( كم الساعة الآن يا ولدي ؟!! .................. )
نظر أمجد الى ساعة معصمه , ثم قال مبتسما بخفوت وهو يعاود النظر الى أمه
( الحادية عشر يا حبيبة ...... )
ارتفع حاجبي والدته و قالت بدهشة متفاجئة
( هل مر الوقت سريعا هكذا ؟!! ...... لم أشعر به , هيا ..... اذهب الى شقتك .... )
ابتسم أمجد وهو يربت على كفها قائلا بمزاحٍ حنون
( هل مللتِ من رفقتي يا أم أمجد ؟!! ......... )
تأوهت والدته و هي تتشبث بكفه قائلة بحرارة
( والله لو أمضيت المتبقي من عمري كله برفقتك , لن تكفيني ....... )
انحنى أمجد اليها ليقبل جبهتها وهو يقول بخفوت
( حفظك الله لي يا حبيبة .......... )
رفعت أمه يدها تتلمس رأسه برفق حتى قبلت وجنته , ثم قالت بحزم
( هيا الآن .... لن تضعف قلبي بكلامك الآسر , اذهب الى زوجتك ... لا يصح أن تتركها حتى هذه الساعة و في بداية زواجكما ..... )
ابتسم أمجد بسخرية بسيطة , الا أنه قال بهدوء
( لا تقلقي يا أم أمجد ..... إنها لا تهتم .......... )
ارتفع حاجبي والدته قليلا , ثم عقدتهما و هي تقول بتردد و بنظرة غير مبصرة
( لا تهتم ؟!! ............ )
أعاد أمجد صياغة عبارته , فقال بلطف وهو يربت على كفها مجددا
( أقصد أنها متفهمة جدا لرغبتي في قضاء بعض الوقت معكِ , خاصة بعد اقامتنا في شقة مستقلة .... )
طلت والدته على صمتها لبضعة لحظات و هي عاقدة حاجبيها و كأنها غير مقتنعة تماما , الى أن قالت أخيرا بخفوت و دون مقدمات
( أنت لست مرتاحا يا ولدي .......... )
ارتفع حاجبي أمجد وهو ينظر الى وجه والدته , الحنون و نظراتها البعيدة الغير مبصرة و على الرغم من ذلك فهما العينان اللتان تريانه أكثر من أي شخص آخر ....
فقال بصوتٍ خافت متراجع
( ماذا تقصدين يا حبيبة ؟؟ .......... )
قالت أمه دون مواربة و بنبرة أكثر حزما
( أنت لست مرتاحا في زواجك ...... و لا يمكنك خداعي ...... )
ظل أمجد صامتا قليلا , ثم قال محاولا صرف نظرها عن الأمر
( ما الذي جعلك تظنين هذا ؟!! ....... )
رفعت والدته يدها في الهواء بحثا عن وجهه الى أن لمسته فأمسكت بذقنه و أدارته اليها و قالت بقوة هامسة
( انظر الي ..... تستطيع خداع الجميع , لكن ليس والدتك التي تعرفك من نبرة صوتك , أكثر من نفسك ....... )
لم يرد أمجد على الفور .... بينما تابعت والدته تقول بصوت أكثر خفوتا و حزنا ...
( أين ذهبت نبرة الحماس التي كانت تتراقص في صوتك و أنت تتحدث عنها ,قبل الزواج ؟!! ..... لماذا تبدو شاردا باستمرار بخلاف أي زوج سعيد بالمرأة التي اختارها بنفسه ؟!! ...... )
لم يرد أمجد مجددا , بل ظل صامتا فقالت والدته بقلق
( هل تشعر بالندم ؟! .... هل عاودك التفكير في أمر الإنجاب , فندمت ؟!!.... )
رفع أمجد وجهه و نظر اليها , ثم قال بصوتٍ هادىء صادق
( لا يا أمي ..... لم أندم , و لا أظنني سأفعل ...... كل يوم يصدق ظني , و أكتشف اي امرأةٍ رائعة تزوجت ...... كل يوم أعرفها به أكثر , يمر و كأنه خط جديد في لوحةٍ رائعة الجمال ..... )
صمت بللحظات فهمست والدته بأسى و هي تربت على ذقنه قائلة
( اذن ما الأمر ؟!! ............ )
تنهد أمجد قليلا , ثم قال بصوتٍ متوتر
( أشعر بأنني لا أمثل لها , ما تمثله هي لي ........ )
ارتفع حاجبي والدته بدهشة قبل أن تهتف باستنكار
( بعد كل ما قدمته لها من تضحية ؟!! ........ كيف لها أن تشعرك بهذا ؟!! ..... )
قال أمجد بقوة
( أنا لا أريد منها ثمنا , لأي تضحية قدمتها .... أنا فقط أريدها أن ......... )
صمت متنهدا , غير قادرا على ايجاد الكلمات المناسبة و التي تخنق صدره بعدم راحة .....
