الي ........... )
لكنها لم تمتثل لأوامره .... بل بقت مكانها مستندة بظهرها الى حاجز الشرفة ... تتنفس بسرعةٍ و عنف ....
فقال بقسوةٍ اكبر و اكثر صرامة
( استديري الي وواجهيني ... أو والله سأصعد الى غرفتك ..... )
اتسعت عينا تيماء بذهول و استدارت اليه مذعورة ... و على الرغم من امتثالها لأمره الا أنها هتفت بقوة
( لن تجرؤ ........ )
التقت أعينهما مجددا .... فذاب الخصام للحظة .... قبل ان يقول بهدوء دون أن يحيد بعينيه عن عينيها
( لقد قلبت هذا الدار رأسا على عقب خلال الساعات السابقة يا تيماء ... و تسببت في حجز أحد أكبر ابناؤه داخل زريبة للمواشي .... لذا الا ترين أن الصعود الى غرفتك لن يكون تهورا جديدا ؟!! ..... )
فغرت شفتيها قليلا و هي تنظر الي عينيه .. و يدها الأخرى تلحق بالأولى ممسكة بالهاتف على أذنها و كأنها تخشى أن يسقط منها من فرط ارتجافها ... ثم قالت بخفوت
( ربما ليس بالنسبة لك ...... لكنك ستتسبب في الأذى لي ..... )
ظل ينظر اليها و تنظر اليه ... في صمت طويل , قبل أن يقول بصوتٍ غريب
( مجددا ...... )
همست و هي تومىء برأسها عله يتوقف و يبتعد
( نعم ... مجددا ........ )
قال قاصي بصوتٍ غريب و هو ينظر اليها عن بعد
( لم أمتلك الجرأة على مواجهتك صباحا و أنتِ أمامي .... خفت من ردة فعلي .... خفت عليكِ .... الأسلم أن يفصل بيننا طابقين على الأقل ....فبيننا حديث لم ينتهي بعد )
قالت تيماء بخفوت و هي تضع يدها على حاجز الشرفة و كأنها تقترب منه قليلا
( لا أريد الكلام في هذا الموضوع يا قاصي ...... أبدا ..... كانت ذكرى سوداء في حياتي و انتهت ... )
أخفضت رأسها و هي تشعر بالخجل ... ملامحها الشقية ,... تحولت الى الخجل الذائب ....
لكنه ليس الخجل الذي يزيدها جمالا ... بل هو الخجل الذي يجعل الخزي و الاحراج يملآنها أمامه هو ....
قال قاصي بصوتٍ قاسي مشتد
( لقد تأذيتِ بسببي ........... ثم ابتعدتِ .... دون حتى أن أجد الفرصة كي أعوضك ... )
انعقد حاجبيها قليلا
" و هل هناك ما قد يعوضها الشعور بالمهانة ... و الإذلال ؟!! .... هل هناك ما قد يصلح كسرها أمامه و أمام نفسها ؟!! ..... "
الا أنها لم ترفع وجهها اليه و هي تقول بخفوت
( أنا لا أعلم ما الذي تعرفه بالضبط .... لكن ..... )
استدار عنها !! ....
استدار عنها و الهاتف لا يزال على أذنه غير راغبا في مواجهتها بردة فعله ... ليقول بصوتٍ أجش خشن و متحشرج ....
( أخبرتك أنني أعرف كل شيء ....... أعرف أنكِ تألمتِ و صرختِ باسمي مستغيثة .... )
شهقت بصوتٍ عالٍ و هي تضع يدها على فمها بصدمة مذعورة ....
و كأنه كان معها في تلك الغرفة العطنة المتهالكة !! ......
هل كان ؟!!! ...... بالطبع لا ....
كانت تتنفس بصوتٍ عالٍ ... تردد صداه في الموجات بينهما و هي تنظر الى ظهره المتصلب ... بينما الهاتف على أذنه ... و كفه الأخرى شديدة الإنقباض لدرجة تجعله يبدو متحفزا و كأنه على وشك افتراس أحدهم ....
و حمدت الله أنها لا ترى وجهه في تلك اللحظة .... فهي تعلم جيدا كيف يمكن لغضبه أن يستعر في لحظةٍ واحدة دون كوابح .....
