القصة الأولى - قبضة من أثرها

17.1K 468 49
                                    

( قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِهَـــا )

تمنيتُ لو عدتُ بالزمن إلى الوراء، وأوقفت عقـــارب الساعة عن المضي قدمًا لأكفر عن ذنبي في حقها، وأعلن عن توبتي الأبدية، هي تحملت الكثير لأجلي، وأنا نقمتُ على ما قدمته في حقي...

لم أنسَ ذلك اليوم الذي حاولت فيه "نَغَمْ" استرضائي والتهوين عن ضيقي، فنظرت لها بفتور مرددًا على مسامعها بقسوة لم تعهدها مني:

-مهما عملتي صعب ترضيني، محدش عمره هيقدر يعمل ده ليا، حتى إنتي!

نظرت إليَّ مصدومة بعينيها اللامعتين، ورأيت فيهما العبرات تتراقص منذرة بسقوطهما في أي لحظة، همست متساءلة ومستنكرة تصريحي القاسي بصوت مختنق محاولة كبح دموعها بصعوبة:

-حتى أنا يا آسر؟

توسلتني في صمت أن أتراجع عما قلت، فأنا أدرك تمامًا أنها تعشقني حتى النخـــاع، كنتُ قد مَللتُ كل شيء، لم يعد بي أي رغبة في الاستمرار، سألتني بنبرة عاجزة وهي تمسح عبراتها بأناملها:

-إنت حبيتني بجد يا آسر؟

اختنقت نبرتها أكثر حتى بدت كأنين وهي تضيف قائلة:

-حبيتني زي ما أنا حبيتك ولا لأ؟

صمتُ ولم أجبها، فصاحت صارخة باستجداءٍ:

-رد عليا أرجوك!

أشحت بوجهي بعيدًا عنها رغم يقيني بأن قلبها يتمزق أمامي إربًا دون حاجتي للنظر إليها لأعرف هذا، بكت بقهر أمامي، وتعالت شهقاتها، ومع ذلك لم أرحم رقتها ولا ضعفها المغري، رأيت ارتجافة جسدها، وارتعاشة كفي يدها وهي تحاول الإمساك بكوب الماء لارتشاف بضعة رشفات منه، تابعت بجحود بارد لافظًا حبها للأبد من فؤادي:

-زهقت منك، ومن كل حاجة تربطني بيكي، افهمي بقى!

شهقت بذعـــر من كلماتي الجامحة، وسقط الكوب من يدها متهشمًا من إثر الصدمة، اتسعت حدقتاها الباكيتان في ذهـــول أكبر بسبب شراسة كلماتي القاتلة، لقد كنت كمن سكب الملح على جرح غائر ينزف بغزارة، فألهبه أكثر.

نعم قضيتُ بيدي على أخر بارقة أمل في علاقتنا الرسمية، لم تتحمل أكثر من هذا، فنهضت من جواري ساحبة حقيبتها على عجالة، وواضعة ليدها على فمها لتركض بحسرة هاربة من الموقف برمته، نكست رأسي للأسفل غامضًا عيناي بقوة ومانعًا نفسي من متابعتها وهي ترحل مبتعدة عني، أنا على ثقة تامة بأن حبها لي حبٌ عاصف، لا حدود له، لكني تركتُ – عن عمد – حبات عشقها لي تنفرط من بين أصابعي بسهولة، تخليتُ عن سعادتي لأظل قابعًا وحدي في بئرِ تعاستي.

أخرجت تنهيدة عميقة من صدري، وبحثت عن ولاعتي لأشعل بها سيجارتي الزهيدة، فأنفث من فمي ألهبة حامية كانعكاس لتلك النيران المستعرة بداخلي، ومن وقتها لم نعد كسابق عهدنا، فتر حبنا، وتناقصت الرغبة بيننا، حتى انتهى ما أسميناه يومًا حلمنا.

قصص قصيرة منوعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن