الفصل العاشر

126K 2.6K 187
                                    


أوشكت على دخول غرفة نومهما و هي تجفف شعرها القصير المبلل ... الا أنها توقفت قرب الباب و هي تراقبه جالسا على الكرسي الوثير .... واضعا ساقا فوق الاخرى ...
يحك ذقنه باصبعه و يبدو شاردا .... عينيه بعيدتين في عالم آخر .....
أخذت وقتها في تأمله وهي تخفض المنشفة الندية ....
لطالما كانت تراه شديد الوسامة بجاذبيته الشرقية العنيفة ... منذ اليوم الاول الذي عرفتها مسك عليه ....
يومها انبهرت بتلك الجاذبية ..... و بنظراته الواثقة و كأنه يملك الحيز الذي يحيط به أينما حل ....
الأبهة و الفخامة تحاوطانه و تزيدان من وسامته ......
تذكر المرة الأولى التي اطبقت فيها كفه على يدها بسلام ودود و مسك تقف بينهما مبتسمة بزهو و ترفع ....
يومها شعرت شعورا مرا كالعلقم في حلقها و هي تشعر بالدونية بينهما ...
كم كانا يبدوان شديدا الجمال و الجاذبية معا ....
يملكان أناقة و كبرياء فطري ... ورثاه مع جينات القرابة بينهما ....
كانا يملكان كل شيء .... و هذا كان غريبا ... فلقد تعلمت أن الحياة يجب أن تكون قاسية على الأقل بأمر أو بأمرين ..... أما هي فقد كانت الحياة قاسية معها في كل الأمور حتى سحقتها و دهست روحها ....
لكن مسك و اشرف كانا على العكس منها ...
يملكان الحب و الثراء ..... و العائلة الراقية ......
اما هي فكانت تملك ما تتفضل به مسك عليها فقط ...... دائما كانت تأخذ ما تتنازل عنه مسك !!!
الا أشرف !!!
لم تتنازل عنه مسك .... بل هو من تركها ......
خطت غدير بقدمين حافيتين الى الغرفة و هي ترمقه بنظرات حادة كعيني الصقور الجارحة ....
تعلم هذا الشرود جيدا .....
قدماها تقتربان منه على أرض الغرفة بينما لم ينتبه اليها بعد ....
و مع كل خطوة تخطوها وهو لا يشعر بها كانت ملامحها تزداد تجمدا و الشرر الصامت ينطلق من عينيها البريئتين في هيئتهما الخارجية .....
وقفت أمامه تماما بقميص نومها الحريري بالغ القصر .....
لكنه لم ينظر الى ساقيها الناعمتين كما اعتاد دائما ... بل أنه حتى الآن لم يطرف بعينه ....
حنها كانت عيناها الطفوليتين قد فقدتا كل ذرة من البراءة و تحولتا الى بركتين من الحمم الشريرة .... مخيفة لمن ينظر اليها و لا يعرفها .....
انعقد حاجبي اشرف فجأة و رمش بعينيه و كأنه ينتزع نفسه من شروده انتزاعا ....
فصعد بنظراته على ساقيها ببطىء الى أن توقفت عيناه أخيرا على عينيها و اللتين عادتا فجأة و في لمح البصر الى برائتهما و لونهما البني الصافي فابتسمت و همست بدلال
( عدت من البعيد أخيرا ..... أين كنت ؟!! ...... )
مرت عدة لحظات من الصمت الذي زادها جنونا داخليا الا أنها نجحت بمهارة في الا تظهر منه شيئا على ملامحها ....
و أخيرا قال أشرف بهدوء
( كنت مستغرقا في التفكير فحسب ....... )
لم تقتنع بكلامه و أخذت نفسا متشنجا لكنها زادت من ابتسامتها جمالا و هي تقترب منه لتجلس على ركبتيه بأريحية تعرف جيدا أنه احبها بها ....
ثم مالت الى صدره و هي تضع منشفتها على ظهر مقعده و تلف ذراعها حول عنقه ....
هامسة أمام عينيه بخفوت مثير
( و ماذا لو اخبرتك أنني أغار من كل ما يشعل بالك و لا أكون أنا بطلته ...... )
نظر أشرف الى عينيها طويلا ... بينما أمتدت أصابعه لتلامس أطراف شعرها القصير المقصوص بطريقة عصرية .... و لا يزال بعض الشرود بعينيه لم يتبخر بعد ....
لكنه قال بصوته الرجولي المغتر بطبيعته ....
( عليكِ التكيف ..... فلدي الكثير مما يشغل بالي ... )
امتقع لونها الا انها حاولت اجبار نفسها على اخذ كلماته على محمل المزاح ... لذا افتعلت ابتسامة و هي تقول بفتور
( لا بأس اذن ..... لكن بشرط , أن تشاركني فيما تفكر به ..... )
نظر اليها أشرف نظراته اللامبالية .... ثم قال اخيرا بنبرةٍ هادئة مغيرا الموضوع
( لقد اتصلت أمك على هاتفك ثلاث مرات أثناء استحمامك .... )
تشنج جسدها على الفور في نفور تلقائي و غابت البراءة و الإبتسامة عن وجهها و هي تقول بصوتٍ قاسي
( و هل أجبتها ؟!! .......... )
قال أشرف بصوتٍ ملول
( لم أجبها .... لقد تعبت من محاولة رأب الصدع بينكما , بصراحة أعتقد أن انقطاعكما عن بعضكما أفضل للجميع .... )
ابتلعت غدير ريقها بتوتر .... لكنها قالت بتوتر
( أعرف أنك لا تتشرف بها كأم لزوجتك ..... لكن أنا أحاول جاهدة ابعادها قدر الإمكان .... )
رد عليها أشرف بلامبالاة
( طالما أنها ليست ظاهرة للعلن فهي لا تؤذيني .... لقد حدث الضرر بزواجنا و انتهى الأمر .... )
شعرت غدير بروحها تهبط فجأة ... فقالت بعصبية
( ماذا تقصد ؟!! ...... هل ندمت على زواجك مني يا أشرف ؟!! .... )
زفر أشرف بضيق ليقول بتوتر
( كفي عن هذا السؤال يا غدير .... لقد مللته حقا .... )
كانت عبارة عن كتلة من التشنج الا أنها ابتسمت و اقتربت منه أكثر لتهمس أمام شفتيه و هي تلامسهما بإبهامها
( ماذا أفعل إن كنت أخشى من فراقك و كأنه فراق حياتي ....... سامحني أرجوك ... )
نظر أشرف الى عينيها ثم قال بغضب
( ألم أثبت لكِ بما يكفي أنني متمسك بك ؟!! ..... لقد حاربت الجميع لأجلك و ارتكبت فعلة أدت الى مقاطعتهم لي ....... )
زمت شفتيها و أسنانها تعض على باطن خدها بتوتر أكبر و هي تقول بصوتٍ غريب
( أن تركت مسك وردة العائلة و فخرها لأجلي .......اليس كذلك ؟ ... )
عقد أشرف حاجبيه بشدة وهو يراقب ملامحها المتلونة بين لحظةٍ و اخرى ... و شعرت بجسده كله يتوتر تحت أصابعها .....
