كابوس ، لابد وانه يعيش كابوساً .. الهمهمات الخافته بلا كلمات واضحة ، حركة جفنيه السريعة ، حركة رأسه المترددة ، تفصد العرق من جبينه .. يا الله ماذا سيحدث معه الآن .. صرخة بلا أخيرة صدرت عنه .. صحبتها افاقته السريعة .. اعتدل جالساً علي الفراش بأعين جاحظة .. يتلفت حوله بذعر وكفه يمسد اسفل رقبته .. تدلي فمه بصدمة لوهلة قبل أن يصفعه الإدراك دفعة واحدة .. نفض رأسه بحركة حادة وهو يعتصر عيناه .. فتح عينيه بحذر ليقابله نفس المشهد الذي أكد له ان ما عايشه أبداً لم يكن كابوساً .. ابتلع ريقه بتوتر و هو يبتعد لآخر الفراش .. قبل أن يهتف بصوت رغماً عنه خرج مهزوزاً ،،،
- " انتي مين ؟ "
عضت شفتها السفلي بحرج .. لقد استعدت لآلاف المرات لتلك اللحظة .. لما هربت الكلمات منها الآن .. أعاد سؤاله بجدية أكبر .. فاستجمعت شجاعتها وحاولت التماسك لتجيبه ،،،
- " زينة ... زينة الخولى "
غضب ، اشتعال ، بركان حارق اندلع في احشائه .. لن ينسي المحادثة التي كانت كصفعة مدوية علي جبين ثقته الوليده برفيقه .. لقد خدع ، وعلي يد من !!
- بحدة سألها " تعرفي دكتور ناصف منين .. وايه سبب اللعبة الى لعبتوها عليا دي "
اقتربت منه بهدوء تحاول لمس ذراعه فانتفض قافذاً عن فراشه وملتصقاً بالحائط خلفه .. ثم اشار بسبابته محذراً بتوتر ،،،
- " اياكي تلمسيني انتي فاهمة "
أومأت بسرعة وهي تبتعد بدورها فصرخ بها ،،
- " جاوبيني ، تعرفي دكتور ناصف منين "
ثم تحولت ملامحه للإزدراء وتابع " وازاى أكبر دكتور نفسي في اسكندرية يشارك في لعبة قذرة زي دي ! "
رفعت يديها أمام وجهها لتهادنه قائلة ،،،
- " هجاوبك علي كل اسئلتك بس ممكن تقعد وتحاول تسيطر علي غضبك ده لمصلحتك صدقني "
- " انطقي "
تنهدت بقلة حيلة وهي تومئ برأسها موافقة قبل أن تشير لنفسها معرفة ،،،
-" أنا زينة الخولى د ... "
توحشت ملامحه وهم بمقاطعتها بحدة فتابعت " دكتورة زينة الخولي ، مساعدة دكتور ناصف "
فرغ فاه بصدمة فتابعت موضحة ،،،،
- " انت عارف ان مرضك نادر ، انواع الفوبيا كتير جداً ومرضك أكثرها ندرة .. معندناش معلومات كافية عن المرض .. ولخوفك المرضي مقدرتش اشارك في جلسات العلاج مع دكتور ناصف .. او بمعني اصح كنت بحضر وانت مش بتشوفني "
لم تعد قدماه قادرتان علي حمله أكثر فترنح في وقفته .. أسرعت نحوه بقلق فاستوقفها بإشارة من يده بينما يتقدم من فراشه جالساً .. ومولياً ظهره لها .. ثم قال ،،،
- " كملي "
زفرت بضيق ، لقد كانت تعلم ان المواجهة لازمة في تلك المرحلة من العلاج .. وقد كانت تناقش تلك النظرية مع أباها الروحي الدكتور ناصف عندما فاجأها حضوره .. لقد تأكدت بنفسها من نومه كعادتها اليومية خفية عنه .. ولكن كان للقدر كلمته .. اومأت وكأنه يراها وتابعت ،،،
-" مرضك في العموم دكتور ناصف شرحلك ابعاده .. واسمحلي اعيدها عليك "
لم تتلقي رد بل لاحظت ارتعاشة بدنه بوضوح .. ولكنها لن تتراجع .. ليس الآن علي أية حال ،،،،
