" أريد رؤيتك .....رجاءا لا ترفضي , أحتاج للكلام معك .... "
رسالة مختصرة جدا ... و مع ذلك كان التوسل يكاد أن يفيض بوضوح من كل حرفٍ منها ....
تكاد تسمع صوته المحبب وهو ينطق بتلك الكلمات بينما تنحني عيناه الكحيلتان في رجاءٍ جذاب كما كان يفعل دائما كلما تدلل عليها و أراد منها شيئا ....
أعادت مسك قراءة الكلمات المختصرة مجددا و التي وصلتها في رسالة على هاتفها منذ أكثر من نصف ساعة ...
و لم ترد .... فقط ظلت تنظر اليها بصمت و هي متكئة في كرسيها الوثير بشقتها ... و ساقيها تحتها بنعومة مريحة ...
عيناها تبرقان بلمعانٍ حزين .....
و بحركةٍ رتيبة من اصبعها , فتحت ملف الصور المخزنة على هاتفها ... الى أن وصلت للصورة المطلوبة ...
صورته .....
أشرف الرافعي ..... صورته القديمة التي كانت تحملها معها , ظلت تنقلها من هاتف الى اخر دون أن تمحوها حتى الآن ....
كانت في حاجة الى تلك الصورة ... لذا حرصت على ألا تضيع منها , .....
كلما شعرت بتخاذل أو ضعف يتملكها كانت تنظر الى صورته المحببة الى عينيها ....
حينها فقط تتملكها القوة من جديد و يذهب التخاذل أدراج الرياح .... و هي تنظر الى عينيه المبتسمتين بشقاوة و الكحل الرجولي بهما طبيعي ....
ابتسمت مسك ابتسامة صغيرة و اصبعها يتحرك برفق على تلك الملامح الشقية الوسيمة ....
لطالما رأته الأكثر وسامة بين أبناء أعمامها .... و أكثرهم سحرا .....
كان مرحا و يفيض بالجاذبية ... و لديه حس بالتملك لا يملك أحد أن يقاوم جبروته ... الا هي ...
رغم صغر سنوات عمرها كانت دائما تضع حدا لهذا التملك و العنجهية .... فيسريان على الجميع و لا يسريان عليها ..
لأنها مسك سالم الرافعي ....
و رغم حبها له و عشقها اللامحدود ..... الا أن كبريائها كان لها قانون لا تكسره أبدا ......
كانت تتصرف معه بثقة مطلقة .... ثقة في نفسها أكثر من ثقتها في حبه ,
لم تتخيل مطلقا أن يغدر أشرف بها يوما ..... أن يكسر قلبها .....
و يسحق كبريائها بتلك الصورة عديمة الرحمة كما فعل ...... و لماذا ؟!! .... و لأجل من ؟!! .....
فتحت مسك شفتيها ببطىء و همست بخفوت و كأنها تكلم الصورة بخفوت
( لأجل من ؟ّ!! ..... غدير ؟!! ..... صديقتي التي كانت تشاركني الوسادة في ليالٍ كثير ... نقضيها في ضحكٍ و أحاديث لا تنتهي !! ...... كيف أخفيت عني قدرتك الهائلة على الخيانة ؟!! ..... )
صمتت و هي تنظر الى الصورة التي كانت تنظر اليها بنفس الابتسامة الشقية و الملامح الرجولية الجذابة .... و كأنها تسخر منها .....
فضاقت عيناها و همست بصوتٍ أكثر خفوتا ....
( هل أدعي انها السبب في خيانتك ؟!! ..... أم أدعي أن مرضي هو السبب ؟!! ....... أي عذرٍ أمنحه لرجلٍ سمح لأخرى بأن تسرقه ؟!! ........ )
عادت لتصمت من جديد ... و اصبعها يتحرك على حاجبيه المستقيمين بخطٍ طبيعي مشطور ....