لكنه قال بصوتٍ فظ
( أنا لا أحب تلك العبارة يا غدير و سبق أن أخبرتك أنها تضايقني ..... )
لم تتحرك ملامحها ... بينما أخذ اصبعها يتحرك على صدره المتصلب و عينيها على عينيه بتحدي .... ثم قالت ببساطة جليدية
( عدم حبك لها لا يعني أنها ليست حقيقية .... لماذا ترفض الإعتراف بالأمر ؟!! هل هذا يجعل من الأمر أهون بالنسبة اليك ؟!! .... لقد تركت مسك لأجلي يا أشرف ... آن الأوان كي تعترف بها لنفسك و أن تتوقف عن الشعور بتأنيب الضمير ..... نحن لم نرتكب أي خطأ ... على الأقل لقد كبدنا ثلاثتنا ألما أكبر لو تزوجت بها و أنت تريدني أنا ..... صدقني هذا أفضل للجميع .... )
أفلت نفس غاضب من بين شفتيه وهو يبعد عينيه عن عينيها الصريحتين بالقوة ....
الا أنها تابعت تقول بصوت أكثر وضوحا ....
( و فيما يخص عائلتك فستسامحك مع مرور الوقت ... خاصة الآن , انهم فقط فقط يكابرون و يدعون أنك ظلمت ابنة عمك كاملة الصفات و التي لا توجد من هي مثلها ..... لكن أتدرك ماذا ؟!! ..... )
نظر اليها أشرف بصمت .. فتابعت بصوت أكثر خفوتا و هي تهمس أمام شفتيه
( مسك لم تعد كاملة الصفات ..... و هذا واقع قاسي لكنه واقع ...... لقد كرهوك لأنك لم تضحي لكن من منهم كان ليضحي ؟!! ...... أنت الوحيد الذي رأيتها في مرضها لقد اختلفت .... لم تعد مسك التي تأسر الأعين بجمالها و ذقنها المرفوع ...... )
ضيق أشرف عينيه و قال بصوت خافت قاسي
( لم اتركها بسبب مرضها .......... )
رفعت غدير حاجبيها ببراءة و هي تلامس ذقنه بأصابعه هامسة
( بالطبع ..... بالطبع لم تتركها بسبب مرضها , لقد تركتها لأجلي .... لأنك أحببتني أنا , أنا فقط أنقل لك الصورة الحقيقية التي يرفض الجميع الإعتراف بها و يفضلون الظهور بمظهر ملائكي رافض لما فعلناه ....)
قال أشرف بهدوء
( لكنها عادت ..... عادت أجمل و أرقى ..... )
بقت غدير مكانها صامتة ... مبتسمة ابتسامة باهتة لم تطال عينيها .... و هي تنظر الى اشرف و هو يطالعها النظر الى أن قالت اخيرا بعفوية
( الشكل ليس كل شيء أبدا ..... و أنت تعرف أن مسك لن تعود " مطلقا " الى سابق عهدها ....... )
أبعد أشرف وجهه عنها بقوة .... يرفض حتى الإستماع اليها , الا ان غدير امسكت بذقنه بين أصابعها و أعادت وجهه اليها تجبره على النظر الى عينيها قائلة بثقة رافعة احدى حاجبيها ....
( لا تدر عينيك عني ..... أعرف أن مسك جميلة و من الطبيعي أن تجذب نظرك اليها من جديد .... لست حمقاء لأدعي العكس ...... )
قال اشرف مستاءا
(الى ماذا ترمين يا غدير ؟!!! ........ )
ردت عليه بنفس الحدة
( أرى تغييرك بمنتهى الوضوح منذ أن رأيتها ...... لا يمكنك خداعي و ادعاء غير ذلك ... )
قال اشرف بقسوة
( من الطبيعي ان أتأثر لرؤيتها .... انها ابنة عمي و يوما ما كانت بيننا مشاعر أقوى مما أستطيع شرحه و لقد آذيتها ..... آذيتها و تخليت عنها في أكثر وقت احتاجتني به ...... أنت تطلبين مني أن أكون حجر أن طلبتِ مني الا أتأثر !! ..... )
ارتفع حاجبي غدير بنفس البراءة و هي تهتف
( أنا طلبت ذلك ؟!! ........... )
خففت من لهجتها قليلا و همست تلامس أذنه بشفتيها بإغواء
( أخبرتك أنني مقدرة لذلك ....... لكن راعي أنني أغار و بشدة , لذا من فضلك .... ابتعد عنها .... )
رفع وجهه اليها مواجها عينيها و قال غاضبا
( كيف أبتعد عنها ؟!! ..... انها تعمل بنفس المكان الذي تعملين به و قد اراها يوميا ..... )
برقت عينا غدير بشر ... الا أنها تمالكت نفسها و همست و هي تلامس وجهه بأصابعها
( لهذا أريد سيارة لي ......... كي لا تضطر الى المجيء يوميا .... )
أظلمت عينا أشرف قليلا وهو ينظر الى ملامحها الناعمة البريئة .... و قال من بين أسنانه
( غدير ........ أكثر ما أكره هو استغلال أي حدث للحصول على فائدة خاصة لكِ .... )
استقامت قليلا و هي تهتف فجأة بغضب حقيقي
( هل تظن أنني فعلت كل ذلك للحصول على سيارة جديدة لعينة ؟!!! ...... تبا لك يا أشرف أنت مثلهم لن تغير نظرتك لي أبدا ...... )
كان صراخها حقيقيا و غضبها صادقا ...... و قد لامس الجرح الداخلي بها
لطالما كانت غدير بالنسبة له لغز لم يستطع تفسيره ... و ربما كان هذا سبب انجذابه اليها .....