- " حسب دراستي للمرض احياناً بيكون بدون اسباب ، اضطراب نفسي مفاجئ ، وفي اوقات تانية بيكون ليه اسباب محددة .. لو المريض مصرحش بيها للدكتور بتاعه فهو مش هيقدر يساعده .. واسمحلي اقولك ده الي حسيته في حالتك " ثم التفت حول الفراش لتواجه ملامحه المتجهمة متابعة " المهدئات ومضادات الإكتئاب الي بتاخدهم دول مش اكتر من مسكنات .. مش علاج حقيقي .. العزلة الي فارضها علي نفسك كان لازم تتفك .. علشان كدة اقترحت علي دكتور ناصف في الأول انه يقنعك تعمل حساب افتراضي علي احد مواقع التواصل الإجتماعي .. علشان تتعامل مع الجنس الآخر بأريحية أكتر " ثم تغيرت نبرة صوتها لتظهر بها لمحة حزينة " وكنت محتاجة اكون قريبة من الحالة اكتر علشان كدة اخدت الحساب ودخلت كلمتك من خلاله"
عند تلك النقطة رفع نحوها عينان مشتعلتان بحمرة الغضب .. قبل ان يهمس بصوت خطير ،،،
-" كنتي عاوزة تقربي من الحالة ! "
-" حسام أرجوك سيبني اكمل .. كل الي حصل لمصلحتك .. انت مش عاوز تعترف باسباب علتك .. فمتلومنيش اني بحاول اساعدك "
حرك رأسه بأسي وابتسامة متهكمة تعلو ثغره " طبعاً حقك تشفقي علي الراجل الي مش راجل وبيترعب من الستات الحلوة مش كدة ! "
-" لو سمحت مش من حقك تقول كلام علي لساني .. ارجوك سيبني اكمل للآخر "
اشار لها بيده بلا اكتراث وهو يتجنب النظر لها " ومالو اتفضلي كملي "
- " اقتراح الباخرة كان مشترك بيني وبين الدكتور ناصف .. لمساعدتك علي الاندماج مع الوسط المحيط بيك بدون ما تهرب .. بس انا كنت متأكدة من هروبك وعلشان كدة عملت احتياطي .. وجودى علي الباخرة كان علشان اتابعك لو حصلت اي انتكاسة في الحالة .. استنيت يومين وفعلاً الي توقعته حصل وحبست نفسك في اوضتك .. مصدقتش نفسي تالت يوم لما شوفتك طلعت منها .. وساعتها قررت انفذ الخطة البديلة "
- " خلصتي ! "
نظرت له بتوتر .. تحاول تفسير حالة السكون التي كان عليها و الغريبة علي الموقف .. فأعاد سؤاله بهدوء .. تحمحمت لتجلي حنجرتها ورغماً عنها خرج صوتها متحشرجاً " أيوة "
أشار بيده للخلف نحو باب غرفته بملامح غير مقروئة " اتفضلي "
لقد عرفت دوماً بالهدوء ، بحكمة وعقلانية التصرف .. لماذا اذا تشعر بحاجة ماسة لصفع ذلك الغبي .. لقد انتوت تعريضة لتلك الصدمة .. وكان ذلك محور حديثها مع ناصف .. بينما تشرح له باختصار ما أقدمت عليه .. عندها تفاجأت بحسام يفتح باب غرفتها .. ليطالعها وقد تحررت من الكاب والباروكة الخانقة التي تصيبها بحكة تكاد تذهب عقلها .. لقد كانت الصدمة من نصيبهما معاً في تلك اللحظة .. لماذا تشعر الآن بالفشل ، بالألم ، بنغزة في قلبها بينما يشير بيده المرتعشة رغماً عنه نحو الباب .. في دعوة صريحة للخروج من الغرفة .. أومأت برأسها بهدوء وتحركت كالمغيبة نحو باب الغرفة .. بمجرد خروجها انسابت دموع القهر علي وجنتاه .. وما أقساه قهر الرجال !!
***
لم يستطيع النوم اغراءها .. وقد استبد بها القلق عليه .. الشعور بالذنب يمزقها وهي تعترف لنفسها .. بأنها أرادت ذلك .. جزء اناني بداخلها للتعرف عليه بطبيعتها الأنثوية .. أراد خلع رداء الذكورة الذي تلبسته لأجله .. أمل بداخلها تنامي وقد لمست تحسن حالته .. جزء رفض الإستمرار في خداع من تحب !!