تكلم أخيرا ليقول بصوتٍ خافت متحفز ... عميق .... شديد العمق
( كنت تصرخين باسمي يا تيماء .... و ليس اسم أمك حتى ..... أنا فقط دون غيري .... كنت تستغيثين بي و أنا لم أكن موجودا لأدافع عنكِ ..... )
أفلتت منها تنهيدة ارتياح .... للحظةٍ مجنونة شكت أنه كان متواجدا في تلك الجريمة الدموية التي تعرضت لها ....
لقد كان يتكلم و كأنه يراها .... و كم اشعرها ذلك بالمزيد من الخزي و الإنكسار ....
فغرت شفتيها قليلا لتتكلم كي تنهي هذا الامر سريعا ... الا أنه سبقها في الكلام و قال بصوتٍ أشد عمقا دون أن يستدير اليها
( هل تألمتِ ؟!! ........ )
لم يكن سؤالا .... كان يعرف بأنها تألمت الى حد الصراخ لدقائق عنيفة طويلة .... الى أن جائتها الرحمة في اغماءة بعيدة اخيرا ....
لكنه كان كمن يريد اقرارا بألمها .... لذا وجدت نفسها تهمس كالمنساقة
( نعم .... جدا ........ )
سحب نفسا خشنا قويا .... كاد أن يكون منتزعا من رئتيها هي ....
ثم قال بصوتٍ اكثر خفوتا
( و صرخت باسمي ........ )
كان مصمما على انتزاع اعترافها كاملا ... فقالت بخفوت ضائع و هي تغمض عينيها
( نعم ....... للحظات حل ضوء ابيض امام عيني من شدة الألم و رأيتك أمامي ... فصرخت باسمك كي تأتي و تنتزعني من بين أيديهم ...... )
ساد صمت طويل .... لم يقطعه سوى صوت تنفسه المزعزع و الغير ثابت ... بينما كانت هي تتنفس بصعوبة و اعياء .... الى أن قال قاصي اخيرا بخفوت له نبرة غريبة
( أوتظنين أنني قد أتركك بعد هذا .... حتى لو مرت ست سنوات ؟!! ...... )
رفعت تيماء وجهها وفتحت عينيها لتنظر اليه ... الا انها صُدِمت بأنه قد استدار اليها اخيرا ....
قادرا على مواجهتها من جديد ...
لتجد عيناه القويتان تقتحمان عمق دار عينيها بلا تردد ......
ساد صمت طويل غريب قبل ان تسمعه يقول بصوتٍ قاسٍ .... خافت و شرير
( اتركك لرجلٍ آخر ؟!! ........... اذن فأنتِ لم تعرفيني يوما .... )
قالت تيماء بلهجةٍ حادة هجومية كي تدرأ الضعف عن أطرافها ...
( و أنا سأتركك لمسك ...... انعما بحياةٍ هادئة ان استطعتما ذلك .... لذا فنحن متعادلين .... )
التمعت عينا قاصي ببريق الشر و هو ينظر اليها , فعلمت انها قد تمادت ...
لكنه قال بهدوء غريب ... لا يحمل اي اثر للمرح
( تختارين التغابي يا تيماء .... كعادتك دائما حين يحاصرك احدهم في زاوية ضيقة ..... )
استندت بكفها الى حاجز الشرفة و مدت نفسها الى الامام قليلا و هي تقول من بين اسنانها بصوتٍ بدا شرس ... طرد الكثير من ضعفها ...
( بل أنت من يتغابى يا قاصي .... فالأعمى يستطيع رؤية تلك العلاقة الخاصة جدا بينكما ....تريدني و بالرغم من ذلك تبدو مرتاحا لخطبتها .... تدعوك ب " حبيبي " و تمسك بكفها !! فماهذا ؟!! ... هل هذا نوع من العلاقات الشاذة ؟!! ..... )
لم يرد قاصي .... بل نظر اليها نظرة ألزمتها الصمت فجأة .... ثم قال أخيرا بعد فترة طويلة
( يوما ما سأنظف لكِ لسانك هذا ..... أيتها الوقحة ..... )
ارتبكت قليلا أمام صرامة صوته الباترة .... الا أن غضبها منه كان أعمق و أشد ....