ثم قال أخيرا وهو ينظر الى والدته بتعب
( أريدها أن تكون انسانة ..... تبكي خوفا من احتمال ابتعادي عنها ...... لكنني متأكد أنني لو فعلت , فستودعني مبتسمة بكل أناقة ..... و تشكرني على الأيام الجميلة , ..... لا يفعل الإنسان هذا , الا مع شخص لم يمثل له شيء .... أي شيء ..... )
صمت قاطعا كلامه وهو يعقد حاجبيه بشدة , ثم لم لبث أن حك جبهته وهو يضحك بعصبية قائلا
( ما هذا الذي أقوله ؟!! ...... هذه المرأة رائعة معي بكل بساطة , فمما أشكو ؟!! ........ )
كانت والدته تنظر اليه بدقة على الرغم من غيومِ عينيها , ثم قالت أخيرا بصوتٍ حزين ملهوف
( تشكو من جانبٍ بك لن تستطيع تغييره أبدا ..... أنت تعطي من تحب قلبك بالكامل و تتوقع منه أن يبادلك بالمثل ..... أنت يا حبيبي لا تعرف السطحية و الأناقة الفارغة , أنت تمنح من روحك دون حساب ..... لطالما كانت هذه نقطة ضعفك تجاه الجميع ..... )
ابتسم أمجد بسخرية و قال متنهدا
( ربما آن الأوان كي أتخلص من هذا الجانب التافه اذن ........ )
عقدت والدته حاجبيها و قالت بحزم
( لا تقل هذا ...... لن تكون أمجد ولدي الذي أعرفه , ...... )
ابتسم أمجد دون مرح , ثم قال بمزاح زائف
( كفى كلام عني الآن , لما لا ترتاحي قليلا .... فأنتِ لم تعتادي السهر و أنا سأبقى بجوارك الى أن تنامي .... )
قالت والدته قاطعة , بصرامة
( بل ستذهب الى زوجتك من فورك .... فأنا سأظل مستيقظة قليلا , الى أن يطرق النوم أجفاني ..... )
قال أمجد مترددا ,
( لكن مهجة نائمة الآن ..... و لا أشعر بالراحة في تركك ...... )
قالت أمه دون تراجع
( سأكون بخير , و إن احتجت شيئا فسأنادي عليها ..... لا تقلق ..... هيا اذهب ..... )
اتجه أمجد الى باب غرفتها بعد أن تأكد من ايصال كل ماتحتاجه الى متناول يديها .... لكن و قبل أن يخرج ... نادته قائلة
( أمجد ........... )
التفت ينظر اليها بصمت , و هي أدركت أنه يفعل , فقالت متحفزة كأم مستعدة على افتراس من يجرؤ على المساس بإبنها الذي سيبقى في نظرها طفل مهما خط الشيب شعر رأسه
( لم أوافق على تلك الزيجة الا لتكون سعيدا ......... ضحيت بأكبر أمنية لي في سبيل سعادتك , ... أما سعادتك , فلن أضحي بها أبدا ...... )
لم يرد أمجد عليها سوى بكلمتين .... خافتتين
( تصبحين على خير يا حبيبة ...... ....... )
.................................................. .................................................. ...................
رفعت مسك عينيها عن الكتاب الذي كانت تقرأه ما أن سمعت صوت المفتاح في باب شقتهما , ثم رأت أمجد يدخل بهدوء صامتا ....
راقبته لبضعة لحظات بعينين حادتين , الى أن رفع وجهه اليها أخيرا و قال بخفوت
( مساء الخير ....... ظننتكِ نمتِ منذ فترة !! ......... )
لم ترد مسك على الفور , بل كانت تنظر اليه بنفس النظرة المتفحصة ,ثم وضعت كتابها جانبها و نهضت من مقعدها و هي تقول ببساطة
( كنت أنتظرك .......... )
ارتفع حاجبي أمجد وهو يقول واضعا مفاتيحه جانبا ...
( هذه سابقة من نوعها ............. )
توقفت مسك مكانها للحظة , .... قبل أن تعاود الإقتراب منه ببطىء , ثم قالت بصوتٍ متزن
( ما الذي أفهمه من هذا تحديدا ؟!! .......... )
نظر اليها أمجد و قال بنفس البساطة
( قصدت فقط أنكِ تنامين ما أن يطرق النوم عينيكِ ...... إنها المرة الأولى التي تشعرين فيها بغيابي .... )
رفعت مسك حاجبيها و هي تتأمله دون كلامٍ وهو يفرغ جيبيه من محفظته و هاتفه دون أن ينظر اليها ....
ثم قالت بفتور
( الازلت غاضبا مني ؟!! ......... )
رفع أمجد وجهه لينظر اليها و قال بنبرة طبيعية
( لأي شيء ؟!! .............. )
فتحت مسك شفتيها تنوي الكلام , الا أنها لم تلبث أن تراجعت , ثم قالت بإبتسامة أنيقة
( لا شيء ......... كنت أسال فقط , هل تناولت الطعام مع والدتك ؟!! ...... )
سوى أمجد كتفيه , ثم نظر اليها قائلا
( لا ...... فضلت أن آكل هنا , في بيتي ......... )
ابتسمت مسك أكثر قليلا و قالت بهدوءٍ راض
( جيد ..... فأنا أيضا كنت أنتظرك ........... لما لا تبدل ملابسك , الى أن أعد الطعام ..... )
و دون أن تنتظر منه ردا , كانت تتجه الى المطبخ , الا أنه أمسك بيدها و جذبها اليه برفق , حتى رفعت وجهها اليه متسائلة .... فنظر الى عينيها مليا قبل أن يقول بجدية
( كيف كانت مقابلتك اليوم ؟؟ .............. )
مالت ابتسامتها قليلا , ثم قالت بحذر
( ظننتك لن تسأل ......... لقد كانت موفقة جدا من وجهة نظري , الا أنني لا أعلم إن كنت قد حصلت على الوظيفة بالفعل ..... سأعرف خلال أيام ...... )
اومأ أمجد برأسه صامتا , ثم قال بهدوء و ثقة
( سيقبلون بكِ ...... من ذا الذي لا يقبل بمسك الرافعي ؟!! ........ )
ارتجفت ابتسامتها قليلا ... و دلكت احدى ذراعيها بكفها الأخرى و هي تبدو متململة بين ذراعيه , الى أن قالت أخيرا بخفوت
( س ..... سأعد الطعام , إنه جاهز .... سأقوم بتسخينه فقط .....و إن كنت لا .. )
كانت تهمس و هي تتراجع برأسها للخلف بينما شفتاه تلامسان عنقها بنعومة و رفق ... و أصابعه تعزفان لحنا باتت تدرك نغماته مؤخرا على جسدها , مدركا تماما , كيف يشعل حماسها بمجرد لمسةٍ تجعلها تقطع كلماتها الخافتة لتلتقط نفسها بين كل كلمةٍ و أخرى .....