ثم قالت بخفوت و كأنها تحادثه شاردة
( أنا اعرف أنك ستعود ذات يوم ..... هذا شيء أنا متأكدة منه , و قد لا تراه أنت لأنك استسلمت الى نوبةِ جعلت منك أعمى .... ضرير لا يبصر الا تلك اليد التي امتدت بخبثٍ لتلامسك ..... لكنك في النهاية ستعود و حينها لن أملك شيء لأقدمه لك ..... لقد انتظرت طويلا كي أرى هذا اليوم الذي تأتيني فيه خائبا نادما .... لكن على ما يبدو أن هذا اليوم سيتأخر قليلا بعد ..... لذا ليس أمامي سوى أن أتوقف عن انتظاره و المضي قدما بحياتي .... علي الاعتراف ان رؤيتك نادما لن تصلح الصدع الذي احدثته في داخلي .... )
أرجعت رأسها للخلف و نظرت الى السقف بصمت ......
الى أن رن هاتفها تماما كما توقعت ....
ارتسمت على شفتيها ابتسامة باردة ... ناعمة ... دون ان تخفض عينيها الى الهاتف في يدها , و انتظرت مستمعة الى رنينه المستمر ... و كأنه لحن يشجيها الى أن تكرمت في النهاية و أخفضت رأسها لترفع الهاتف و ترد باتزان دون أن تفقد ابتسامتها الهادئة
( مرحبا أشرف .......... )
كان باستطاعتها أن تسمع التوتر الحاد في صوت أنفاسه قبل أن يقول بصوت متصلب
( أنت موجودة اذن و متفرغة للرد ..... لماذا لم تجيبي رسالتي ؟؟ ..... )
ارتفع حاجبيها و لم تحرك عضلة من جسدها المتراخي ثم ردت ببساطة
( أجيب أو لا أجيب هذا أمر يعود الي يا أشرف .... حتى لو كنت متفرغة , الا أنني لست مضطرة للتبرير ..... ثم أن الرسالة لم تنال اعجابي ....... لقد أخبرتك من قبل أنني لا أقبل بما تطلبه .... )
هتف أشرف بنفاذ صبر
( أنا لازلت ابن عمك يا مسك , لا تجعلي مني غريبا ...ثم أنا أريد الكلام معك في أمر هام ...... )
التوت ابتسامة مسك قليلا و هي تقول بهدوء
( أنت من جعلت نفسك غريبا يا أشرف ...... ليس خطأي ..... )
سمعت صوت زفرته واضحة فانتظرت بملامح جامدة و الهاتف على أذنها الى أن قال في النهاية بصوته المتملق الذي تعرفه جيدا
( أنا فقط أحتاج للكلام معكِ يا مسك ...... رجاءا .... )
تمطت مسك مكانها و انزلت ساقيها من على الكرسي على مهلٍ ثم قالت بنعومة
( حسنا تكلم ...... أنا أسمعك ...... )
ساد صمت قصير , قبل أن يقول بحذر
( لن يفلح الكلام في الهاتف , .... أريد أن ..... أراك .... )
للحظة شعرت بالكلمة و كأنها تتوهج ببريق خاص تعرفه ..... بريق افتقدته منذ سنوات .....
لكم طلبها منها بنفس النبرة ... و كان جوابها أن تبتسم بخجل و تعده باللقاء وقتما يشاء .....
لم تكن تعلم في تلك اللحظة أن المرارة قد حولت ابتسامتها الى ابتسامة حزينة ملتوية .....
لكنها فتحت فمها و همست أخيرا بفتور
( لا أستطيع ...... هذا غير لائق ......... )
لكن أشرف لم ييأس , بل على العكس ... لقد لمح بعض التراجع في صوتها , فقال بلهفة
( بلى .... بلى يا مسك ..... أنا أريد أن أراكِ , إما أن توافقي أو آتي الى شقتك ..... )
أطرقت مسك بوجهها و قالت بخفوت
( لن أفتح لك الباب .......... )
حينها رد عليها بصوتٍ .... كانت تعلم أن خلفيته ابتسامة مترددة
( لن تبقيني خلف بابك المغلق يا مسك ........ ليس بعد كل تلك السنوات ... )
شعرت بالرغبة في اقفال الخط .... الا أنها تمالكت أعصابها و ردت ببرود
( بلى سأفعل .......... و " خاصة " بعد كل تلك السنوات ..... لم يعد اغلاق الأبواب أمرا صعبا بالنسبة لي ... )
ساد صمت طويل بينهما ... و كل منهما يضع الهاتف على أذنه .... كان هو ينظر الى البعيد شاردا , بينما هي لا تنظر لأبعد من خطوة واحدة , كأنها عينيها قد تحولتا الى نظرةٍ من زجاجٍ هش .... بارد .... جامد ....