قال قاصي أخيرا بصوتٍ جليدي
( لن أتخلى عنكِ تيمائي ....... لن أتخلى عن فتاةٍ صرخت باسمي أنا في أفظع لحظات حياتها ألما , مهما بلغ بها درجة الغباء و الإنكار ...... )
فغرت تيماء شفتيها و بدأت في الهتاف
( هذا ليس سببا منطقيا للزواج .... أنت تشعر بالشفقة علي بسبب موقف عابر ...... أنا ..... )
الا أنه لم يسمعها من الأساس ..... فقد هدر بقوةٍ في الهاتف لدرجة كادت أن تصم أذنها
( و أستاذك الجامعي هذا سأمزق أعضاؤه إربا لو فكر مجرد التفكير في الإقتراب منكِ ..... )
فغرت تيماء شفتيها بذهول و رعب .... و قبل أن ترد , كان قد أغلق الخط في أذنها بعنف ....
و أمام ذهولها ... رمقها بنظرة ازدراء قبل ان يستدير و يغادر ....
لكنه بعد بضعة خطوات ... عاد و التفت اليها ....
ليرفع قبضته مشيرا اليها بإصبعه ... ثم ضرب على صدره بضربتين قويتين ...
" أنتِ تخصيني أنا ....... "
هذا هو معناها في قاموسه الخاص .....
كانت تلك الحركة هي الإشارة بينهما قديما .... اشارة لم تفهمها الا بعد الكثير من مرات التحية .....
ارتعشت شفتي تيماء و هي تبادله النظر بصدمة .... لكنه عاد و استدار عنها ليبتعد بخيلاء و قوة ....
ظلت تيماء تنظر اليه مذهولة ترتعش .... و أظافرها تحفر في خشب حاجز الشرفة ... بينما الهاتف لا يزال على اذنها حتى بعد أن أغلق الخط .... و كأنها تأمره أن يعود و يصلح ما فعله من بعثرة مشاعرها و اتزانها بعد كل هذه السنوات من المحاولة ......
الا أنه رحل ..... رحل ببساطة تاركا تهديدا لا يقبل الجدل أو المزيد من المناقشة .....
.................................................. .................................................. .....................
" أنتِ تخصيني أنا ... "
تلك العبارة البسيطة لخصت الكثير بينهما ......
أول مرة عرفتها .... كان يوما لن تنساه أبدا ......
ككل يومٍ لهما معا ....
كل يومٍ بينهما كان ذكرى غالية لن تنساها مطلقا .....
ذلك اليوم ...
أوصلها الى كليتها بدراجته البخارية صباحا .....فقد سافر اليها خصيصا من وقت الفجر , كي يتمكن من ايصالها الى كليتها صباحا .....
أوقف الدراجة فقفزت تيماء و هي ترتجف فعليا .... لكنها نزعت الخوذة بقوةٍ و عنف ... و عيناها تبرقان بتصميمٍ على خوض الحرب الشعواء الآتية ....
قال قاصي بصوتٍ جامد وهو ينظر الى تصميمها و درجة تهورها
( هل أدخل معكِ ؟!! ......... )
للحظةٍ ظلت تنظر اليه بنفس النظرة المحاربة .... الا أنها لم تلبث ان ابتسمت و هي تقول رافعة حاجبها
( ستكون تلك هي أكثر التصرفات غباءا ..... أنا على وشكِ الهجوم دفاعا عما تسببت به من فضيحة هنا في الكلية ..... )
لكن قاصي لم يبتسم .... بل ظل ينظر اليها بعنف و يداه تنقبضان بشدة على مقودي الدراجة ....