الا أنها تابعت محاولة التماسك
( و إن كنت لا أفضل الأكل في ...... هذه الساعة المتأخرة من الليل ...... )
همهم أمجد قائلا من بين قبلاته الناعمة ,
( حقا !! ............. )
ضحكت و هي تشعر بأنفاسه تدغدغها , فأطبقت عنقها على تجويف كتفها بارتجاف ... ثم قالت بإختناق
( بلى ..... فهذا غير صحي تماما .......... )
كان قد جذبها اليه الآن بقوة حتى رفعت عينيها اليه متسائلة بدهشة , فقال لها مبتسما
( ما رأيك باقتراحٍ آخر اذا يا سيدة ألمظ ؟! ........ )
تألقت ابتسامتها بخبث و هي تهمس متفاعلة معه بكل حواسها
( هذا صحي أكثر على الأقل ....... يفقدك بعض السعرات , بعكس الأكل ليلا .... )
رفع أمجد وجهه عنها وهو يقول رافعا حاجبيه بحيرة
( ما هو هذا الذي يُفقِد السعرات ؟!! ..... أنا لم أقترح شيئا بعد !! بما كنتِ تفكرين ؟!! ...... )
عقدت حاجبيها بشدة .... ثم لم تلبث أن دفعته و هي تقول بفظاظة
( اذن ابتعد و احتفظ باقتراحاتك لنفسك ..... أنا ذاهبة لآكل ...... لقد جعت انتظارا ... )
أسرعت الخطى تجاه المطبخ , الا أنه كان أسرع منها فرفعها بين ذراعيه وهو يضحك قائلا
( سيظل رأسكِ يابسا و لسانك طويلا .... و ذكائك العاطفي محدود , لا أعلم لماذا أحببتك صدقا , ربما كان هذا نتيجة المرة الوحيدة التي دعت بها أمي عليً في مراهقتي و لا تزال تندم عليها حتى يومنا هذا ..... )
ضربت مسك صدره وهي تقول بحدة
( أنزلني ...... لا أريد منك شيئا ........ )
خفتت ضحكات أمجد قليلا , و نظر الى وجهها المنفعل العابس ..... ثم همس دون أن يحررها أو ينزلها أرضا
( هل سمعتِ ما قلت ؟!! ...... أحبك ....... )
سكنت مسك بين ذراعيه و قد ارتاحت يداها على كتفيه ..... و بهتت ملامحها قليلا ....
و طال بهما النظر ... كل ينظر الى عيني الآخر و في عينيه حوار قاتم , يخالف رغبة عواطفهما الجامحة ....
بدا أمجد منتظرا , عاقدا حاجبيه .... بينما أسبلت مسك جفنيها قليلا و مالت برأسها الى كتفه دون كلام ....
و هي تعقد ذراعيها حول عنقه أكثر .....
و حين يئس من ردها , تحرك بها الى غرفتهما في صمت .... صمت استمر خلال الساعة التي تلت و التي لم يقطعه خلالها سوى صوت أنفاسهما المتبعثرة ...
صمت تام لم يجرؤ على قطعه بكلمةٍ كي لا يفقد هذا الجو الحميمي الدافىء بينهما .... الى أن نامت بين ذراعيه أخيرا مبتسمة برقة و هي تحتضن ذراعه و تنام وجنتها عليها ....
بينما بقى أمجد مستيقظا , ينظر اليها طويلا دون ابتسام وهو يداعب خصلات شعرها .....
منذ اليوم الأول لزواجهما و هو يعلم أنه حظى بالزوجة المثالية ....
زوجة كما يقول الكتاب ....
زوجة بمواصفات رفيعة المستوى .......
زوجة أنيقة , راقية ..... قوية , أخلاقها لا خلاف عليها ......
مرحة بالفطرة ..... مجرد سماجتها تضحكه دون جهد , و حتى دون أن تحاول افتعال المرح .....
تجيد اعداد الطعام الصحي بمهارة .... و حين أبدى دهشته ذات يوم ... قالت ضاحكة بتحدٍ
أنه لا توجد فتاة من عائلة الرافعي لا تجيد الطبخ .... فهذه وصمة عار .... و هي لا تقبل بأن تكون أقل مستوى في أي شيء ....
هذا دون ذكر توافقهما الجسدي الملحوظ .....
نعم زوجة مثالية ......
مثالية أكثر من اللازم ..... و كأنها مرسومة بالمسطرة .....
و هذا ما كان يوتره ...
لا يريدها مثالية ..... مراعية لرغبته في البقاء مع والدته حتى وقت متأخر ,.....
لا تغار لأنها تثق بأخلاقه ..... لا بحبه
لا تفضي له بمقابلة العمل لأنها لم تعتقد أنه أمر شديد الأهمية بالنسبة له .....
أو ربما لم ترد أن تكون العلاقة بينهما أكثر عمقا عن مستوى معين ....
إنها تبقيه في المنطقة الآمنة من حياتها .... كي تسهل عليه الخروج فيما بعد ... مع رسالة شكرٍ لطيفة منها ...
أظلمت عينا أمجد وهو ينظر الى ملامحها الراضية المسترخية ....
انها تضعه خلف حاجز زجاجي بارد .... ليتمتع كل منهما بالنظر الى الآخر و كأنه في واجهة أنيقة للعرض دون التوغل للمظورات
فأحيانا تغيب عنها المثالية للحظات حين ينشأ بينهما خلافٍ لسببٍ أو لآخر ..... و يحاول هوا اختراق هذا الحاجز الزجاجي ... و فرض سيطرته على مشاعرها ...
حينها تبدأ الشخصية التي يمقتها في الخروج للسطح ....
الشخصية المتعجرفة التي تدخرها لتدافع بها عن نفسها ضد أي ممن قد تسول له نفسه بمس كرامتها ولو بكلمة ....
مسك الرافعي أفهمته من اليوم الأول أنها ستكون زوجة مثالية , طالما عاملها على هذا الأساس ...
أما بخلاف ذلك .... فستكون شخص آخر , لا يود التعرف اليه .....
الغريب في الأمر .... أنها منحت لشخص مثل زوج اختها امتيازات لم تسمح له هو زوجها بأن ينالها ...
منحته الثقة ..... على الرغم من كل عيوبه و رفضها التام لتصرفاته , الا أنها تمنحه ثقة مطلقة ...
و هذا هو ما حجبته بإرادته عن علاقته به كزوجها ....
الثقة المطلقة ......
.................................................. .................................................. ..................
كانت تعلم أنها تتهور كطبيعتها ....
لكن الا تستحق حياتها منها لحظة تهور واحدة ؟!! .......
لقد كبتت كل أحلامها منذ بداية ادراكها للحياة .... قبلت بدراسة لا تحبها , و عملٍ لا تطيقه ... و زوج تنفر منه ... و في النهاية مدير يتحرش بها ....
على مدى تسع و عشرين عام و هي تقبل بما لا تريد .... لأنها الفرص الأخيرة في حياتها ....
أما آن الأوان كي تنتفض و تسعى للحصول على ما تتمنى ولو لمرة ؟!! ....
كانت تظن أن الطلاق هو كل مبتغاها ....
لكن منذ أن ساقها القدر الى البناية التي يقطن بها .... وقد أدركت بأن مبتغاها هو الحلم الذي تحلم به كل فتاة ...