الى أن قطع أشرف الصمت أخيرا قائلا بخفوت
( أين ألقاكِ ؟......... )
" أين ألقاكِ ؟!! ...... "
سؤال بسيط قاطع .... به من الغرور و العنجهية ما يجعلها قادرة على رمي الهاتف بعيدا , الا أن فضولها هذه المرة كان اكبر من ان تفعل ذلك .....
كانت تريد لقائه بالفعل .... تريد أن تسمع ما يود قوله ...... و كأنها تنتظر شيء ما .... لحظةٍ انتظرتها طويلا .... لكنها لا تزال متأخرة .....
فتحت مسك شفتيها و قالت أخيرا بهدوء خافت , بلا تعبير أو حياة
( يمكنني الخروج وقت الراحة من العمل غدا و لقائك في المقهي الملاصق له ....... )
لم تتوقع ان يجيبها بتلك السرعة و اللهفة
( سأكون هناك ........ )
قالت مسك و هي تبعد شعرها الناعم عن وجهها بأصابعها الطويلة ببطىء
( لكنني أخبرك الآن أنها ستكون دقائك معدودة ..... اتفقنا ؟؟ ...و الآن اعذرني مضطرة الى اغلاق الخط . )
ساد الصمت للحظة قبل أن يناديها بقوة
( مسك !! .......... )
لم تتغير ملامحها و هي ترد عليه بجمود
( نعم .......... )
تردد لعدة لحظات قبل أن يقول بنعومة
( شكرا لكِ .......... )
حينها ابتسمت .... ابتسمت نفس الابتسامة المائلة .... ثم قالت ببرود
( العفو ........ )
أغلقت مسك الهاتف ووضعته جانبا بينما تراجعت في مقعدها مجددا لتنظر الى السقف .... بينما أصابعها تتحرك في خصلات شعرها بشرود ... من منبته و حتى اطرافه و كأنها تختبر طوله ...
بداخلها باب أغلقته منذ فترة طويلة ..... صفقته بمعنى أصح تجاه أي انسان يحاول أن يمس جزءا من روحها دون ارادتها ....
و قد برعت في هذا حتى الآن ......
لماذا اذن تشعر و كأنها .................
لم تستطع أن تسأل نفسها السؤال ..... لأنها سمعت صوت رنين الباب , فعقدت حاجبيها ممتنة لهذه المقاطعة و كأنها قد وصلت بأفكارها الى " منطقة غير مرغوبة .... "
نظرت مسك بحيرة الى ساعة الحائط ....
كانت تشير الى السادسة مساءا ..... و لا تعلم من يمكنه القدوم في هذا الموعد .....
نهضت بتثاقل لتفتح الباب .... الا أنها تسمرت و هي ترى الزائرتين الغير متوقعتين على الإطلاق ........
ظلت مسك على وضعها جامدة الملامح قليلا ... واسعة العينين و هي تنظر الى وجه جارتها وفاء ....
و التي كانت تقف في الباب ....
كانت مترددة و مرتبكة ... الا أنها كانت مبتسمة ......
لكن مسك لم تهتم بها قدر اهتمامها بالمرأة التي تقف خلفها ....
لقد كانت هي نفسها والدة أمجد التي سبق و قابلتها !! ....
" المنطقة الغير مرغوبة !!! ....... "
لا تعلم لماذا عادت تلك العبارة الى القفز أمام عينيها ....
تكلمت وفاء بحرج و قالت
( مساء الخير يا مسك ...... كيف حالك ؟؟ اعذرينا ان كنا قد طرقنا بابك دون موعد .... لقد كانت خالتي في زيارة لي , و رغبت في النزول اليكِ لاقاء السلام ..... هل عطلناكِ عن شيء ؟؟ .... )
كانت مسك لا تزال صامتة بملامح جامدة تماما كالرخام ... بينما وفاء تكثر من حديثها الودود , و ما أن صمتت و طال الصمت حتى ارتبكت قائلة
( هل فعلنا ؟!! ....... هل عطلناكِ عن شيء هام ؟!! ..... )
للحظات لم ترد مسك عليها , بل كانت تنظر الى المرأة المتوسطة في العمر و المبتسمة تلقائيا على الرغم من أنها لا تبصر .... ملابسها بنفس الذوق , بسيطة و بألوان هادئة .....