ثم قال أخيرا بقسوة
( لست مرتاحا لتركك وحيدة تواجهين ذلك الحقير ....... سأدخل معك ..... و أسحقهم كلهم لو أردتِ ... )
زمت تيماء شفتيها و اقتربت منه خطوة لتقول بحدة
( كم مرة طلبت منكِ أن تُحكِم عقلك قليلا قبل التهور يا قاصي .... لن تنال الحياة في كل طرقها بالذراع القوي الذي تتفاخر به هذا ......أنا بصدد خوض تحقيق رسمي أمام عميد الكلية ... و الحرس الجامعي .... لقد تسببت في احداث عاهة لزميلٍ لي ... وهو ابن استاذ معروف ,..... أي أن الكارثة مزدوجة ..... لذا دخولك معي بعد ما فعلته يعني أننا عصبة من الهمج ... لا يوقفنا رادع ... دعني أنا سأتصرف .. )
ضرب قاصي على المقود و هتف بفظاظة
( لن أتركك و أنتظر هنا كالنساء !! ......... )
اتسعت عيناها بغضب حقيقي قبل أن تضع كفيها في خصرها و هي تقول بحدة
( و مما تشكو النساء ؟!!! ......... )
كان هو من زم شفتيه وهو يهز رأسه قائلا
( ليس هذا وقت استفزازك يا حمقاء ...... قد تفصلين من الكلية بسببي .... )
ابتسمت قليلا ... ثم قالت برقة ذائبة
( فداك .......... )
اشتعلت عيناه غضبا وهو يقول بحدة
( أنت لا تتكلمين بجدية .... اليس كذلك ؟؟ ...... )
اتسعت ابتسامتها و قالت تطمئنه
( لا .... لا أتكلم بجدية ..... اطمئن ,..... )
حينها عبس مجددا بدلا من أن يرتاح باله .... بل قال بخيبة أمل مفاجئة
( حقا ؟!! ...... ظننتك صادقة ..... )
ارتفع حاجبيها و اتسعت عينيها قبل أن تضحك بقوة... ثم قالت و هي تهز رأسها يأسا
( اثبت على موقف واحد يا قاصي .... ماذا تريدني أن أقول ؟!! ..... أن دراستي أهم من أي شيء آخر .... أم أنك أهم عندي من العالم بأسره ؟!! ..... )
التمعت عينا قاصي للحظة .... قبل أن يخفيهما قناعه الساخر ليقول بهدوء بعد فترة طويلة
( قولي الحقيقة ....... )
ظلت تنظر اليه و ابتسامتها تظلل شفتيها الحنونتين.... تتأمله ... بهيئته الغريبة الحبيبة الى القلب ....
ثم قالت أخيرا بخفوت صادق
( أنت أهم عندي من العالم بأسره ..... الدراسة هدف , أما أنت فحياتي كلها ..... )
ها قد سقط قناع وجهه الساخر الفظ ..... و ظهرت من تحته ملامح وجهه الشاردة الأقرب الى صدمة مرتبكة ...
و عيناه تلاحقان الكلمات البسيطة من شفتيها ... و تصعدان الى عينيها تطالبان بالترجمة الفورية بأصدق لغات تيماء .... و التي لا تخدعه أبدا .... عينيها !! ....
انتظرت منه أن يبادلها الكلام بمثله .... الا أنها كانت تعرف بأنه لن يفعل ....
قاصي لا يعرف الكلام .... لا يستطيع .... و ربما لا يريد ....
لقد وصلا الى المرحلة التي اصبح ارتباطهما قويا لدرجة تجعلها تتغاضى عن الكلمات و الاعترافات ... و تكتفي فقط بوجوده .... و اخلاصه لها ....
تنحنح قاصي ... ليسعل قليلا , محاولا الخروج من تلك الهالة التيمائية .....
ثم قال أخيرا بخشونةٍ زائدة
( المهم .... أخبريني كيف ستتصرفين في هذا التحقيق ...... )
شعرت بخيبة الأمل هذه المرة .... و ظلت تنظر اليه بيأس مؤلم .... و احتياج عاطفي مدمر ...
الا أنها تنهدت ببطىء لتقول بعدها بثقة
( سأخبرهم الحقيقة .... لقد تحرش بي علنا .... أمسك بذراعي دون وجه حق .... )
التمعت عينا قاصي بوحشية و ترددت أنفاسه ... فسارعت لتقول خوفا من اثارة المزيد من غضبه مجددا ...