نعم هي تشعر بنفسها كفتاة يزدهر قلبها بالحب للمرة الأولى ....
لا مجرد امرأة مطلقة , على أعتاب الثلاثين من عمرها .....
مضى على سكنها هنا ما يقرب من العام و نصف .... و هي على أحلامها المسكينة في أن يشعر بها و يحاول التقرب منها ....
لكن الى متى ستنتظر ؟!! ...... و كم من أعوامٍ ستضيع ؟!! ....
وقفت ياسمين أمام باب البناية و هي تضم كنزتها بكلتا قبضتيها الى صدرها .... ناظرة للبعيد و هي تحاول تهدئة قلبها المرتجف ...
الى أن رأته خارجا من الباب في نفس موعده .....
رفع أمين وجهه الرزين فرآها أمامه ... و للحظة شعرت بخطواته تتباطىء قليلا مما منحها الأمل فانتفض قلبها أكثر ....
كم هو جذاب في رجولته ... ملامحه المتجهمة تضفي عليه هالة من الجاذبية تجعل الجنس اللطيف ينجذب اليه تلقائيا ...
لا مبالته بهن ... و رزانته .... ثقل تصرفاته ...
كلها مواصفاتٍ كانت تتمناها بأحلام يقظتها .... الوردية بكل درجاتها ...
أمامه هي تشعر بأنها في الثامنة عشر ....
لا مجرد موظفة مطلقة و مطحونة يوميا في التعامل مع كافة قطاعات الشعب ......
رسمت على وجهها ابتسامة متألقة ما أن اقترب منها .... الا أنه أخفض وجهه عن قصد و قال بإيجاز
( السلام عليكم ......... )
و أوشك على تجاوزها و المضي الى عمله , الا أنها نادته قائلة بقوة قبل أن يفتر عزمها
( و عليكم السلام و رحمة الله ..... أستاذ أمين , لحظة من فضلك .... )
توقف أمين وهو يوليها ظهره .... فسقط قلبها بين أضلاعها و ظنت أنه سيتابع طريقه دون أن يلتفت اليها , الا أنه استدار اليها متسائلا ...
و للحظة ظنت أن عيناه قد تجرأتها عليها للحظة أطول مما اعتادت منه ... قبل أن يخفضهما وهو يقول
( كيف حالك سيدة ياسمين .... تحت أمرك .... )
ابتسمت و هي تقول بعصبية قليلا
( سيدة !!! ...... لا داعي للألقاب , نحن .... جيران ..... و أنت ..... ساعدتني كثيرا .... )
لم يرد وهو ينظر بعيدا عن قصد , حتى ظنت أنه زفر بخفوت .... فابتلعت ريقها بصعوبة , ثم قالت باتزان
( كان استقبالكم لي غاية في الذوق و الكرم ... على الرغم من تطفلي على جمعكم العائلي ...... )
رمقها أمين بنظرة مختصرة , ثم قال بهدوء
( شرفتِنا ........ )
اتسعت ابتسامتها , ثم تنحنحت قائلة
( منذ فترة طويلة لم أشعر بجو العائلة كما شعرت في بيتكم ..... انت تعلم ... منذ وفاة والدي .... اقتصرت حياتي مع والدتي و أختي ..... و الآن صفيت بمفردي ...... )
قال أمين بنبرة جادة
( الحل بيدك .... يمكنك العودة للسكن مع والدتك , ...... هذا أفضل لامرأة في مثل وضعك ..... )
بهتت ملامح ياسمين و تسمع منه تلك النبرة الأقرب الى الهجومية .... فعقدت حاجبيها و هي تنظر أرضا بتوتر .... و صمت هوا شاعرا بضرورة المغادرة من هنا سريعا ...
فوقوفهما معا أمام البناية بهذا الشكل مثيرا للشك .... الا أنه و قبل أن يعتذر منها , تكلمت ياسمين قائلة بصوت باهت دون أن تنظر اليه
( أنت لا تعرف شعور امرأة مضطرة للسكن مع رجلٍ غريب ... يعايرها بطلاقها كل لحظة , حتى لو كان زوج أختها ..... لا تجد الخصوصية أو الكرامة ..... )
نظر اليها أمين الآن .... نظرة مطولة الى رأسها المنخفض , و شعرها المتطاير حول وجهها .....
ثم قال مفاجئا نفسه
( و هل وجدت الخصوصية و الكرامة الآن ؟!! ....... )
رفعت وجهها تنظر اليه مجفلة .... كانت تلك المرة الأولى التي يبادر فيها للكلام دون ضغط ....
فابتسمت بارتباك و قالت بضعف
( أحاول ............ )
أطرق أمين برأسه , ثم نظر بعيدا و قال بتغير مفاجىء و كأنه ندم على محاولته للكلام معها
( يجب أن أذهب الآن ...... لا يصح وقوفنا بهذا الشكل .... و أنتِ لماذا تقفين هكذا ؟!! ..... )
قالت ياسمين و هي تحاول تدارك نفسها و تذكر ما أرادت قوله ....
( أنا كنت ذاهبة لعملي .... لكن رأيتك خارجا فأردت أن أطلب منك طلبا .... )
نظر اليها متسائلا بحيرة ... و نظراته مترددة في تأمل ملامحها و .... بنيتها ....
ثم قال بخشونة
( تفضلي ..... تحت أمرك ........ )
ابتسمت و قالت بسعادة
( الأمر لله ..... كنت أتمنى منك الا تخيب ظني في رجاء خاص ..... عرفت من نورا أنها قد اجتازت اختبارها الأخير .... و كانت تشعر بالرغبة في الترفيه عن نفسها ..... لذا أتمنى منك السماح لها بزيارتي .... ليست وحدها بل مجموعة كبيرة من صديقاتها ..... سأدعوهن للغذاء ..... ان وافقت أنت .... )
تجهمت ملامحه بشدة و ظل صامتا , مما جعلها تشعر بإهانة بالغة ....
الهذه الدرجة يراها غير جديرة بالثقة ؟!! ....
تبا لها .... لماذا تقبل بهذه الإهانة ؟!! ....
أرادت في اللحظة تجاوزه و تجاهل رده لتبتعد عنه للأبد .....
و كادت أن تفعلها ....