قد تكون راقية الخامات الا أنها بسيطة التصميم جدا دون أي ميزة خاصة ....
أما ملامحها فقد كانت ترسم الرضا و التفاؤل ..... لا غير .....
أبعدت مسك عينيها عن المرأة اخيرا و نظرت الى وفاء قائلة بفتور
( أنا أرتاح عادة في مثل هذا الوقت ..... لذا ,.... لا , لم تعطلاني عن شيء هام ...... )
اتسعت ابتسامة وفاء و ظلت منتظرة على الباب ... الى أن رفعت حاجبيها ناظرة الى مسك في تساؤل ...
فارتفع حاجبي مسك بنفس التساؤل و كأنها تنتظر ما ستقوله !! ....
فقالت وفاء بمودة
( هلا سمحتِ لنا بالدخول لعدة دقائق ؟؟ ........... )
ارتفع حاجبي مسك اكثر و كأنها صدمت من الطلب المباغت ... فمالت بعينيها جانبا الى شقتها ثم أعادتهما الي الزائرتين قائلة ببرود و اختصار على مضض
( طبعا ....... تفضلا ...... )
ابتعدت عن الباب ووقفت جانبا و هي ممسكة به بينما الغضب بدأ في الانتشار بداخلها على نحو متهور !!
ما تلك الصفاقة !! ...
كيف تأتيان الى الزيارة دون موعد مسبق ؟!! ...... ما هذه التصرفات البدائية !! ....
بدأ دمها يغلي على مهل بينما وجهها جامد القسمات ,...
تنظر الى وفاء التي كانت ممسكة بكف والدة أمجد و هي تساعدها قائلة
( على مهل يا خالتي ...... احذري ..... )
لكن و ما أن مرت بها والدة امجد حتى رفعت يديها فجأة و تحسست كفي مسك الى أن امسكت بذراعيها قبل أن تشدها اليها قائلة بحرارة
( حبيبتي ... تعالي الى أحضاني , دعيني أتنشق هذا العطر الطيب .... كيف حالك يا حبيبة أمك .... )
اتسعت عينا مسك و هي تنخفض بالقوة اثر جذب السيدة لها بلهفة ....
فأغمضت عينيها منتظرة أن ينتهي هذا العناق .... لكنه طال و كأن تلك السيدة كانت تنتظرها منذ زمن طويل و قد عثرت عليها أخيرا ....
ابعدت مسك نفسها عن والدة امجد ببطىء .... و هي تنظر الى ملامحها البشوشة الغير مبصرة .... ثم قالت بجمود
( تفضلي ....... )
أمسكت السيدة بكف مسك و قالت بحبور
( ساعديني أنتِ ........ )
ارتبكت مسك و عقدت حاجبيها , الا انها لم تملك سوى الإمساك بكفها و مساعدتها لتدخل بحذر بينما قالت وفاء مازحة
( من أكثر منكِ حظا الآن يا مسك !! ..... لقد نلت شرف مساعدة خالتي الجميلة بناءا على طلبها الخاص و هذا نادر جدا .... لقد بدأت أشعر بالغيرة ..... )
" من منكِ أكثر حظا !!!!! ..... "
لكم شعرت مسك بالغيظ و الغضب في تلك اللحظة ....
و كان التزامها الصمت يعد ارادة قوية منها .....
أغمضت عينيها للحظة و هي تأخذ نفسا عميقا كي تسيطر على أعصابها .. ثم قادت والدة أمجد ببطىء الى أن ساعدتها على الجلوس الى أقرب أريكة .... و ما أن همت بالإبتعاد , حتى تشبثت بها السيدة و جذبتها قائلة
( الى أين أنتِ ذاهبة ؟؟ ..... تعالي و اجلسي بجواري ....... )
جلست مسك بجوارها رغما عنها و غضبها الداخلي يتزايد شيئا فشيئا .... بينما تلك المراة لا تقبل بأن تفلتها أبدا , ....