كانت كتلة من التناقضات ... تمتلك الأنانية الا أنها تثور و تجن إن لمح أحد الى رغبتها في أخذ ما ليس لها ....
يصدق أنها لم تفتعل هذا الحوار لتحصل على سيارة جديدة .... لكنها لا تخفي بهجتها بالحياة المرفهة التي منحها اياها .... حتى انها تغيرت تغييرا كبيرا و اصبحت تشبه سيدات المجتمع في عصرية مظهرها و ممتلكاتها ....
زفر أشرف بقوة و هو يحك جبهته ... ثم قال متوترا
( لا بأس يا غدير ..... لم أقصد ما قلته , لو أردتِ السيارة فستكون لديك واحدة جديدة .... )
لم تهدأ ملامحها على الرغم من هذا الربح المفاجىء على غير توقع ...
كان قلقها الداخلي يفترسها أكثر من أن يمحوه الفرح بسيارة جديدة ....
باتت تفهم نظرات و ملامح أشرف جيدا ..... لقد افتتن بجمال مسك من جديد و من مرة واحدة ...
تبا .... تبا ....
إنها تبذل معه مجهود أكثر من أي مجهود قامت به في حياتها كلها .....
و على الرغم من صراعها الداخلي القاتل و الصارخ بدوي مزعج ...
الا أنها نجحت في الا تظهر منه شيء على ملامحها الرقيقة التي استعادت صفائها في لحظة و عادت ابتسامتها الى شفتيها مجددا و هي تهمس بصوتٍ مغوي خافت و أصابعها تعاود التلاعب على صدره
( حبيبي أنا أفعل ذلك لأجلك .... لا أريدك أن تراها و تعود للمزيد من الشعور بتأنيب الضمير مجددا .... أنا و أنت لم نخطىء بشيء .... )
ظل أشرف ماكثا مكانه ينظر اليها بصمت مرهق .... فزادت من ابتسامتها و همست فوق شفتيه بنعومة
( أنا أعلم جيدا ما قد يخفي عبوسك هذا و يعيدك الي ....... )
نهضت من مكانها برقة و تمايل متعمد ..... و اتجهت ببطىء الى مسجل الصوت بغرفتهما و هي تعلم أنه يراقبها بحدة و ما أن انبعثت الموسيقى الشرقية منه حتى استدارت اليه و على وجهها علامات السحر الأنثوي الرقيق و بدأت في الرقص أمامه و له وحده ....
ضاقت عينا اشرف عليها وهما تبرقان رغما عنه .....
يداها ترتفعان أثناء رقصها الى كتفي قميص نومها لتزيحانه .....
هكذا هي غدير ...
كانت متفانية في امتهان نفسها له .... ليس كل الوقت , انما في بعض الاوقات فقط ....
كانت على النقيض من مسك في كل شيء ...
على الرغم من عشقه القديم لمسك ذات يوم .... الا أنها كانت تناطحه في القوة و الكبرياء فكانت تتضارب قواهما ...
لم تسمح مسك لنفسها أبدا بأن تنزل من قدرها في سبيل حبهما و لو للحظة ...
كانت مثال للكبرياء الرائع ... و المثير لضيق الرجل في الكثير من الأحيان ....
لكن غدير .......
غدير دخلت له في أكثر وقت كانت علاقته بمسك تعاني ضعفا ..... و استجاب ..... فهو بشر رغم كل شيء ...
لكن لماذا لا يشعر بالراحة الآن ؟!! .....
.................................................. .................................................. ....................
في اليوم التالي :

كان يلملم أوراقه وهو يستعد للخروج من الشركة و ربما للأبد إن لم يتم الرضوخ لطلباته .....
فتح باب مكتبه فجأة دون طرق و دخلت غدير مندفعة و هي تهتف بصوت مرتعب
( هل صحيح ما سمعته للتو ؟!!! ....... )
رفع أمجد وجهه ينظر اليها بصمت ... ثم اعاد عينيه الى أوراقه وهو يقول بهدوء
( وما هو الذي سمعتيه ؟ .... )
اقتربت غدير الى مكتبه بسرعة و قالت بصوت متشنج
( أنك قدمت استقالتك اليوم صباحا ؟؟ ........ )
لم يرفع أمجد عينيه اليها .... لكنه قال ببساطة
( نعم صحيح .......... )
شعرت غدير بصدمة غير متوقعة ضربت قلبها .... و بمنتهى العنف ....
ظلت مكانها واقفة تنظر اليه بشفتين فاغرتين ... ترتجفان قليلا ... ثم لم تلبث أن همست بألم و تعثر
( لكن ....... لماذا ؟!! ....... )
لم يرد أمجد على الفور .... بل ظل يلملم أغراضه الخاصة بهدوء .... ثم قال اخيرا بصوتٍ لا تعبير به ...
( خلافات في ادارة الشركة ....... )
اهتزت حدقتاها و هي تراقبه .... عيناها تجريان عليه بلهفة , ثم قالت بصوت متوتر خافت
( لا أصدق هذا ........ )
رفع أمجد عينيه اليها .... ثم قال بهدوء
( ماذا ؟!! ........ )
اقتربت منه غدير أكثر و قالت بتوتر أكبر
( لا أصدقك ...... أنت لن تغادر لهذا السبب , بل ستغادر بسبب ...... )
صمتت فجأة و قد انعقد لسانها ..... بينما أخفضت وجهها , فقال امجد بشك
( بسبب ماذا ؟!! ..... تابعي , .... ما هو اعتقادك عن سبب تقديمي للاستقالة ؟؟ ..... )
نظرت اليه غدير نظرة حزينة .... تحمل الكثير و الكثير .....
