تفقد جميع الأماكن التي كان من المحتمل وجودهم بها . لم تكن تصدق انه يفكر بهم بعد ان وجدها . تأكدت ان عقله معهم و قلبه معها . كان من الطبيعي أن يبحث عنهم فهو المسؤول عنهم امام الله أولاً و نفسه ثانياً ، فهؤلاء أبناؤه و هذه هي ابنة خالته قبل ان تكن زوجته . كانا الحزن و املها فيه يعميان عقلها عن مسيرتها نحو العلم ، فلن تضحي بأغلى الناس مرة ثانية بسبب انانيتها .
كان يشعر هو الاخر بنفس الشعور لكن بطريقته الخاصة . بطريقة الذكور، فقد وجد حبيبته التي غابت عن عينه اكثر من سنتان . كان يشعر ايضاً بالحزن ، فلم يتوقع رؤية أبناؤه في مثل تلك الحالة الكارثية و انه قد يخسرهم في أي لحظة كما خسر والدته فكانت مشاهد الحادث أليمة ، تُطير كل ما أمامها من شماسي ، كراسي و الناس حتى اصابت المباني فأصبحت شوارع تلك المدينة رائعة الطبيعة مليئة بالجثث ، سكان المدينة المساكين تحت أنقاض العمائر المهدمة . لحسن الحظ وجدهم في اقرب مستشفى قابلته . شعرت بفقدان الأمل . نظرت إلى الأرض لتتسأل في حيرة و قلق أيمكنها العيش هي و حبيبها بمفردهما دون أشخاص اهم في حياته ، فكان جزء منها يتمنى لهم الإختفاء من حياتهما للأبد و الجزء الاخر يتمنى لو ترحل عنه للأبد ، فقد اصبح له عائلته الخاصة .
كانت عائلته في غرف العناية المركزة ، هو ايضاً كان داخله جزء لا يهتم بحياتهم و جزء اخر يهتم بهم ، فإنهم عائلته الوحيدة و لا يدري إن كانت ستبقى معه أم ترحل كما رحلت من قبل . جلسوا كلاهما على المقاعد الموجودة في طرقات المستشفى منتظرين أي خبر عن حالتهم . قطعت الصمت الذي طال وقته في التفكير سائلة إياه بفضول :
-ما الذي دفعك للزواج منها ؟
رد عليها بقسوة :
-إنه شيء لم تفهميه و لن تفهميه!
حدقت فيه بإستغراب اولاً ثم فهمت ، فلا عتاب عليه بعد ان تركته . تعمد جراحها بكلامه قائلاً في لا مبالاه آخذاً نفساً عميقاً و زفره :
- أمي فقط أوصتني أن يكون لي عائله و ألا استوقف حياتي عليكِ .
نطق كلماته الأخيرة مستديراً برأسه المستند على الحائط ، كان جالساً ، ضامم ذراعيه أمام صدره ، حقاً انه غريب الأطوار ففي مثل تلك الحالة ليس من الطبيعي إطلاقاً حالة البرود تلك .
فهمت الان لماذا هو شيء لم تفهمه و لن تفهمه ، فقد أوصتها أمه ألا تترك إبنها الوحيد فيعيش بلا عائلة بعد عمر طويل لها ، فلطالما عرضت عليه فتيات كثر للزواج لكن رفضه الدائم شكل قلق على أمه ، لذلك بعد ان وجد هو من يتزوجها ، اوصتها ألا تتركه. شعرت بالخجل أمامه و مِن ثم خمنت سبب موت امه ، فكان رحيلها عدم وفاء بالعهد . فكانت تلك السيدة العجوز تعزها كإبنتها . ارادت تغيير مسار الحوار بتأكدها من تخميناتها ، فسألته بتهتهه بعض الشيء :
- كيف توفت أمي؟
أجابها بسخافة و استهزاءً بكلامها :
-أيمكنك عدم ذكر امي و كأنها أمك ؛ فلم يكن لأمي أبناء غيري ، اما عن موتها...قد اصابها جلطة في القلب .
التفت إليها بأستحقار و تابع
- حزناً عليكِ .
كانت على وشك البكاء . عينيها ، انفها و خدودها محمرين تمهيداً لبكائها . قد بكت كثيراً طوال الفترة المقبلة ، لكن تلك المرة كانت غير ، فقد تعمد إحراجها و جرحها بكلامه الحجر حين اخرج كل ما في قلبه من حرقة و آلام طوال تلك السنتين .
أشاحت بنظرها إلى الأرض ، فوقفت مستعيدة قوتها التي سلبها منها فتحركت بحثاً عن دورة المياة . نظر إليها بقلبه الذي خشى فقدانها ثانيتاً و عينه التي خشت عدم رؤيتها ثانيةً ، فتحرك نحوها في نوع من الركد و عيناه المحدقتان بها لا تفارقانها ، جميع حواسه في تركيز شديد معها . ألتقطها بيديه الاثنتين ، استدارت له و عينيها يجهشان بالبكاء . هو يعلم ان ما يفعله هو الصواب ، يريد ان يجرحها ولا يخسرها ، يريد عتابها و لا تركها ، يريدها حين كانت فتاة بريئة ذات السادسة عشر ربيعاً . يعلم جيداً أن مواساتها بعد جرحها ستبني عندها انه ليس ثابتاً على وضع . كلٌ منهما أستطاع إكمال حياته منهم من عاش بعقله و يدعس على قلبه كل يوم بألم و منهم من ندم على أفعال متهورة له في الماضي و ندم على حبه .
نظرت له في دهشة ترى لماذا أوقفها ؟! لم تتوقع منه ان يستوقفها . وضحت ذهابها لدورة المياة . تطمئن قلبه حين سمع ذهابها نظر للأسفل ، انزل يديه من عليها بمهل . جلس على المقعد في ممر المستشفى ، سمع ضجة عند ممر العنايات المركزة ، وقف بأستعجال ليطالع ماذا يحدث .
خرجت من باب الحمام رأته جالساً على ركبتيه في بكاء لا يتوقف . أسرعت إليه فوقعت جالسة على الأرض بجانبه ، لم تسأل أي سؤال فإن دموعه كانت شافيه لجميع أسألتها . أحتضنته مائلة برأسها على كتفه . أسندته حتى يجلس على موقع الكرسي . من يومها و بدأوا التحضير للجنازة ، الدفن و تلك الطقوس . فقد دفن الثلاثة في بقعة بعيدة عن المدينة . كان من الأولى دفن ضحايا الحادث من سكان المدينة ، فأخذت الجثث تملأ الأماكن المخصصة للدفن .
أنت تقرأ
هما (هي و هو)
Historia Cortaأحياناً قد تكون اختياراتنا غبية لاكن تأثيرها قد يكون اجمل مما نتوقعه ، يكون القدر قاسياً علينا ثم يطيب جروحنا بقسوة اكبر ثم يحولها إلى مفاجأة ليست على البال، فإن الحب لا يعرف سن او لون او دين فالحب يعمي عيوننا و يفتح اكبر أبواب القلب ، قد تكون صائبة...