اما وفاء فجلست على كرسي مقابل و هي تقول
( لقد أصرت خالتي على رؤيتك هذه المرة ....... )
نظرت مسك اليها قائلة بعدم فهم
( هذه المرة !! ......... )
أومأت وفاء قائلة
( نعم ..... كانت تريد المجىء معي كي تقوم بواجب العزاء منذ أشهر .... لكنني أخبرتها أنكِ لستِ مستعدة ..... )
آآآه نعم لقد تذكرت ....
بعد وفاة سليم .... لقد اتصلت بها وفاء مرارا كي تأخذ منها موعدا لتقوم بواجب العزاء ... الا أن مسك كانت تتهرب منها .... حتى توالت الأشهر فتوقفت وفاء عن المحاولة ...
حسنا لكن هذا ليس عذرا لهما كي يباغتاها بهذه الزيارة المفاجئة دون موعد .... و كأنه فرض بالقوة !!!! ....
ربتت والدة أمجد بكفها الحنون على ركبة مسك و هي تقول بلطف
( البقاء لله يا حبيبتي .... لقد حزنت جدا للخبر ..... )
التقطتت مسك نفسا غاضبا ....
لكم تكره المجاملات الاجتماعية !! ....
كيف يمكن لامرأة ان تحزن لوفاة ابن عم فتاة لم تقابلها سوى مرة واحدة .... بينما لم ترى المتوفي اطلاقا ...
ما تلك المبالغة !! ......
أبقت مسك على هدوءها الظاهري دون أن تجيب فتابعت المرأة برفق حزين
( هل ترك الفقيد أطفال من بعده ؟!! ........... )
ارتبكت مسك من السؤال المفاجىء .... لكنها قالت بصوت مكتوم
( لا ..... لم يكن له أطفال ...... )
تنهدت والدة أمجد و قالت بحزن
( لا أعلم إن هذا أكثر رحمة لزوجته , فلم يتيتم لها أطفال ...... أم أحزن لحالها في بقائها وحيدة قبل أن تحظى بطفل يملأ حياتها و يعوضها عن فقدها لزوجها ..... )
صمتت و هي تتنهد بتعاطف ثم قالت
( عسى الله الا يحرم أحدا من الذرية ..... و يعوضها خيرا بصبرها على الإبتلاء ..... )
أطرقت مسك بوجهها دون أن تجيب .... لقد قررت التزام الصمت تماما ....
لكن ملامحها كانت كئيبة ... و كانت هذه الزيارة هي آخر ما توده في هذا اليوم تحديدا ...
تطوعت وفاء لتقول بلطف
( كفى حديثا عن هذا الموضوع يا خالتي .... لقد بان الحزن على وجه مسك و نحن لم نأت اليوم كي نجدد أحزانها .... )
ارتفع حاجبي والدة امجد و اتسعت عيناها بحنانٍ أمومي مفاجىء .... فرفعت كفها الى أن لامست وجه مسك , فاحتضنت ذقنها و هي تقول بحرارة و لطف
( لا يا حبيبتي ..... لا تحزني , إنه طريق و الكل يجتازه , ...... رحمه الله و اسكنه فسيح جناته ... )
لم ترد مسك مجددا , فشدتها السيدة بلطف و هي تقول مبتسمة
( تعالي الى حضني يا قمر .......)
أغمضت مسك عينيها و هي تتشنج ... هامسة لنفسها بتوتر و غضب
كفى عناقا ...... كفى .... لا أطيقه .......
الا أنها وجدت وجهها يرتاح على كتف المرأة بحنان و هي تربت على شعرها قائلة ...
( كم أنتِ جميلة يا حبيبتي ....... تبدين كالبدر .....)
رفعت مسك ناظرة اليها قليلا بدهشة .... فضحكت وفاء و هي تقول بخبث
( لا تتعجبي هكذا يا مسك .... لقد وصفك أمجد لها بالتفصيل و خالتي لم تتوقف يوما منذ أن تقابلنا في المرة الأخيرة عن طلب رؤيتك .... لكن الظروف لم تكن سانحة ....)
احمرت وجنتي مسك قليلا .... و الغضب في داخلها ينتشر و ينتشر ... مرسلا ذبذباتٍ خطيرة في الجو ....