تحملان دموع رقيقة رفضت أن أن تنساب على وجنتيها .... لكنها عضت على شفتيها ثم همست أخيرا بصوت يرتجف
( أنت ستغادر بسببي ...... اليس كذلك ؟!! ...... )
انعقد حاجبي أمجد بينما برقت عيناه غضبا وهو يترك أوراقه من يده ببطىء .... مراقبا ملامحها الرقيقة الهشة .... ثم قال بصوتٍ قاسٍ
( ما تلمحين له يا غدير شديد الخطورة........... )
الا أنها لم تستسلم .... كانت ضعيفة امامه و لا تجيد اللوع أبدا ... لطالما كانت كذلك أمامه ....
فاقتربت منه خطوة أخرى حتى لم يعد يفصل بينهما سوى مكتبه ....
نظرت الى عينيه طويلا ثم همست باختناق
( أعرف ...... لكنها الحقيقة , أليس كذلك ؟؟ ...... )
ازداد انعقاد حاجبيه و قساوة ملامحه و قال بعنف
( لا ليست الحقيقة ...... لم اكن لأترك العمل بسببك , لست ضعيفا الى هذا الحد ...... )
ارتفع حاجبيها و كأنه قد صفعها للتو ففاض الألم من عينيها .... لكنها عادت و زمت شفتيها تنظر اليه بنظراتٍ قاسية الالم ... ثم همست بجفاء
( اليست ؟!! ...... اذن لماذا تتهرب مني .... لماذا لا تجيب اتصالتي و تتجنب تواجدك معي بأي مكان بمفردنا ..... حتى أن عينيك تتهربان من عيناي ....... أيمكنك خداع نفسك و انكار ذلك ؟؟؟ .... )
رفع اليها عينين جامدتين ... سمرتاها في مكانها وهما تنظران اليها طويلا , نظراتٍ قتلت الكلمات على شفتيها .....
ثم قال اخيرا بنبرةٍ مخيفة
( هذا ليس كلام سيدة متزوجة ..... سبق و اخبرتني أنها تحب زوجها ...... )
كانت عبارته الاخيرة تشوبها سخرية واضحة ... فعقدت غدير حاجبيها بالم و همست
( أتسخر مني ؟!! ......... )
قال أمجد بمنتهى القسوة
( دعكِ من سخريتي يا غدير و عودي الى حياتك التي اخترتها ... و لا تتوهمي أن هناك شيئا كان بيننا .... )
أجفلتها نبرته المخيفة الواضحة .... لدرجة ان احمر وجهها من صراحته المباشرة , صراحة لم تكن بينهما من قبل فيما يخص علاقتهما ....
على الرغم أنها لم تكن صريحة مع مخلوق مثلما كانت معه ......
ابتلعت غدير ريقها و هي تقاوم الدموع الحارقة بعينيها ثم قالت بصوت مختنق
( أردت فقط أن أشرح لك ........ )
قاطعها بغضب هادر وهو يضرب سطح مكتبه بقبضته مما جعلها تنتفض بمكانها
( ماذا تشرحين ؟!! ..... أنكِ كنتِ تلاحقيني كظلي في كل ساعةٍ و دقيقة .... بينما أنتِ مرتبطة برجلٍ آخر ؟!! ..... )
فغرت غدير شفتيها المرتجفتين و طاح الألم بصوابها و هي تسمع القصة بمنتهى الوضوح من بين شفتيه للمرة الأولى ....
ابتلعت غصة مؤلمة في حلقها و هي تهمس باختناق
( لم ...... لم أكن مرتبطة ...... كان يضع خاتم مسك باصبعه , لا يكف عن وعدي مرة بعد مرة .... و لا يتقدم خطوة في سبيل الارتباط بي ..... كنت ضعيفة جدا في تلك الفترة , ضعيفة و متألمة و لم يكن هناك اي ارتباط واضح و صريح بيني و بينه ..... ثم عرفتك أنت ...... )
التوت زاوية شفتيه فجأة .... قبل أن يصدر عنه صوت ضحكة ساخرة ... مستهزئة ....
أجفلتها و جعلت الألم بداخلها يتشعب أكثر و أكثر ..... ثم قال بصوتٍ مشمئز
( ثم عرفتيني ..... كنت مجرد مرحلة للمداواة ليس الا ......... لماذا تضخمين الأمر ؟؟ .... )
عضت على شفتيها و أغمضت عينيها فانسابت دمعتين على وجنتيها ببطىء .... ثم همست باختناق
( كم أنت قاسي ........ قاسي جدا ..... )
هتف أمجد بغضب
( أنا قاسي ؟!! .... و ماذا عنكِ ؟؟ الا تعدين وقوفك هنا في هذا الموقف كخيانة ؟!! ..... )
فتحت عينيها بصدمة و هتفت بقوة من بين دموعها
( خيانة !! ....... أنا يا أمجد ؟!!! ....... هل هذه هي الصورة التي تراني بها ؟!! ..... )
ظل أمجد ينظر اليها طويلا .... ثم قال أخيرا بهدوء متصلب
( بل هذه هي الصورة التي أجنبك كي لا أراكِ عليها .......... )
فغرت شفتيها مجددا بألم و ارتجفتا بشدة ...... و تعالى تنفسها المتوتر ... بينما انسابت على وجنتيها دمعتين أخرتين .... مما جعل أمجد يتنهد بغضب مكتوم وهو يشعر بذلك التعاطف اللعين معها مجددا ...
فهي تجيد ذلك و بمنتهى المهارة !! ....