( و استخدم ألفاظا لا تناسب الحرم الجامعي .... على مسمع من الجميع .... لذا كما ترى فلدي حججا قوية ... )
قال قاصي بغضب
( لكنك لستِ أنت من ضربه ..... علي الدخول لأدافع عنكِ ..... )
تأففت تيماء بصوتٍ عالٍ و هتفت
( كفى يا قاصي ..... ستتسبب في ايذائي أكثر ..... لا يمكنك الدخول أو الظهور .... عليك الإختفاء الى ان أخرج ..... )
نظرت الى ساعة معصمها قبل أن تقول بقلق
( لقد تأخرت ..... علي الدخول ...... أراك لاحقا , .... )
رفعت عينيها الى وجهه المظلم و حاجبيه المنعقدين بعدم اقتناع .... ثم قالت بهدوء
( يمكنك المغادرة .... اذهب الى أي مكان و تنزه قليلا الى أن أنتهي ...... )
قال قاصي بنبرةٍ فظة قاطعة
( سأنتظرك هنا و لن أرحل لمكان الى أن تخرجي ....... )
عادت و ابتسمت لتقول بخفوت
( حسنا اذن ........... )
تحركت تيماء خطوة لتبتعد الا أنه ناداها بخشونة قائلا
( تيماء ......... )
استدارت اليه متسائلة .... فقال بلهجةٍ آمرة
( لا تسمحي لهذا الحقير بأن يقترب منكِ ....... )
ابتسمت مجددا و قالت بخفوت
( لا أعتقد أنه في حالةٍ تسمح له بالإقتراب من أي أنثى لفترة طويلة ..... )
الا أن قاصي قال بجدية مهددة دون مزاح
( و لا أي حقير آخر ...... )
اتسعت ابتسامتها و أومأت مؤكدة بلطف
( و لا أي حقير آخر ....... )
استدارت بعيدا عنه قبل أن تخونها مشاعرها أكثر ..... و مشت عدة خطوات مطرقة الرأس قبل أن يناديها مجددا ...
فاستدارت اليه متسائلة .... الا أنه لم يتكلم ....
بل رفع قبضته مشيرا اليها بإصبعه ... ثم ضرب على صدره بضربتين قويتين ...
عقدت تيماء حاجبيها قليلا بعدم فهم .... الا ان قلبها انتفض بين أضلعها بقوة ...
هل تعني حركته بأنه .... يحبها ؟!! ....
لقد ضرب على قلبه مباشرة !! .....
ارتعشت شفتيها المبتسمتين بأمل ولهان .... ثم دون كلمة واحدة استدارت و دخلت الكلية جريا تحت أنظاره الحارقة ....
بعد بضعة ساعات ... خرجت أخيرا .....
كانت مطرقة الوجه ... الا أن ملامحها فكانت حمراء و غاضبة و كأنها طفلة تبكي .....
استقام قاصي ببطىء و هو يراقبها آتية من بعيد بملامحها الغريبة دون أن تنظر اليه .... فازداد انعقاد حاجبيه و انقباض كفيه ... منتظرا بصبرٍ نافذ الى أن وصلت اليه و هي متشبثة بذراع حقيبقتها و شعرها يتأرجح حول وجهها ....
تقدمت تيماء لتجلس على الدراجة و هي تقول بإختصار مبهم
( هيا بنا .............. )
الا أن كف قاصي أطبقت على ذراعها يديرها اليه بقوة وهو يقول صارما
( ماذا حدث ؟!! ........ )
قالت بصوتٍ متجهم مختنق
( انتهى الأمر .... لا تقلق ........ )
حاولت أن تتحرر منه لتجلس ... الا أنه لم يسمح لها وهو يشدد من قبضته على ذراعها ليقول بحدة
( تيماء .... أريد التفاصيل كلها ...... ماذا حدث ؟!! .... )
ظلت واقفة أمامه ... مطرقة الوجه و متمسكة بحزام حقيبتها الجلدي ....
حينها رفع قاصي ذقنها بكفه .... محتضنها بنعومة رغم خشونة راحة يده القوية و المتجرحة من ترويض الخيول ....
حيننها لم تجد بدا من أن ترفع جفنيها عن عينيها الفيروزيتين لتنظر اليه باستسلام .....
ظلت عينا قاصي تلاحقان كل ملامح وجهها بغموض قبل أن يقول بصوت حذر خطير ... آمر ...
( تكلمي ......أريد كل التفاصيل .... )
رمشت بعينيها مرتين قبل أن تقول باختصار حاد قليلا
( ماذا تريد ؟!! ..... اعتذرت و بكيت و توسلت .... و أختلقت قصة ...... )
اتسعت عيناه بوحشية و اشتدت كفه على ذقنها وهو يهتف بحدة
( اعتذرتِ ؟!!! .... و توسلتِ ؟!!! ....... لماذا ؟!!!!!! ..... )
ابعدت ذقنها عنه بالقوة و هي تهتف بعنف و كرامة مهدرة
( ماذا كنت تريدني أن أفعل يا قاصي ؟!! ..... لقد طلبو استدعاء أبي ..... أتعرف معنى هذا ؟!!! ..... أن يعرف بوجودك معي باستمرار و يدرك علاقتنا .... و حينها قد يبعدك عني ..... لقد أعلنت للكلية كلها أنني مرتبطة بك ....و كانوا يحققون معي على أساس أن صديقي الحميم قد ضرب زميل لي ..... و هددوا بفصلي نهائيا ...... )
كانت تلهث و هي تهتف بجملها الغير مرتبطة ..... الى أن صمتت أخيرا و هي تنظر الى عينيه المشتعلتين غضبا و قسوة .... ثم قالت أخيرا بصوتٍ باهت
( لو علم أبي بما حدث فسيفرق بيننا يا قاصي ...... حتى لو لم يهتم بي يوما , الا أنني أتوقع أن يثور غضبه و يأمرك بالإبتعاد عني .... أهذا ما تريده ؟!!! ...... )
صمتت أخيرا بعد أن ضاع صوتها ..... و بقت تنظر اليه منكسرة ....
تكلم قاصي أخيرا بخفوت شرس ...
( من صفعك ؟؟ ......... )
ارتفعت يدها بسرعة لتغطي وجنتها المحمرة ..... و ارتبكت أمام نظرته القاتمة , قبل أن تهمس كاذبة
( لم ..... لم ......... )
الا أن قاصي هدر بقوة
( من صفعك ؟؟ .......... )
أطرقت بوجهها بعيدا عنه لتقول بخفوت
( عميد الكلية ......... )
كانت تسمع صوت أنفاسه المتسارعة الخشنة , قبل أن يقول بصوتٍ غريب
( هل يحق له ذلك ؟؟!! ........ )
هزت تيماء رأسها نفيا ببطىء .... ثم قالت
( بالطبع لا ..... لكن التحقيق سار بشكل غير رسمي بعد أن بكيت و توسلت أليهم الا يستدعون والدي لأن عائلتي شديدة الصرامة و قد يضيع مستقبلي .... والد زميلي الذي ضربته كان حاضرا وهو صديق شخصي للعميد .....ف ... )
اختنق صوتها و اختفى .... فعضت على شفتيها المرتجفتين غير قادرة على المتابعة ....
الا أن قاصي قال ببطىء يكمل كلامها
( فصفعك ....... و أمرك الا تعيديها مجددا ...... )
لم ترد .... و لم تستطع أن تواجه عينيه المخيفتين ..... ثم همست أخيرا و بعد فترة طويلة
( أكنت تريد المجازفة بالإبتعاد عني يا قاصي ؟؟ ........ لو علم أبي .... )
ظل قاصي صامتا ... ملامحه غريبة و غير مقروءة .... الا أن جسده كان شديد التشنج و أنفاسه غير ثابتة ...
ثم قال أخيرا مغيرا الموضوع بصوتٍ خافت
( و ما هي القصة التي إختلقتها ؟؟ ......... )
ردت تيماء مبتسمة بحزن و هي تمسح دمعة خائنة أفلتت من عينها الفيروزية
( ادعيت أنك ابن عمي و خطيبي ..... و أنك انفعلت لرؤيته يمسك بذراعي ...... و حين طلبوا استدعاء والدي للتحقق من الأمر .... توسلت لهم الا يفعلوا لأن عائلتي في الجنوب شديدة الصرامة و لا تقبل أن يقابلني خطيبي هنا ..... )
لم تفهم يومها سر الذهول الذي ظهر على ملامح وجهه .... ذهول أقرب الى الصدمة و كأنها ذكرت شيئا صادقا تماما ..... و كم كانت شفافة الفكر في اختلاق قصتها ....
ساد صمت طويل قبل أن يقول قاصي أخيرا بصوتٍ غامض مداعب
( لازلتِ كاذبة مخادعة ....... منذ صغرك ..... )
ابتسمت و المزيد من الدموع تنساب على وجنتيها بصمت .... ثم قالت أخيرا بخفوت مترجي
( هلا ابتعدنا عن هنا أرجوك ..... خذني بعيدا جدا يا قاصي ...... )
ظل صامتا قبل أن يمد يده ليتناول الخوذة و يلبسها اياها برفق .... ثم اجلسها على الدراجة و جلس أمامها , لكن و قبل أن يتحرك .... قال ببساطة تغلف لهجة شديدة التوعد لم تهدأ بعد
( بالمناسبة ..... السيدة امتثال تسأل عنكِ باستمرار و تتمنى رؤيتك ..... لا تتوقف عن السؤال عن ابنة أختى المتوفاة المسكينة .... و توصيني أن أجيد رعايتها .... )
ضحكت تيماء عاليا و هي تحيط خصره بذراعيها ثم قالت برقةٍ خالصة
( و هل تجيد رعايتها عاملا بالوصية ؟!! ............... )
قال قاصي بجدية دون مرح
( أحاول ............... )
ابتسمت أكثر و هي تريح وجنتها على ظهره .... الا أنه قال بخفوت شارد قبل أن يتحرك
( دائما تكذبين لتنقذيني ........ منذ صغرك ...... )
لم تختفي ابتسامتها الحزينة و هي مرتاحة على ظهره ... ثم همست بخفوت
( و من لي سواك يا قاصي ؟!! ........ )
ظل صامتا و متحفزا .... لذا همست برقة كي تخرجه من تلك الحالة التي يعاني منها حاليا و التي تمس رجولته .... فهي تعرفه جيدا و تعرف درجة حمائيته و انفعاله حين يمس احدهم ما يخصه ....
( قاصي ...... تلك الحركة , حين ضربت صدرك قبل أن أدخل ..... ماذا كانت تعني ؟!! ...... )
تكلم بصوته الخشن الخافت بعد فترة طويلة
(" أنتِ تخصيني أنا ... " ........ )
فغرت تيماء شفتيها بنفس الصدمة منذ ست سنوات .... لم يكن اعترافا بالحب .....
لكنه كان صك الملكية بينهما ..... ارتباط غير قابل للانفصام ....
تنهدت تيماء و همست
( خذني بعيدا ........ أرجوك ....... )
تحرك قاصي دون أن يتكلم كلمة اضافية .... و انطلق بها كي يسمح للهواء البارد ان يلطف من احمرار وجنتها الحمراء ... و كرامتها الجريحة
فهو يعرفها حق المعرفة .... و يدرك جيدا حساسيتها المفرطة تجاه الإهانة .....
فكيف اذن بذلك الانتهاك الصريح ظلما ..... لكنه أبى أن يتكلم ....
و بعد يومين .... انتشر في الكلية خبر أن مجهولا ملثما هاجم عميد الكلية في المرآب المظلم ....
و لكمه ليكسر انفه .... و لم يتعرف أحد على هوية الفاعل حتى يومنا هذا ....
أنت تقرأ
طائف في رحلة ابدية
Любовные романыمن بين جموع البشر ... كان هو الاول والاخير... واخر من رغبت بمواجهته في هذه الارض القاصية الواسعة صرخ بها والنار المشتعلة باللون الفيروزي تزيد من جذور روحه اختاري - فتبسمت شفتاها بمرارة بلون اكثر قتامة وهي تهمس بغضب وهل بين القانون والحياة اختيار...