لذا و حقنا للدماء ... حاولت النهوض قائلة بأدب بارد
( لحظة واحدة ........... )
الا أن والدة أمجد أمسكت بكفها قائلة
( الى أين أنتِ ذاهبة ؟؟ ......... )
زفرت مسك دون صوت و قالت بصبر على وشك النفاذ
( سأحضر لكما مشروبا .... ماذا تفضلان ؟؟ ..... )
نهضت وفاء من مكانها و هي تقول ببساطة
( ارتاحي أنتِ يا مسك ..... أنا سأعد الشاي ...... )
اتسعت عينا مسك و هي تقول بصدمة
( لا ..... لا ..... من فضلك اجلسي ..... )
الا أن وفاء قالت مبتسمة و هي في طريقها للمطبخ بالفعل
( أنا مصممة ..... أنا أعرف طريق المطبخ فشقتك كشقتي , ارتاحي انتِ و تبادلي الحديث مع خالتي .... )
فغرت مسك و هي ترى وفاء تتحرك في شقتها بأريحية و دون خجل
فهمست لنفسها
" ما الذي يحدث ؟!! ... ما تلك الجرأة الأقرب للوقاحة ؟!! .... "
لكن كف والدة أمجد أعادتها الى وعيها و هي تربت على ركبتها فالتفتت مسك اليها و هي تسألها
( كيف حالك يا حبيبتي ؟؟ ...... اشتقت اليكِ ... )
زمت مسك شفتيها بنفاذ صبر و قالت من بين أسنانها
( لم نتقابل الا مرة واحدة فقط ..... هل معقول أن تشتاقي الي سيدتي ؟!! ...... )
اتسعت ابتسامة المرأة و قالت ببشاشة
( أولا لا أريد سماع كلمة سيدتي تلك .... أنا أسمي أم أمجد .... و لكِ أنتِ فقط , يمكنك أن تدعينني بخالتي مثل وفاء .... لكن لو أردتِ من الآن يمكنك أن تدعينني بأمي ..... )
هتفت مسك مصدومة قبل أن تستطيع منع نفسها
( أمي !!!!! ......... )
رقت ملامح والدة أمجد أكثر و قالت بحنان
( خرجت من فمك بطعم السكر ..... ما أجملها منكِ ..... )
تنهدت مسك و هي تنظر بعيدا و قد بدأ توترها يهدد بأن يفضحها , فقالت والدة أمجد متابعة
( ثانيا وهو الأهم .... إن لم أشتاق الى عروس ابني فلمن أشتاق اذن ؟!! ... اشتاقت لكِ الجنة يا حبيبتي ... )
التف رأس مسك بقوة لتنظر اليها ... ثم هتفت هذه المرة بصدمة
( عروس ابنك !! ...... لكن .....)
قاطعتها أم أمجد بحنان
( لقد تأخرنا في طلب يدك من والدك , لكن الظروف التي مرت بها عائبتك لم تكن مناسبة .... لذا تحججت اليوم كي آتي و اراكِ ..... )
حكت مسك جبهتها و هي تقول بخفوت
( ياللهي !! ........... )
الا أن أم أمجد قالت بنعومة
( منذ وقت طويل , لم أشعر بولدي أمجد يتحدث عن فتاة كما سمعته يتحدث عنكِ ....... )
رفعت مسك وجها مرتبك قليلا و قالت بفتور
( حقا !! ....... كيف ...... )
ابتسمت أم أمجد لتقول برقة و هي تربت على كف مسك
( لمست في صوته اهتماما خفيا , حاول أن يخفيه عني ... الا أن أذني المرهفة التقطته .... لقد بدأ ولدي يكبر في العمر و أنا أكثر .... و لا امنية لي في الحياة سوى أن أحمل طفله بين ذراعي قبل أن أموت ..... )
امتقع وجه مسك فسارعت الى خفضه و هي تقول بجمود
( نعم ...... حقك ..... )
قالت أم أمجد مستبشرة
( لا أفكر في شيء تقريبا منذ أشهر سوى في هذا الطفل الذي انتظره .... الغالي ابن الغالي ... ابن حبيب عمري ..... أريد أن أراه سعيدا مرتاحا في بيته و مع عروسه .... لقد تعب من أجلنا كثيرا و آن له أن يرتاح .... )
ظلت مسك صامتة ... ناظرة الى البعيد .... لكنها لم تدرك بأن كفها الحرة كانت تغطي كف ام امجد و كأنها تطلب الدعم من انسانة غريبة .....