قال أخيرا بصوتٍ جامد رغم هدوءه وهو ينظر الى عينيها نظرة عميقة
( أنت لستِ فتاة سيئة يا غدير ...... و ربما لو كنتِ في ظروف أخرى من الحياة لكنتِ أفضل من هذا بكثير , الا أنك لا تعرفين بالضبط ما تريدينه .... )
صمت قليلا .... ثم اضاف بصوت متصلب
( أو تريدين كل شيء .... و هذه هي مشكلتك ...... )
كانت ترتجف و الدموع تغرق وجهها ..... ثم همست أخيرا بصوتٍ فاتر ميت و هي تراقبه
( لا تكلمني بمثل هذه الحيادية ...... لم تعر بمثلها تجاهي من قبل ..... فلا تخدع نفسك .... )
ساد صمت طويل و كل منهما ينظر الى الآخر .... ثم قال أخيرا بصوتٍ شديد الصلابة ... و القسوة
( هل تريدين سماع الإعتراف بأنني كنت منجذب اليكِ كامرأة و لا زلت ؟!! .... على الرغم من كونك متزوجة و تحبين زوجك ؟!! ...... )
شحب وجهها ... و اهتزت حدقتاها .... فرمشت بجفنيها تبتعد عن عينيه النافذتين و صوت عنيف في احدى زوايا قلبها الخفية يصرخ
" نعم ..... هذا ما أريد سماعه , فقط سماعه ..... لا أكثر من بضعة أحرف قليلة ... "
و كأنه سمع ندائها الداخلي المعذب .... فقال يرد عليها بقوة
( آسف .... الخيانة ليست من طبعي ..... )
تراجعت غدير خطوتين الى الوراء و كأنه ضربها ....
هل سمع ندائها الصامت فعلا ؟!!!
وقفت أمامه و هي تشعر و كأنه قد عراها أمام نفسها قبل أن يكون أمامه ......
ساد صمت مريع بينهما و هي تنظر اليه .... تتأمل ملامحه الصرامة و التي حتى مع صرامتها تحمل حنان غريب لم تراه في غيره من الرجال ابدا من قبل ...
هذا الرجل الواقف أمامها ....
هو الرجل الوحيد الذي شعرت معه أنها أنثى حقيقية ... بكل رقتها و عفويتها ....
حين كانت تسترق اللحظات لتلحق به و تنجح في اجباره على الاستماع اليها ... كانت تشعر و كأنها لامست السعادة بيدها ....
ليتها فقط كانت قابلته قبلا ...... ليتها .....
تكلم أمجد أخيرا بصوتٍ عميق ليقول
( اذهبي من هنا يا غدير .... و لا تعودي .... و رجاءا امحي رقمي من هاتفك ... )
كانت تبكي بغزراة ....
لم تصدق أن يأتي اليوم الذي تفضح به نفسها بتلك الدرجة الغبية و تنهار بكاءا أمام الرجل الذي .....
تحبه !! .....
نعم هي تحبه .... لقد أحبته منذ فترة طويلة و لم يعد بإمكانها أن تخدع نفسها أكثر ....
كل يوم تبحث عيناها عنه في طرقات الشركة ....
ينتفض قلبها حين تراه مقبلا من بعيد ....
تحترق نارا موجعة حين تراه يتضاحك مع أي امرأة غيرها ... حتى و لو كانت مجرد عاملة بسيطة .....
صوته يثير جنون نبضاتها ما أن تسمعه من على بعد .....
و ابتسامته تمزق صدرها .....

اخفضت غدير وجهها الشاحب المبلل و هي تستدير ببطىء عنه ... و كأنها تحاول جاهدة أن تسلخ نفسها عنه بالقوة ...
و ما أن ابعدت عينيها عنه حتى اطلقت قدميها لتخرج مندفعة من مكتبه و هي تبكي بقوة و صمت واضعة يدها المرتجفة على فمها .....
كانت تريد أن تختفي من العالم كله كي تستعيد قوتها و صلابتها .....
لن تخسر حياتها و زوجها مطلقا ..... خاصة الآن .......
كانت معمية العينين و هي تخرج من المكتب ... لذا لم تلحظ الجسد الناعم الذي ارتطمت به الا بعد أن شهقت فاتحة عينيها و هي تتراجع خطوة هامسة بصوت ميت
( آسفة ......... )
الا أن كلمة الإعتذار ماتت على شفتيها و شعرت بقبضة من الجليد تغلف صدرها
و هي ترى نفسها واقفة أمام مسك وجها لوجه !!
ساد صمت مجنون بينهما و مسك تطالعها بملامح هادئة الى حد البرود ....
عيناها العنبريتين المتكبرتين تنظران الى دموع غدير المتدفقة على وجهها من عينيها المذعورتين
بينما طالت عينا مسك لتنظر الي باب مكتب أمجد من خلفها و الذي خرجت منه غدير مندفعة للتو و هي تبكي .....
ثم اعادت عينيها الباردتين الي غدير و هي ترفع حاجبها بتساؤل بارد ... يكاد أن يكون ساخر ...
تلك النظرة كانت كفيلة بأن تجعل غدير تنهار فجأة و تشتعل نقمتها و هي تقول من بين أسنانها بهمسٍ قاسي
( توقفي ...... فقط توقفي ...... )
الآن ارتفع حاجبي مسك معا و هي تقول ببرود
( عفوا !! ..... لم أفهم قصدك ...... )
اغمضت غدير عينيها و هي تهز رأسها بعنف , ثم لم تلبث أن همست بشراسة اكبر و هي تفتح عينيها لتواجه مسك الواقفة أمامها ببهاء و هدوء ,,.....
( ما الذي أتى بكِ الى هنا تحديدا ؟!! .... )
لم ترد مسك على الفور .... بل ظلت تراقب غدير بنظراتٍ متعالية و هي تعلم جيدا أنها على وشكِ الإنهيار لسببٍ قوي ....
فقالت ببساطة و هي ترفع ذقنها
( لم أفهم قصدك تماما .... إن كنتِ تقصدين وجودي هنا في الرواق لحظة ...... خروجك .... فأنتِ تعلمين أن مكتبي في هذا الطابق كذلك كمكتب السيد أمجد ...... )
أجفلت غدير قليلا و توترت .... بينما تصلبت ملامحها و هي تمسح وجنتيها بأصابع مرتعشة ...