لكن الغيظ بداخلها جعلها تعض على أسنانها ثم عادت لتلتفت اليه و هي تقول بقوة
( أنا دخلت بيتكم .... و أكلت من طعامكم , اصبح بيننا خبز و ملح .... ساعتدني قبلها و اخذتني الى أمي و بقيت معي حتى اطنئننت عليها ..... أقطن معكم منذ عام و نصف و لم ترى مني ما يثير شكوكك تجاهي الى هذا الحد ...... فقط أخبرني ما هو الضرر الرهيب الذي قد ألحقه بأختك الصغيرة ؟!! ..... )
كان يستمع الى نبرتها الحادة وهو متجهما .... متفاجئا من اندفاعها , و ما أن انتهت حتى قال بسرعة و دون تفكير
( أنا لا أتهمك بشيء اطلاقا ... لا تلصقي بي ذنب كهذا , ..... لكن أنا لا أعرفك ....... )
شعرت ياسمين بأنه صفعها أكبر صفعة ممكن أن تتلقاها في حياتها ...
صفعة احراج بالغ ..... و كأن في كلمته البسيطة , الرد البالغ
أنا لا أعرفك .... فمن أين لي أن أثق بكِ ؟!! ...
قد تكونين سيئة السلوك .... أو حتى مجرمة .... أنا لا أعرفك ......
رفعت ياسمين عينيها تنظر اليه بصمت و قد شحب وجهها تماما من الإحراج البالغ , ... فقالت بصوتٍ جامد
( معك حق ...... بعد اذنك سأنصرف ..... )
و بالفعل تجاوزته بساقين تتخبطان ... الا أنه ناداها بسرعة
( ياسمين ........... )
توقفت مكانها و شعرت بقلبها يدق بسرعة و غباء .... اسمها منه جاء دافئا بشكلٍ لم تتوقعه ....
فالتفتت تنظر اليه بصمت و بحدقتين مهتزتين .... فبدا مرتبكا , ثم قال أخيرا بخفوت
( لم أقصد أن أجرحك ...... أنا فقط ......... )
لم يجد المزيد من الكلام , فقالت تعفيه من الحرج
( أنت صادق ............ )
رفع وجهه ينظر اليها بصمت , فتابعت بنفس النبرة
( أكثر من اللازم ........ لا تدعني أؤخرك عن عملك أكثر من هذا , الى اللقاء ..... )
و استدارت مجددا .... الا أن صوته علا من خلفها يقول بصرامة
( متى تريدين أن تكون تلك الزيارة ؟!! ........... )
توقفت مكانها و تسمرت ... بينما فغرت شفتيها قليلا , ثم التفتت اليه و هي تتأكد مما يقصد ....
كانت ملامحه متجهمة كعادته .... لكن عيناه كانتا مختلفتين .... بهما نظرة لم تستطع تفسيرها كي لا يضيع قلبها ....
همست ياسمين أخيرا و هي تهز كتفها بتردد
( نهاية الاسبوع , .... اذا وافقت .................. )
أومأ أمين برأسه متفهما , ثم قال أخيرا بخشونة
( حسنا ........ )
ارتفع حاجبيها و هي تنظر اليه بدهشة , الا أنه تجاوزها بدوره منهيا الكلام قائلا
( من الأفضل لكِ الذهاب الى عملك ..... فوقوفك هنا , ..... خطأ ..... )
ابتعد عنها و تركها تنظر اليه بصدمة .... بدأت تتحول الى ابتسامة وردية .....
.................................................. .................................................. ....................
أخفضت سوار عينيها الى قبضة ليث التي أطبقت على ساعدها بقوة , ثم رفعت عينيها المتورمتين اليه ....
كان واقفا بذات الشموخ الذي لم يفقده يوما , منذ بداية شبابه .... هيبته التي كان الجميع يتكلم عنها قبل ان يبلغ الثلاثين حتى ......
يتطلع اليها بنفس النظرة التي لم تدرك معناها الا مؤخرا .... نظرة قاومتها طويلا و رفضتها رفضا باتا ...
نظرة عشق جادة و كأنها الحياة بالنسبة له .....
فهمست سوار بتعب
( أريد العودة لبيتي ....... أرجوك ....... )
رفع ليث يده الى وجنتها يحيطها برفق , ثم قال بخفوت حازم .... حنون
( ليس بعد ...... لم تنتهي مهمتي يا مليحة ....... )
عقدت حاجبيها و همست بعدم تركيز
( مهمتك ؟!! ........... )
أومأ ليث برأسه دون أن يحيد بعينيه عن عينيها , ثم قال بخفوت و ثقة
( مهمتي كانت أن تستعيدي طهارة سمعتك ............ )
فغرت سوار شفتيها المرتجفتين قليلا و هي ترفع يدها لتمسح بأصابعها , الا أن أصابعه سبقتها لتمسح الخط النديً الناعم و قال بألم
( الم تنفذ دموعك بعد حبيبتي ؟؟ .......... )
عضت على شفتيها و هزت رأسها قائلة بإمتنان و بنبرة مختنقة
( هذه الدموع لأنني استعدتها ...استعدت سمعتي و شرفي ... مهما قلت فلن أوفيك حقك مطلقا ........ )
ابتسم ليث قليلا وهو يضمها الى صدره بقوة في دارهما الذي غادراه ذات يوم ليلا هربا من اتهامات الالسنة الباطلة ....
و عادا الآن اليه فور خروجهما من دار ميسرة .....
خرجا معا أمام الجميع وهو ممسك بكفها بقوةٍ و لم يتجرأ أحد على اعتراض طريقهما .....
و كأن ألسنة أعمامه قد انعقدت تماما ...... وهم ينظرون اليهما بذهول .....
أما ميسرة فصرخت خلفهما
( لن أتركك تهنأ بها ...... لن أفعل , لاحقتها لعنة لن تنتهي أبدا ........ و أنت ستلحق بها )
حينها استدار ليث لينظر اليها .... فضاقت عيناه بنفور , حيث كانت هيئتها مخيفة ...
أقرب الى البشاعة .....
يعلم الله أنه لم ينظر اليها تلك النظرة من قبل , .... لم يراها بشعة مطلقا , حتى و إن كانت لم تجذبه تماما ...
لكن في تلك اللحظة , رآها كمسخ دميم ..... فقال بأسف
( كنت أشفق عليكِ من جهلك و سواد روحك ....... أما الآن فحتى الشفقة , أصبحت أغلى مما تستحقين )
صرخت ميسرة بعنف
( لا ترحل مع اللعينة ...... لا تفعل ...... )
الا أن والدها صرخ بها وهو ينهال عليها ضربا
( كفاكِ .... حططتِ هامتي أرضا أمام الجميع , ...... اخرسي ..... )
لم يلتفت ليث اليهم أبدا و لم يهتم
بل خرج مع سوار كي لا يسمع المزيد من صوتها المخزي ....
كان في حاجة للإنفراد بها , ....سوار دون غيرها ....
ضمها الى صدره بقوة حتى تبكي الى أن تنفذ دموعها تماما , ثم يمسحها لها ...
لم يتوقع أن تطلب منه العودة الى بيتهما , و طالما أنهما هنا في دارهما , فهذا يعني أنها قصدت العودة الى بيتهما في المدينة ...
فقال بخفوت وهو يضمها اليه أكثر
( ظننتك ستسرين بالعودة الى دارك يا مليحة ........... )
رفعت وجهها الشاحب المبلل اليه ثم همست
( لم أشعر به داري ........ أريد العودة لشقتنا هناك في المدينة , بعيدا عن البلدة و قوانينها .... بعيدا عن كل ما عايشته هنا من ألم ..... لقد منحت هذه الأرض أكثر مما احتمل و اكتفيت , فمهما بلغ حبي لها ... لكنني أريد الإبتعاد ..... )
ابتسم لها ليث بحنان و بدت عيناه بعمق المحيط ... قادرتين على ابتلاعها فلا تنجو منهما مطلقا ....
ثم قال بصدق لم يخطئه قلبها
( على الرغم من عنادك و غبائك و سوء تصرفك .... و فضلا عن رغبتي في بعض الأحيان بضربك حتى تفقدين الرؤية باتزان ..... الا أن تلك الأيام التي عشناها سويا في شقتنا هناك , كانت أسعد أيام حياتي على الإطلاق .......... )
ابتسمت له قبل أن تغمض عينيها على آخر دموعها التي انسابت من تحت جفنيها المنطبقين ....
و همست على مضض و كأنها تخجل من اعترافها
( لا أعلم إن كانت أسعد أيام حياتي .... فلم أكن أبدا بمثل هذا العنف و الغضب و الشعور بالقهر ... كما كنت هناك ..... أحيانا كنت أرغب أنا أيضا في ضرب رأسك الصلب بأقرب جدار ....لكن ... لكن هناك بيتي .. )
اتسعت ابتسامته وهو ينظر اليها بنظرة جعلته أصغر عمرا ... ثم قال بصوتٍ أجش
( لا أحد غيرك مسموح له بمخاطبتي بتلك الطريقة يا مليحة ...... )
ابتسمت بجمالٍ حتى تألق طابع الحسن في ذقنها فضاعت ابتسامته هو ... و قال مبهورا
( سبحان خالق هذا الجمال ...... من أين لكِ بكل هذا الحسن ؟! ..... )
أسبلت جفنيها و هي تشعر بنفسها ملكة في حضرة سيد عرشها ...... كانت له طريقة في مغازلتها تجعلها تشعر بهذا ....
حتى صيغة كلماته مختلفة و كأنه خرج من كتاب ألف ليلة و ليلة .... لها وحدها و دون غيرها ....
رفعت وجهها تنظر اليه و همست بصوتٍ مرتجف
( اذن لنعد الى هناك .............. )
قال ليث بعد فترة من تأمله لها ,
( ليس بعد حبيبتي ...... هناك زيارة أخرى أهم ......... )
عقدت سوار حاجبيها و هي تقول بقلق
( زيارة أخرى ؟!! .......... ماذا تقصد ؟! أعصابي لم تعد تتحمل , ارحم سني فأنا لم أعد صغيرة لكل هذه الإنفعالات ..... )
ضحك ليث عاليا وأمام عينيها المشدوهتين رأت رأسه المتراجع للخلف ..... و كأنه فتى يغازل مراهقته الحبيبة .....
ثم نظر اليها قائلا بخبث
( أي سن تتحدثين عنه يا وحش الليل ؟!! ..... لقد كدتِ أن تصيبيني بإصاباتٍ خطيرة جدية و أنتِ تصارعينني بمقاومتك الغبية بينما .... )
هتفت سوار و قد احمرت وجنتاها بشدة بينما اتسعت عيناها
( هششششش .... ما هذا الذي تقوله ؟!! هل فقدت حيائك يا رجل ؟!! ....... )
ابتسم بحنان وهو ينحني ليلثم ثغرها الخلاب .... ثم قال هامسا بجدية
( معكِ ..... أريد أن أفقد حيائي و عمري الذي ضاع بعيدا عنكِ ....... )
ارتبكت اكثر فترنحت , الا أنه اسندها الى صدره و سألها بخفوت
( هل أنتِ بخير ؟!! ............ )
أومأت برأسها دون رد .... حينها همس لها بجدية
( جيد , اريد منكِ أن تستجمعي قواكِ لفترة يا مليحة الى أن ننتهي من زيارتنا التالية ... و أعدك بعدها أن تنامين بين أحضاني للأبد ....... )
رفعت سوار وجهها تنظر اليه بصمت , مدركة بأنه لن يتراجع عن شيء سبق و دبره مطلقا ....
لقد باتت تعرفه جيدا ......
.................................................. .................................................. ................
ارتمت سوار بقوة على صدر جدها و هي تضمه اليها بقوة باكية ... فضحك بوهن و هو يسعل قليلا
ثم قال
( على مهلك يا ابنة غانم ..... لم يعد جدك في عزمك و قوتك .... )
رفعت سوار كفه الى فمها و قبلت ظاهرها بقوة هامسة من بين دموعها
( اشتقت اليك يا جدي ...... اشتقت اليك جدا , بعيد الشر عنك يا غالي ..... أنا السبب في مرضك , لذا لم أقوى على رؤيتك ..... )
رفع جدها يده ليربت بها على قمة رأسها ثم قال بصوته الخشن
( لا تقولي هذا يا جوهرة عائلة الرافعي .... و سيدة هذا الدار , ما هو الا عمر و ينقضي ليسترد الخالق أمانته .... )
بكت بصوتٍ مختنق و همست
( لا تقل هذا ......... أرجوك ........ )
قال جدها وهو يربت على كفها الممسكة بيده ....
( ظلمتك كثيرا يا ابنة غانم ...... .... )
هزت رأسها بقوة و قالت بحزم و هي تمسح دموعها
( لا ..... لم تظلمني ...... لا تقل هذا , .... كل خطوة في حياتي اتخذتها بمحض ارادتي ..... )
قال لها جدها بملامح متغضنة
( فرضتها عليكِ الظروف ..... و كان علينا الوقوف ضدها , كي لا نجبرك على شيء ..... )
ابتسمت بحزن و قالت
( قدر و مكتوب يا جدي ............. )
قال سليمان بتعب
( أين هو زوجك .......... )
استدارت سوار تنظر خلفها , حيث كان ليث واقفا , مكتفا ذراعيه .... و للحظة توقفت عيناها على عينيه ...
كانت النظرة فيهما غريبة وهو ينظر اليها , .... عاقدا حاجبيه و كأن ما سمعه قد أوجعه بطريقة تجهلها ...
قالت سوار و عيناها لا تزال تحومان عليه
( ها هو عند الباب يا حاج ............. )
فقال سليمان يناديه
( تعال يا ليث يا ولدي ...... لا أقوى على رفع رأسي ...... )
اقترب منه ليث و قال بهدوء
( السلام عليكم يا حاج ...... سلامتك من المرض .... )
اقترب من الجهة الأخرى من فراش سليمان الرافعي و انحنى ليربت على كفه ليقول بصوت جاد
( أريد جمع أعمام سوار يا حاج ..... لدي ما أقوله لهم ..... )
رفعت سوار وجهها تنظر اليه بحيرة , الا أنه تابع يقول بنفس الحزم
( أعلم أن الوضع غير مناسب لطلبي هذا..... لكنني سبق ووعدتك أن أسترد سمعة سوار و أرد لها شرفها ..... و سيحدث هذا على الملأ ....... )
نظر اليه سليمان يتفحص ملامحه بقوة , فتابع ليث يقول وهو ينظر الى وجه سوار المبهوت
( لقد عرفت من أشاع عنها بالباطل , وهو من عائلتي ......لذا فأنا المسوؤل بالكامل عن رد شرفها , لقد تمت معاقبة هذا الشخص ...... أما بالنسبة لسوار , فأنا سأمنحها مهرا جديدا , و تزف الى داري في هودج عروس ......على مرأى و مسمع من الجميع و أولهم أعمامي .. )
ارتفع حاجبي سوار بذهول و قالت
( مهر و هودج !! ........ لا مستحيل , لن أقبل بهذا أبدا ...... )
ابتسم لها ليث دون مرح , فقد كانت النظرة بعينيه حزينة وهو يقول بجدية
( اتركي الأمر للرجال هذه المرة أيضا يا مليحة .... و أعدك أن تكون المرة الأخيرة التي يفرض عليكِ بها شيئا ...... )
أغمض سليمان عينيه وهو يتأوه بصوتٍ أجش معذب
( الحمد لله ....... ....... )
ثم مد يده بضعف الى أن أمسك بها ليث و مال اليه , كي يسمع ما يقول , فهمس سليمان بصوتٍ خشن متعب
( أنا مدين لك ..... كلنا مدينون لك يا ولدي .... )
كانت سوار تنظر اليهما و كأنها تحاول استيعاب ما يحدث , و ما أن استعادت صوتها حتى عارضت بقوة
( لا أريد أن أزف و أخرج من هنا عروسا فهذا دار .......... )
صمتت و هي تمسك لسانها في اللحظة الأخيرة , الا أن ليث أدرك تماما ما كانت على وشكِ قوله .... فأظلمت عيناه قليلا , لكنه قال بخفوت و كأنه لم يفهم ....
( سيتم هذا الأمر كما يليق بكِ يا سوار ....... و إن كان لديكِ هنا من يهمك بحق فستقبلين بهذا .... لأن شرفك هو شرف كل شخص في هذا الدار .... )
تاهت عيناها أمام عينيه الصارمتين , فنظرت الى جدها و قالت متوسلة
( جدي ................ )
بقى سليمان صامتا قليلا وهو يفكر بعمق ... ثم قال أخيرا آمرا
( اذهبي و استدعي من أعمامك كل من هو موجود في البلدة حاليا يا سوار ...... )
هتفت سوار بعجزٍ مصدومة
( لكن ......... )
قال سليمان بنبرة قوية رغم ضعفها
( لا تجادليني الآن يا ابنة غانم ....... اعترفت أنني ظلمتك بالفعل , لكن لا تتمردي في نهاية حياة جدك يا فتاة و ترفقي به ...... )
نقلت سوار عينيها بينهما بغضب و ألم ..... الا أن ملامح ليث كانت جدية تماما لا تقبل الجدال أو المفاوضة ....
فما يأمر به .... يخص شرف المليحة ابنة وهدة الهلالي ..... لذا هو على استعدادٍ لدفع حياته ثمنا لهذا الشرف ...
نهضت سوار مندفعة بقوة و هي تنفض عبائتها بجنون .... بينما نظر سليمان الى ليث يتأمله طويلا ثم قال بخفوت
( أنت يا ولد ...... تعلمت منك الشجاعة ...... )
عقد ليث حاجبيه بشدة وهو يعيد الى عينيه الى سليمان الرافعي متفاجئا من عبارته المجهدة , فقال بسرعة
( حاشاك يا حاج ..... ..... )
الا أن سليمان هز رأسه قليلا وهو يرفع وجهه مغمضا عينيه .... ثم قال بتعب
( ليتني فعلت أشياء كثيرة على الملأ كما فعلت أنت .... مرة بعد مرة!! ...... كم من مرةٍ وقفت أمام الجميع و تحديت القوانين , نصرة للحق !! ...... أما أنا فكانت العائلة لدي أهم , مما جعل الظلم يقع على كثير من أحفادي ...... )
ظل ليث صامتا قليلا وهو يستمع الى سليمان ..... ثم قال دون مواربة همسا ...
( قاصي الحكيم يا حاج ........... )
ارتفع حاجبي سليمان وهو ينظر الى ليث بدهشة مصدوما , ثم قال بوهن
( ألهذه الدرجة أنا مكشوف اليك يا ولد ............ )
ابتسم ليث برفق .... ثم قال بخفوت
( لا يا حاج ..... لكن حين تذكر كلمة ظلم في هذا الدار , لا يسعني الا تذكر اسم واحد .... قاصي الحكيم ..... أخي الثالث بعد سليم رحمه الله ..... قصة تشاركها ثلاثتنا و اختلف كل منا أنا و سليم على الحكم بها ..... بينما بقى قاصي ضائعا بين أمواج هذه الرحلة المضنية ...... لقد أريق دم والدته ظلما و عاش هو منبوذا من الجميع ملطخ بعارها المزعوم ...... و الظالم يسكن أرجاء هذا الدار .... هانئا دون ذرة رحمة ..... )
تغضنت ملامح سليمان أكثر دون أن يجد القدرة على فتح عينيه .... ثم قال بخفوت
( لم أكن أعرف ...... )
قال ليث بصوتٍ خافت قليلا
( و بعد أن عرفت ؟!! ...... لا أقصد أن أتهمك بشيء يا حاج , لكن من الواضح أنك تريد سماع هذا , و الا ما كنت قد بدأت الكلام و أنا لن أكتم حقا أبدا ....... )
ساد صمت ثقيل بينهما , ثم قال سليمان أخيرا
( عمران الآن في السجن .... هل عرفت ؟ ....... )
أومأ ليث وهو يقول بصدق
( بالطبع عرفت ..... كان هذا مجهود قاصي الشخصي , كم قضى من السنين وهو يعد لهذا .....كان يلاحقه سرا يجمع أقل معلومة قد تفيده ..... كان كمن يحارب أمواج البحار .... لا يملك الا طاقة غضب قادرة على احراق الجميع .... هي فقط من ساعدته على الوصول الى هدفه الذي كان مستحيلا في بداية شبابه .....
لقد أقسم قاصي قديما ان يقتل عمران .... و كان يحيا لهذا السبب فقط ..... لكن شيء واحد هو ما منعه ........ )
فتح سليمان عينيه و نظر الى ليث بصمت , ثم قال بصوت غريب مؤلم
( حفيدتي الصغيرة ....... تيماء ابنة سالم ........ )
أومأ له ليث بصمت .... ثم قال أخيرا بخفوت
( كانت له الحياة ...... كما كانت سوار بالنسبة لي ........ فكان على كل منا البحث عن حياته , فوق القوانين و الماضي و كل شيء آخر ..... )
أفلتت تنهيدة يائسة من بين شفتي سليمان وهو يتنفس بتحشرج , ثم قال بصوتٍ مختنق
( لقد عوضته ......... و سأفعل المزيد ..... )
ابتسم ليث دون مرح , ثم قال بخفوت
( أتخيل أنك قد عوضته بسخاء يا حاج .... لكنك لو كنت تعرف قاصي جيدا , فستدرك أن المال لم يكن مطمعا له مطلقا .... لا شيء يوازي شرف الأم ..... مهما كانت امرأة بسيطة , ظن البعض ألا قيمة لها , فانتهكوها دون رحمة و كأنها لا تستحق الرحمة ... و كأنها ليست من البشر أصلا .... )
كان سليمان ينظر اليه بنظرة غريبة موجعة .... ثم قال بخفوت و كأنه ينشد الراحة من غريب
( سأعمل على أن يظهر الحق حين يسترد الله أمانته ........... )
ظل ليث صامتا قليلا .... يشد على يد سليمان و كأنه يمنحه الدعم على الرغم من كل شيء , رغبة أخيرة منه في أن يساعد قاصي قدر استطاعته في هذا الأمر الحساس .... على الرغم من كونه ليس من العائلة ...
ثم قال بحذر
( أطال الله عمرك يا حاج ....... لا أعرف بالضبط ما انتويته , لكن الا تظن أن وقوفك بجوار قاصي في حياتك سيشكل له فارقا ... ... )
قال سليمان بصوت خافت
( الأمر صعب ...... صعب ..... عمران , ...... لا يزال ولدي ... كيف أملك القوة ؟! ....... )
رد ليث دون تردد ....
( أمام حساب رب العالمين , ستتمنى لو عدت يوما كي تمتلك تلك القوة ...... )
نظر اليه سليمان بدهشة , فتنهد ليث قائلا
( أعلم أنني تجاوزت حدودي .......... )
الا أن سليمان قال بعد فترة ....
( أتعلم لماذا اخترت أن أتكلم معك أنت تحديدا ؟! ........... )
رد ليث بخفوت
( لماذا يا حاج ؟ ............ )
أجابه سليمان قائلا مرهق الأنفاس
( لأنك لا تملك مصلحة ....... أخشى على قاصي من أولادي من بعدي .... لن يرحموه .... )
قال ليث مؤكدا
( و هذا سبب أدعى كي تدعمه في حياتك و تبريء ذمة والدته يا حاج ...... )
نظر اليه سليمان طويلا وهو يتفكر في كلامه القوي ثابت النبرات .... ثم قال بخفوت
( السبب الآخر ...... أن ما فعلته حتى الآن مع سوار , جعلك أقرب لي من أولادي يا ابن الهلالي , الآن فقط سأطمئن الى انني سأرحل و أتركها في حماية رجل يصونها و يحميها من الجميع .... )
أسبل ليث جفنيه وهو يتنفس بقنوط .... نفسا طويلا .... بطول السنوات المضنية , ثم قال أخيرا بصوتٍ غريب
( ليتك لم تضيع منا السنوات يا حاج ..... لكن , الحمد لله على كل حال , قدر و مكتوب ....... و قدري أن تكون سوار لي في نهاية المطاف , لذا فأنا شاكر على هذه النعمة ..... )
شد سليمان على يد ليث بقوة و همس بحرارة
( أشكرك ...... أشكرك يا ولدي على رد كرامتها للمرة الثانية ....... )
ابتسم له ليث دون رد , بينما لم يكن رضاه كاملا ..... ليست سمعتها فقط هي ما يسعى اليه , لو كان الأمر بيده , لإقتص من راجح على فعلته ....
أن ينقذ سمعتها دون أن يعاقب مدنسها , لهو نصر منقوص .... و كرامته موصومة بهذا النقص للأبد ما لم يأخذ لها حقها ....
أنت تقرأ
طائف في رحلة ابدية
Romanceمن بين جموع البشر ... كان هو الاول والاخير... واخر من رغبت بمواجهته في هذه الارض القاصية الواسعة صرخ بها والنار المشتعلة باللون الفيروزي تزيد من جذور روحه اختاري - فتبسمت شفتاها بمرارة بلون اكثر قتامة وهي تهمس بغضب وهل بين القانون والحياة اختيار...