قالت أم أمجد بهدوء و أمل
( هل تفكرين في ترك عملك يا مسك ؟؟ ....... )
ارتفع حاجبي مسك و هي تنظر اليها , ثم قالت بعدم فهم
( ماذا ؟!! ..... بالطبع لا ..... لكن لما السؤال ؟!! ..... )
ابتسمت أم أمجد بخجل و قالت
( كنت أتمنى لولدي ربة منزل .... متفرغة لتربية أطفاله , ليس تزمتا مني .... لكن انتِ ترين وضعي .... لن يمكنني المساعدة كثيرا و كم يحزن هذا قلبي .... حين أسمع عن الجدات و ما يقدمنه من مساعدات الى أحفادهن .... أشعر بالشفقة على أحفادي .... )
ضحكت أم أمجد فجأة بحنان و قالت متابعة
( هل تصدقين هذا !!! ..... أنا لا أتخيل وجودهم فحسب , بل أنني أشفق عليهم ايضا و أتمنى لهم جدة أكثر نفعا مني ...... )
ازدادت شحوب وجه مسك ... و غارت عينيها في نظرة شاردة طويلة , بينما تابعت أم أمجد قائلة برقة
( فهمت من أمجد أن ...... والدتك متوفية ...... )
ابتلعت مسك الغصة في حلقها و قالت بصوتٍ متزن الا أنه بدا مختنقا قليلا
( نعم والدتي متوفية ........ منذ سنوات .... )
لا تذكر بأنها أخبرت أمجد عن ذلك .... لكنها لم تشغل بالها كثيرا عن كيفية معرفته بوفاة والدتها ....
أما والدته فضمتها الى صدرها قائلة
( يا حبيبتي ... رحمها الله .... اعتبريني والدتك من اليوم .... كنت أتمنى أن أكون أكثر نفعا , لكن ما باليد حيلة .... الحمد لله على كل حال , لقد تحمل أمجد عبء مساعدتي لسنواتٍ طويلة ..... قلبي راضٍ عنه و عنكِ يا حبيبتي .... )
رفعت مسك ذقنها و التقطت أنفاسها قائلة بحزمٍ زائف
( هل يعلم السيد ..... هل يعلم أمجد بزيارتك ؟؟ ...... )
اتسعت ابتسامة والدته اكثر بخبث و هي تقول
( لا ...... لقد تهورت من نفسي حين لم اطيق الإنتظار أكثر ...... )
أومأت مسك بوجهها و هي تقول بصوتٍ مكتوم
( نعم ........ كما توقعت ....... )
ثم رفعت وجهها و نظرت الى السيدة قائلة بهدوء
( لكن كيف وصلتِ الى هنا اذا لم تمانعي في السؤال ؟!! ........ على ما أعتقد أن أمجد لا يزال في العمل , تركته هناك منذ ساعتين و كان لديه المزيد من الأوراق عليه انجازها .... )
ابتسمت ام امجد اكثر ... ثم قالت بخبث
( احضرتني مهجة ابنتي ..... شقيقة أمجد ...... أنا لدي ثلاث أبناء ... أمجد هو الأكبر و مهجة و مصطفى .... )
بهتت ملامح مسك و قالت بتوجس
( اخته ؟!! ..... و أين هي ؟!! ........ )
أجابتها أم أمجد قائلة
( تنتظرنا في شقة وفاء ... لم نرد أن نثقل عليكِ بزيارة ثلاثتنا , على أنها أكثر منا حماسا و هي على الأرجح الآن تتقلب على الجمر كي تراكِ .... )
اصدرت مسك صوت واهي يبدو كضحكة باهتة ... ثم قالت بلا تعبير
( كم هي مراعاة منكِ سيدتي ....... )
اجابتها ام امجد بتصميم حاسم ...