التفت رأسها قليلا و كأنها تنظر الى المكتب حيث نطقت مسك اسمه ....
لكنها تماسكت باعجوبة ..... و عادت لتنظر الى مسك قائلة بلهجة خافتة باردة
( أنت تعلمين قصدي تماما .......... ما الذي عجلك تتركين عملك المميز في الخارج و تعودين الى هنا تحديدا ؟!! ..... )
علت ابتسامة أنيقة شفتي مسك الجميلتين و راقبت ملامح غدير المضعضعة باهتمام ... ثم قالت ببرود خافت
( اعذريني لكن أظن أن هذا أمر شخصي .... و اختياراتي الخاصة بخط حياتي لا علاقة لكِ بها .... )
عند هذه النقطة انهارت غدير و ادركت مسك أنها ستتهور كما تفعل كلما زاد عليها الضغط ....
لذا فقد كشرت عن أنيابها و همست بشدة و دون تفكير
( كنت أظنك ستتحلين بكبريائك المعتاد و تبتعدين عن الماضي .. لا العودة الى هنا للبكاء على الأطلال ... )
ساد صمت غريب ......
و أدركت غدير فجأة مدى فظاعة ما نطقت به للتو ......
لقد اطلقت صفير الحرب بوجه مسك دون مقدمات و من ثاني مقابلة ......
تبا لم تتخيل أن تفقد أعصابها الى هذا الحد .....
فتحت فمها لا تدري ماذا ستقول الا أن صوت رجولي صارم من خلفها قاطعها بحدة
( غدير !!!! ......... )
انتفضت غدير و اهي تستدير الى أمجد الذي كان واقفا باب مكتبه ينوي الرحيل و حقيبة أوراقه في يده ....
كانت ملامحه غاضبة و مستاءة ..... و أدركت غدير أنه قد سمع للتو ما دفعها غبائها للنطق به ....
أغمضت غدير عينيها و هي تحاول التقاط أنفاسها بصعوبة .....
الا ان أمجد قال متابعا بصوت غريب
( لقد تجاوزتِ حدودك ............ حقا ...رجاءا تمالكي نفسك و عودي الى عملك ..... )
شعرت أن الأرض تميد بها ... و ظلت مختبئة خلف ستار جفنيها المطبقين و هي تقف بينهما ....
أما مسك فقد كانت تنقل عينيها بينهما بملامح جامدة لا تنم عن شيء .....
ثم قالت اخيرا بهدوء و بابتسامة رزينة
( بالنسبة للبكاء ..... لم أكن أنا من كانت تبكي للتو كالأطفال .... )
فتحت غدير عينيها تنظر الى مسك ..... بعينين كسيرتين .....
لكن مسك ابتسمت و قالت بلطف
( عودي الى عملك يا غدير كما سمعت من السيد أمجد ..... لن أغضب منكِ بسبب بضعة كلمات افلتت منكِ و أنت على ما يبدو تمرين بيومٍ عصيب .... لكن نصيحة مني حاولي الفصل بين حياتك الخاصة و حياتك العملية ...... )
نظرت غدير الى عيني أمجد الغاضبتين بعينين ضائعتين ثم ابتعدت بساقين تترنحان الى الخلف ... ناظرة الى مسك هذه المرة و همست بصوت غريب
( هكذا هي أنتِ ...... لا أحد يعرفك مثلما أعرفك أنا ..... لا أحد .... )
قصف صوت أمجد قائلا
( غدير ...... أنتِ تضرين بنفسك , غادري حالا ....... )
عضت غدير على شفتيها ناظرة اليهما قبل ان تستدير و تغادر و هي لا تكاد أن ترى أمامها ....
ظلت مسك تنظر اليها في ابتعادها بصمت ...
بينما فقدت شفتاها ابتسامتهما الدبلوماسية .... و كانها لم تعد قادرة على تحملها ....
و اسبلت جفنيها قليلا و شردت بنظراتها .....
كانت تبدو كمن انفصلت للحظة عن العالم المحيط بها .....
سحب أمجد نفسا خشنا و هو يراقب تلك المعجزة ....
ياللهي لقد ضربتها غدير في مقتل و بمنتهى القسوة .... و لم تدري الى حد قد نجحت في النيل منها ....
هو وحده الشاهد على هذا الألم الجميل المرتسم على محياها ....
لحظات نادرة مرت وهو يراقب ارتفاع وجنتيها الكلاسيكيتين ... و ظلال أهدابها الطويلة فوقهما ....
أما فمها فقد كان منحنيا بجمال يمس القلب ....
لم يظن أن مجرد عبارة تافهة التي رمتها بها غدير قد تؤلمها الى هذا الحد !! ....
ألهذه الدرجة أحبت مسك خطبيها القديم ؟!! ....
انعقد حاجبيه و قال بهدوء أجش
( مسك ......... هل أنتِ بخير ؟؟ ..... )
ارتفع وجهها اليه ببطىء ... و كأنما كان يتوهم كل ما رآه منذ لحظة !! ....
فقد كانت مبتسمة ابتسامة هادئة و عيناها واثقتين و هي تقول بصلابة .....
( نحن في العمل الآن ......... )
عقد حاجبيه قليلا و قال متفاجئا
( ماذا ؟!! ............. )
رفعت مسك ذقنها و قالت ببرود و صلف
( أخبرتك من قبل عن رغبتي في التقيد بالالقاب الرسمية ..... و يومها كنت أتصل في خارج أوقات العمل الرسمية لذا نطقت اسمي مجردا .... أما الآن فنحن في العمل فما هو عذرك ؟؟ ..... )
ضاقت عينا أمجد و شعر أن صدره على وشك اخراج نفسا يغلي من شدة غضبه .... الا أنه قال بصلابة و دون ذوق
( لا أحتاج الى عذر فلقد قدمت استقالتي هذا الصباح .... لذا أنا حاليا لا أتبع هذا العمل و من حقي مناداة أيا كان باسمه مجردا ...... فهمتِ يا .... " مسك " .... )
ضاقت عيناها هي الاخرى حتى بدت قريبة الشبه من عينيه و كأنهما يقفان في حلبة للنزال متواجهين .....