لن تخدع نفسها .. لقد اعجبت بشخصيته التي لمستها في كلماته التي تغلغلت لداخل اعماقها .. هو عقدته الجمال ، وهى عقدتها جمالها الذي كان نقمة لا نعمة تسعد بها كغيرها .. جمال طالما حاولت طمسه بشتي الطرق .. انها الأنثي الجميلة في المجتمع الشرقي .. المطمع لكل دنئ .. لا يري منها الا وجه حسن وجسد غض .. خطبتان فاشلتان والسبب !! رجل تافه لم يري أبعد من ملامح وانحنائات تثير غرائزه .. الجميع ينظر لها كدمية لا كإنسانة عاقلة بعقل راجح وذكاء فطري .. لم تصدق عندما أخبرها الدكتور ناصف عن الحالة الجديدة التي زارته في اليوم الوحيد الذي طلبت فيه أجازة لمراعاة أمها المريضة .. أنيسها الوحيد في الدنيا .. ڤينوسترافوبيا ( الخوف من الجميلات ) كان ذلك هو تشخيص أستاذها للحالة .. مرض نادر ورغم فضولها العملي لمتابعة حالة كتلك ولو من بعيد .. الا ان أكثر ما أثار تعجبها وحماسها .. هو تواجد حالة كتلك في المجتمع الشرقي .. وما يعانيه حتماً في ظل مجتمع يري الرجولة من خلال تعدد العلاقات .. لقد تحمست لفكرة الاقتراب منه .. التعامل معه عن كثب .. رغم علمها باستحالة ذلك وهي تمثل علته متجسدة .. لذلك بدون علم أستاذها .. احضرت باروكة و قبعة لتغطي شعرها .. واستعانت برباط ضاغط عريض لطمس معالمها الأنثوية عن عينيه .. بجانب الملابس الداكنة الفضفاضة كمطربي الراب .. لقد أفادتها بحة صوتها المميزة مع بعض تدريبات الصوت علي إضفاء الخشونة اللازمة علي صوتها وقت الحاجة .. وقد كان ذلك كافياً .. رغم استشعارها لشكوكه نحوها اثناء مزاحه معها بصفتها زياد والتي تمثلت في " ياض انشف كدة ولما نرجع لازم تروح چيم " ، " انت علطول لابس الكاب ده ليل نهار مبتزهقش منه ! " ، " وربنا انت فيك انوثة عنها " وقصد وقتها فتاة حاولت مغازلتها لكي تبعد شكوكه .. ماذا سيحدث بعد ! هل ستفيده تلك المواجهة ! .. لقد اعتمدت فكرة الصدمة في علاجه .. الا انه علي ما يبدو تعجل صدمته .. والآن ليس بيدها سوي الإنتظار والمراقبة عن كثب .. وليفعل الله ما يريد .. لقد فات أوان الندم وهي امرأة ناضجة في الخامسة والعشرون من عمرها .. اعتادت تحمل تبعات أفعالها .. أبداً لن تتركه لتلك الهواجس .. لذلك المرض الذي يتآكله بلا رحمة .. يبتلع عمره وشبابه في دوامة ذكريات سيئة ودعت ثقته بالجميلات .. ولن تكون ابنة الخولى إن لم تعيد له تلك الثقة .. ليس لأجله فقط بل لأجلهما معاً !!!***
كذبة ,,, حياته كلها عبارة عن كذبة كبيرة .. دوامة ابتلعت كل طاقته علي المتابعة .. صدمات متوالية بلا نهاية .. حتي من ظنه صديقاً , من اعتبرها ملهمته الغامضة لأشهر .. كلهن كاذبات .. الجميلات ااااه كم كان ساذجاً , غراً تافهاً وقع في فخ فينوسية أخري .. فرك شعره بانزعاج .. الن تنقشع تلك الغمامة عن حياته , ألن يري بصيص من الضوء يلوح في أفق ظلامها الحالك .. زفر هواءاً حارقاً من لظا اعماقه .. لقد تعب .. انهكته الحياة حتي ما عاد يرغب فيها .. براعم الأسي نمت وتشعبت في اعماقه .. لقد اكتفي , حقاً اكتفي , ولا يرغب في المزيد , لا يرغب في العلاج .. يريد فقط الراحة ..... الخلاص ,,,,
وعند تلك الخاطرة لمع بريق الاصرار في جمرتيه المشتعلتان .. هب واقفاً من جلسته التي ظل عليها بعد مغادرتها .. تلفت حوله بضياع .. يشيع كل ما اعتاد عليه .. اقترب من المنضدة متناولاً مفكرته .. بأيد مرتعشة أمسك القلم .. وخط سطور النهاية ,,,,
( الحياة خدعة .. وما سواها حق .. عندما يزرع الألم .. يحصد الخذلان .. وعندما تنتهي السبل .. لا أحب علي من نهاية بين أحضان الأزرق .. وداعاً لعالم النفاق .. وداعاً لحياة كانت علي لم تكن لي .. وداعاً مفكرتي ورفيقة أحزاني .. لقد ان أوان الرحيل !!!! )
ترك مفكرته علي فراشه .. مودعاً غرفته التي احتضنته اخر ايامه .. وتحرك مغادراً لها منتوياً تنفيذ ما رآه صائباً وهذه المرة بلا تراجع ,,,,,,,,