( خالتي .... أو أمي أفضل ........... )
ردت مسك بقوة قليلا
( خالتي أم أمجد .... اسمعيني للحظة رجاءا ........ )
لكن أم أمجد قاطعتها أخيرا قائلة بمرح
( مهجة متزوجة و لديها أربعة أطفال ...... أمجد يطلق عليهم جيش التتار .... )
ارتفع حاجبي مسك و قالت
( أربعة !!!..... ألم تتسرع قليلا في مثل هذا العدد ! ...... )
ضحكت أم أمجد و قالت بحنان
( لقد خسرت الكثير من صحتها بالفعل , .... زوجها كان يريد الأطفال كلهم متقاربي الأعمار و حين بدأ وضعهم المادي يتأثر ... سافر للعمل في الخارج و تركها هنا هي و اطفالها , لكن أمجد يتحمل مسؤوليتها هي و اطفالها و يساعدها دائما ..... و يخبرها باستمرار مهونا عليها الأمر , أن أطفالها هم الجيل الجديد لأسرتنا الصغيرة وهو يريد لتلك الأسرة أن تكبر و يتزايد عدد أفرادها .... انه يعشق الأطفال , لو تريه يلعب معهم , ستظنين بأنه قد عاد طفلا صغيرا .... لقد حمل المسؤولية منذ وقت طويل بعد وفاة والده رحمه الله .... و لم يعش الكثير من طفولته و مراهقته ... لقد ربى اخويه و اصبح لهم والدا لا أخا ..... )
كانت مسك تنظر اليها بنظرات فارغة ... ثم اجابت في النهاية بكلمة واحدة فقط
( نعم ............ )
ترددت أم أمجد قليلا ثم رفعت أصابعها و لامست شعر مسك و قالت بخجل
( الا تفكرين في الحجاب يا مسك ؟؟ ....... )
ارتفع حاجبي مسك اكثر ... حتى كادا أن يلامسا منابت شعرها !! ... تلك السيدة لا تنفك عن ادهاشها و صدمتها كل لحظة ... لكنها تمالكت نفسها و قالت باتزان
( لماذا السؤال تحديدا ؟؟ ....... )
اجابتها أم أمجد بمزيد من الخجل
( آآآه ..... أنا لا أقصد أن أضايقك , لكن أمجد لطالما فضل أن يتزوج من فتاة محجبة ..... )
فغرت مسك شفتيها باستنكار ... و كانت على وشك الصراخ بغضب ملوحة بكفيها , الا أن منظر وجه السيدة الهادىء و المليء بالأمل و السعادة ... كان يمنعها و يجعلها تتمسك بذرة التهذيب المتبقية لديها ...
الا أنها ظلت تلوح في الهواء و تضغط على أسنانها حتى كادت أن تحطمها , بينما تابعت أم امجد قائلة برقة
( شعرك ناعم كالحرير .... من المؤكد ان أمجد يغار من رؤية الجميع له ..... )
أرادت مسك الصراخ عاليا و بسخرية أن غدير لم تكن محجبة ؟!! .... و لا تظن أن أمجد قد اعترض يوما ....
و لا تظن أن غدير نفسها فكرت في الحجاب يوما ,
على الرغم من أنها ارتدته و خلعته أكثر من مرة .... الا أن مسك تعرفها أكثر من نفسها ...
كانت تفعل هذا كل مرة لسبب معين .... و ليس عن اقتناع ....
ترى هل تعرف أم أمجد عن غدير ؟!! .......
أسقطت مسك كفيها و قد شعرت فجأة بحالة من اليأس و الكآبة .... و نظرت حولها بنظراتٍ غائرة ....
ما اللذي يحدث ؟!!! ....
ما تلك الأسرة الغريبة ؟!! .... و لماذا اقتحمت حياتها دون اذن ؟!! ....
أسرة متراجعة فكريا .... تتعامل مع الفتاة المترشحة للزواج من ابنها و كأنها ملكية خاصة , قد يتوجب اجراء بعض التعديلات عليها ....
لا عجب أن هذا البغيض هو نتاج تلك الأسرة بتفكيرها المتراجع .....
ارجعت مسك ظهرها للخلف و هي تكتف ذراعيها متنهدة بحزن ....
شيء ما بعث من حولها غيمة من الكآبة , طغت على موجات الغضب .... و كانت تفضل الغضب أكثر !!.....
.................................................. .................................................. ..................
أنت تقرأ
طائف في رحلة ابدية
Romanceمن بين جموع البشر ... كان هو الاول والاخير... واخر من رغبت بمواجهته في هذه الارض القاصية الواسعة صرخ بها والنار المشتعلة باللون الفيروزي تزيد من جذور روحه اختاري - فتبسمت شفتاها بمرارة بلون اكثر قتامة وهي تهمس بغضب وهل بين القانون والحياة اختيار...