زمت شفتيها قليلا ... الا انها تمالكت أعصابها سريعا و قالت ببرود
( آها .... وصلني خبر استقالتك !! ...... لم أصدق على الفور أن شخص بمثل خبرتك قد يقدم استقالته و يتنازل سريعا عن النجاح الذي حققه في هذا المكان لمجرد أن قرارا لم يعجبه قد صدر ...... )
ابتسم أمجد ابتسامة متهكمة قاسية .... ثم قال بنفور
( لا زلت تحسبين كل الامور على هيئة قرارات وأرباح ..... لا وجود للجانب الإنساني في حياتك .... )
مالت مسك بوجهها قليلا و هي تتأمله ..... ملاحظة أن كل مرة تلمح بوجهه شيء لم تراه من قبل ....
لقد كان ذو لحية .... لحية شقراء خفيفة , تزيده جاذبية على الرغم من نفورها منه ....
ثم قالت أخيرا بخفوت
( خطأ ...... هناك جانب انساني في حياتي , لكنني أحتفظ به خارج أسوار هذا المكان , حيث ينتمي ... )
ابتسم أمجد مجددا باستياء اكبر ....ثم قال وهو يبتعد عنها
( جيد .... احتفظي به مجمدا خارج اسوار المكان , حظا سعيدا لكليكما ...... )
استدار عنها و سار بخيلاء دون حتى ان يهتم بالقاء تحية ....
شعرت ان وقاحته تزيدها غيظا اكثر مما فعل اي رجل غيره من قبل ....
فقالت من خلفه بصوتٍ عالٍ بارد
( سأفعل .... شكرا للنصيحة ....... )
الا أنه لم يستدر اليها .... بل تابع طريقه وهو يقول ببرود مماثل
( اليوم سيتم عقد اجتماع سريع لمناقشة الأمر مجددا .... و عليه سيعتمد رجوعي أو عدمه .... حينها قد تسمعين بعض الألقاب التي ترضيكِ ..... )
زمت مسك شفتيها و هي تراه يبتعد متجها الى المصعد .... متجاهلا اياها , فنادت بصوتٍ اعلى قليلا كي يصله
( هل تملي شروط بقائك على ادارة المكان ؟!! ....هذا يعد ابتزاز ..... )
لم يرد عليها وهو يتجه يمينا و يختفي عن عينيها الغاضبتين المغرورتين ..... فزفرت بحنق و اتجهت خلفه تريد استخدام المصعد ....
و ما ان وصلت اليه ... وجدت أمجد واقفا , يوليها ظهره منتظرا وصول المصعد دون ان يشعر بوجودها بينما ...
وكانت تصدر عنه بعض الهمهمات الغاضبة ....
ضاقت عينا مسك و هي تقترب منه دون صوت مرهفة السمع .... و التقطت أذناها بضع كلمات ساخرة كريهة صادرة عنه
( تريد ألقاب !! ...... بالله عليها من تظن نفسها , والله حتى أن اسم ألمظ أكثر رقيا منها ...... )
تسمرت مسك مكانها و فغرت شفتيها و هتفت فجأة دون أن تستطيع أن تمنع نفسها
( هل تلقبني ألمظ !!! .............. )
استدار امجد ناظرا اليها , عاقدا حاجبيه .... ثم نزل بنظراته الى قدميها المنتعلتين حذاءا أرضيا خفيفا لا يصدر صوت ....
ثم نظر اليها و قال بلامبالاة
( لا ترتدين كعبا عاليا اليوم !! ........ )
هتفت مسك بغضب
( و ما دخلك بحذائي ؟!!! ....... كيف تجرؤ على أن تسخر مني و تلقبني باسم آخر دون علمي ؟!! .... )
أعاد أمجد عينيه الى لوحة المصعد ليتجاهلها مجددا وهو يقول ببرود
( و من قال أنه لكِ ؟!! ........ )
ضاقت عينا مسك و قالت بشراسة ...
( و لمن هو اذن إن لم يكن لي ؟!! ............. )
قال أمجد باستهانة شديدة
( لا شأن لك .......... )
فتح المصعد أبوابه في تلك اللحظة و دخل أمجد اليه ... و ما أن استدار ناظرا اليها , كانت هي الأخرى تقترب لتدخل الا انه رفع كفه و قال ببرود جليدي
( عفوا ........ أنا لا استقل المصعد مع أحد ...... )
ثم ضرب زر المصعد ليغلق أبوابه في وجهها المصدوم ......
نظرت مسك حولها قليلا و هي غير مصدقة لما حدث !!!
تحركت خطوة يمينا .... ثم خطوة أخرى يسارا بعدم تركيز و هي تحك جبهتها من شدة الغضب ....
ثم وقفت مكانها و هي تغمض عينيها لتنظم أنفاسها كي تهدأ ...
و اخذت تهمس بجنون
" تبا له !! ...... من يظن نفسه !! ..... من يظن نفسه ذلك الكريه الفظ الوقح !! ..... "
أما أمجد فقد كان واقفا في المصعد ... و قد تخاذلت شفتاه و اظهرتا ابتسامة غادرة رغما عنه وهو يفكر
" أنها تبدو أكثر جمالا و هي مصدومة ..... على الأقل زال عنها ذلك الإنكسار الحزين , فالإنكسار لا يليق بال ....ألماس !!! .... "
.................................................. .................................................. .................
كانت غدير قد دخلت الى غرفة السيدات في الشركة .... و لحسن حظها وجدتها خالية ....
و ما أن صلت الى احد الأحواض حتى أمسكت به بقوة .... ثم فتحت صنبور الماء و اخذت تنهل من بكفيها و تضرب وجهها بالماء البارد كي تهدأ ....
و ما أن سكنت قليلا حتى وقفت مكانها تلهث بتعب , قبل أن ترفع وجهها و شعرها المبللين تماما لتنظر الى صورتها في المرآة ........
همست بصوت شرس متألم
( كيف فعلت هذا ؟!! ..... كيف كشفتِ نفسك الى هذا الحد ؟!! ..... هل تريدين خسارة كل شيء ؟!!! ...... )
ارتجفت شفتيها فجأة قبل أن تعض عليهما بقوة و هي تهمس بعذاب مضني
" لقد أحببته ...... أحببته ....... "
انتفضت فجأة على صوت رنين هاتفها .... فأخرجته من جيب بنطالها بأصابع ترتجف لكن ما أن رأت الأسم حتى رفعت عينيها لاعلى و هي تهمس باعياء و غضب
" لا .... لا ... هذا ليس وقتك أبدا ..... "
لكن رنين الهاتف استمر و استمر حتى أوشكت أن تفقد أعصابها حتى بعد أن أخفت الصوت ...
استمر اسم أمها يضيء و يطفىء بين أصابعها الى أن زفرت أخيرا بجنون ثم أجابتها بعصبية
( ماذا ؟؟ ..... ماذا .... ماذا تريدين مني ؟!! ... لماذا لا تكفين عن ملاحقتك لي ؟!! .... )
ردت عليها أمها بصوت خافت
( غدير .... اسمعيني فقط , أنا احتاج اليكِ ..... لا تكوني بمثل هذه القسوة .... )
فتحت غدير شفتيها تنوي الصراخ بجنون ... الا انها عادت و أغلقت فمها .... و هي تضرب الحائط الرخامي بقبضتها بكل قوتها ثم همست من بين أسنانها بغضب
( ألم يصلك مصروفك لهذا الشهر ؟؟ ......... )
ردت أمها بصوت متخاذل
( نعم ...... وصل ....... )
هتفت غدير بجنون
( اذن ماذا تريدين مني ؟!! ..... هل تريدين المزيد من المال ؟!! ...لأنكِ لن تحصلين مني على قرش واحد ..... )
صدر صوت أمها ضعيفا و هي تقول
( أريد فقط أن أراكِ ......... )
هتفت غدير و هي تدور حول نفسها
( الا تملين ؟!! .... الا تتعبين ؟!! .... هل تتخيلين أنني قد اصدقك ؟!! أنت تحتاجين الى شيء ما و الا ما كنتِ أتيت و حاصرتني باتصالاتك أبدا ..... اعترفي أتريدين شيئا ؟!! ...... )
ساد صمت متوتر قصير ....
فرفعت غدير رأسها لتضحك بصوتٍ أجشٍ عالٍ على الرغم من دموعها التي تغرق وجهها ... ثم هتفت بقوة
( كنت أعلم ...... كنت متأكدة من ذلك , اسمعيني جيدا ..... أنا لست قابعة على تل من ذهب أغترف منه وأعطيكِ ... يكفيني أنني أعيلك حتى الآن على الرغم من كل تصرفاتك المخزية ..... )
صمتت قليلا تلتقط أنفاسها ثم قالت بقسوة و هي تلهث من بين أسنانها بينما عيناها تقدحان شررا و قد فقدتا آخر ذرة رقة و براءة فيهما و تحولتا الى عينين شديدتي الشر
( لولا ذرة الضمير المتبقية لدي لكنت رميتك بعيدا عن حياتي بأكملها .... لا أريد أن أعرفك ... لا أريد .... )
هتفت أمها بصوت متوسل
( ارجوكِ يا غدير اسمعيني ... أرجوكِ اخرجي و لاقيني و لن آخذ من وقتك أكثر من عشر دقائق فقط ..... )
اتسعت عينا غدير بذعر و هي تهتف
( أخرج الى أين ؟!! .......... )
قالت أمها بصوتٍ خائف
( أنا .... أنا أقف خارج ....مبنى عملك الآن ..... )
فغرت غدير شفتيها بذعرٍ أكبر .....
( خارج ال ..... ياللهي ..... ماذا تفعلين هنا , أبتعدي عن هذا المكان حالا .... أسمعتِ حالا , أقسم انني لو خرجت ووجدك فسوف أمنع عنكِ كل قرش تحصلين عليه مني ..... )
و دون أن تنتظر الرد اغلقت الخط على صوت أمها و هي تنادي اسمها .....
فتح باب الحمام و دخلت احدى الموظفات .... الا ان غدير استدارت اليها و هي تصرخ بقوة باكية
( اريد البقاء وحدي ..... ارجوكِ اخرجي ..... )
ذعرت الموظفة من شكل غدير المنهار .... لكنها استدارت و خرجت مغلقة الباب خلفها ....
بينما استندت غدير بظهرها الى أحد الجدران و انزلقت و هي تبكي و تشهق بقوةٍ الى ان جلست أرضا و رفعت ساقيها الى صدرها .... لتدفن وجهها بين ركبتيها و كأنها عادت مراهقة من جديد ....
الى متى ستظل تتحمل رؤية هذه المرأة و سماع صوتها .... الى متى .....
رفعت غدير وجهها المتورم الباكي و هي تحدق أمامها باكية و جسدها كله يرتجف .....
متذكرة البيت الذي كان يضمها كلما هربت من الجحر الذي تسكنه باكية ....
كانت مسك دائما تنتظرها و تستبقيها معها لتنام في فراشها .....
كانت دائما ما تصر على قلب الامر الى مزاح و جنون ... لا تستسلم للكآبة أبدا ....
لكنها لم تكن تعرف ...
لم تكن تعرف و هي نائمة في آخر الليل أن غدير لا تزال مستيقظة .... تنظر اليها في الظلام بغضب ...
تكره عدم احساسها .... و تكره تفضلها الدائم و ظهورها بمظهر المحسنة و البطلة التي تقهر الأحزان ...
بينما هي لم تعرف الأحزان مطلقا في حياتها ,,,,
كانت تكره ان تعظها مسك .... و هي لم تعش مثل حياتها و لم تذق ما ذاقته هي من ذل و قلة حيلة ....
أغمضت غدير عينيها على الدموع الحارقة بعينيها و همست بقهر و هي ترجع رأسها للخلف
( أريد أن أرتاح ....... لماذا لا أرتاح حتى الآن ..... أنا تعبت ..... تعبت جدا .... ) 

طائف في رحلة ابديةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن