الفصل الثاني
اعتنقت عيناه بضع عصافير تحلق في فضاء الكون الواسع. فاختلطت زقزقاتها الناعمة بكعب حذاء رنان ليصنعا معا سيمفونية رائعة أثارت لهفته لرؤية صاحبة الصوت العابث بدقات قلبه .أنفاس عبَقت المكان فأقترن نداء مراد بالتفات علي لتقع عيناه عليها ،تمثال منحوت ببراعة كأحد آلهة الإغريق القديمة ،انزلقت نظراته ببطء على ذلك الجسد الفاتن خصر دقيق وسيقان جميلة ناعمة ،ملفوفة بتنورة تصل لركبتيها ....قميص حريري أبيض وجاكيت بلون التنورة عانقت أزرارة بعضها فنحتت الخصر وأظهرت فتنته الطاغية ليصل أخيراً للوجه ،أنف دقيق شامخ وشفاه رقيقة مطلية بأحمر قاني .عينان .
تأوه داخله وهو يميز لونها هل هو أزرق فيروزي أم ماذا ربما مزيج رائع وخليط متناغم
بين كليهما ، ارتفع ليلمح تلك الخصلات وكأنها بحار قهوة ،معقوصة خلف رأسها بينما انسابت بعض غرتها جانباً في رقة .
أفاق من تفحصة للفاتنة على صوت مراد قائلا
-علي قطع مراد استرساله حينما طالعته يمنى بنظرة شرسة ليحمحم قائلا بحرج
-يمنى بنت عمك .
اتسعت ابتسامة علي ليقترب شاهراً كفه ،وقفت يمنى تطالعه بعلو لكن همسة من مراد جعلتها تمد كفها وتبادله سلامه بكل غرور وآنفه ..
تفحصته بنظرة عملية تعودت عليها بدءًا من بنطاله الأسود وقميصه الأبيض ،شعره الأسود القصير الذي يدفن بين طياته تموجات وانحدارات ،بشرته السمراء وعينيه ذات وهج البندق .للحظة ارتبكت يمنى واهتزت نظراتها فذلك اللون يشبه لون عينا والدها الراحل
استجمعت شتاتها .وهتفت بنبرة عمليه لا تخلو من النفور
-اهلا يا علي .
انحسرت ابتسامة علي حتى اختفت لتسقط آماله محطمة على صخور الواقع المرير وهو يتابع نظرات يمنى المتعالية ولمحتها الخاطفة له ببرود وأخيراً ذلك الإحتقار الذي ينضح من مقلتيها الجميلتين .
جلست يمنى ووضعت ساقاً فوق الأخرى في كبرياء لعين أثار غضبه ،ليهتف مراد حرجاً
-اتفضل يا علي
جلس علي مقابلها عينيه متعلقة بإهتزاز ساقها ،قطع صوت يمنى حرب الأنفاس
-نويت على ايه يا علي ..؟
انتبه علي وانحنى بجسده للأمام مستنداً بمرفقيه على ركبته فيما كانتا كفيه موضوعتان بأريحيه تحت ذقنه ..ليضيق عينيه مستفهماً
-مش فاهم .؟
أشاحت يمنى برأسها وهي تغمغم بضيق
-دا كمان غبي
عادت له يمنى وقد توسد الأصرار والعزم عينيها
- يا علي أنا عملت الشركة دي بنفسي ومعنديش استعداد حد يشاركني فيها .
وادّعى الغباء مره أخرى متشدقاً ببقايا جلد ليحتمل عجرفتها
-وضحي
رفعت أنظارها للأعلى طالبة الإستنجاد من غباء الماثل أمامها وبروده .لتتابع من بين أسنانها المطبقة
-يعني تاخد قرشين حلوين وتنسى موضوع الميراث والشركة وكله .
بهتت ملامحه وشحب وجهه ،ليعود للمقعد ببطء ينقّل نظراته بين مراد الذي طأطأ رأسه بحرج وبين تلك الماكرة ونظراتها المتحدية .ابتلع ريقه والغضب يقتات على هدوئه ،كيف لها أن تعامله بكل هذا الغرور ومن هي لتُحدثه وكأنه أتى سارقاً ومستوليا على مالها، كأنه بحاجه إليه ،للحظة كاد يترك كل هذا ويرحل تاركا لها ما تريد ولتنعم بأموالها لكنه قرر العبث وخوض تلك المعركة مع تلك النمرة صاحبة الكبرياء اللعين ..
شملها بنظرة متفحصة أربكتها .ليهمس بكل برود وهو يعبث بلوحة موضوعة فوق المكتب
-أنا مش جاي .علشان فلوس أنا جاي أقدم واجب العزا ....وأشوفك .
فردت كفها على المكتب لا تدري لما ارتعشت ربما من صدق احساسه واخيراً تصاعد صوت قهقه ساخر لتتوقف يمنى هاتفة بسخرية ألمته
-علي بلاش النبرة دي أنت جاي علشان الفلوس فخدها وامشي
دوى صوتها كالصاعقة ،وفتفتت قلبه حزناً من كلماتها اللاذعة ..ليهتف بجدية
-وعلى كده ناوية تديني كام ؟
لاحت ابتسامة منتصرة على شفتي يمنى لتهمس بجدية
-يعني .
قاطعها مراد قائلا وهو يتطلع لعلي بإستجداء
-استهدو بالله دا برضو ابن عمك و أنت محتجاه جنبك يا بنتي .
انتفضت يمنى صارخة تطالع علي بسخرية قائلة
-أحتاج ده؟ لا طبعا عموما هو هياخد قرشين ويمشي ولا إيه ..؟
نظرت لعلي منتظرة إجابه لكنه اتكئ على المقعد بظهره ورفع ساقه ومدها على الطاولة .لتبتعد يمنى صارخه برفض
-إيه ده ؟
وكأنه لم يسمع ،فرد ساقه بأريحية ورفع ذراعيه وأراحهم خلف رأسه قائلا
-لا طبعا آعرف حجي وبعد كده نقيمة ..،أخد تمنه وأمشي .
اتسعت عينا يمنى بفزع فنصيبه ليس بالهين، فهي ظنته سيرضخ ويأخذ ما تجود به ويغادر .لكنه خلف توقعاتها
خيم الصمت على المكان وطالت فترة التفكير لتعتدل يمنى وتميل قائلة
-علي أعتقد أنت ميرضيكش الخسارة ليا صعب تاخد نصيبك سيوله جامدة كده ممكن الشركة تنهار .
اعتدل علي بسرعه وهتف بمرح
-ما جولنا كده .يا ساتر عليكِ خلاص أنا مش هتعبك و هاخد نصيبي ..اهو برضو حجي الشرعي ولا ايه يا عمو مراد .
ابتسم مراد بسعادة ،لتلتفت له يمنى بغضب فتخبو ابتسامته ويبتلع باقي كلماته
هتفت يمنى بنفاذ صبر
-علي
نهض علي بسرعة واتجه للباب دون أن يعطيها فرصة وهو يهتف بعزم أغاظها
-خلاص كده اتفجنا يا آمنه .هروح بجا احضّر حاجتي
خرج دون أن يستمع ردها ،لتتميز هي غيظاً وقهراً من اسلوبه البغيض، وهي تهذي بجنون
-آمنه
نهضت يمنى تصرخ برفض ونفور صحبته هيستيريا وغادرت بعدها كالصاعقة .
******
وقف علي أمام السور المطل على نهر النيل يشاهد احتضانه للشمس وقد بدأت بالغروب .
أخذته الأفكار وجرفته بتيارها بعيداً لما آل إليه حاله ، نظر لصفحة المياه الرقراقة وفجأة تلونت المياه بصورتها (يمنى الراوي )...تنهيدة عميقة خرجت تشق سكون جسده ، رفع رأسه للسماء ليجد المساء قد حل برهبته وفرض هيمنته وتوسط القمر عرش السماء بينما اللتفت حول النجوم في تحية وطاعة ،
لا يدري ماذا يفعل وما هو التعامل الذي يليق بتلك الشرسة صاحبه اللسان السليط ، أيترك لها كل شىء ويعود من حيث آتى ؟
أم يبقى ويساندها ويتحمل غرورها ؟
تذكر غمغمتها الساخرة التي ألمته (غبي )
أغمض عينيه طارحاً صورة ابتسامتها الساخره جانباً ليغادر للفندق فهو يحتاج لأن يغرق في بحور أحلامه ، أصوات معدته وتزمتها أخبراه إنه لم يتناول شيئا منذ الصباح الباكر لكنه برغم ذلك لا يشعر بشهية لتناول الطعام،
دخل الحجرة التي قام بتأجيرها في فندق متواضع، فتح الطعام الذي طلبه قضم قطعتين ليتركه بعدها ويتجه لفراشه خلع قميصه وتمدد عليه ، ظل يتقلب كثيراً وكأن في جانبيه جمرات من نيران تأبي الإنطفاء وتركه ينعم بقسط من الراحة ، وأخيرا سحبته دوامة النوم .
ظلت يمنى تتطلع حولها باشمئزاز وقرف ليطالعها الموظف قائلا بيأس
- مبيردش يا فندم
أصدرت يمنى من بين شفتيها المتبرمتين نفخاً حانقاً لتستسلم قائلة
-هو فأوضه كام ؟
طالعها الموظف بدهشة وظل صامتاً لدقائق لكنها نهرته بحدة ونفاذ صبر
-15 ...
غادرت يمنى تحت أنظاره فهي تريد الانتهاء من ذلك المدعو علي في أقرب وقت ممكن ، فالتأجيل و الانتظار ليس في صفحات قاموس يمنى الراوي ، ستلقي بوجهه الشيك ربما حينما يرى المبلغ يأخذه ويغادر وتنتهي من ذلك الأرق المزعج والكابوس الجاسم على أنفاسها .
وصلت يمني للحجرة المعنية ارتجفت قليلا وتقهقرت بخوف لكن صوت الخلاص حثها لتكمل فاندفعت دون وعي تطرق باب الحجرة بتحدي
تململ علي في نومته واعتدل منتبهاً لصوت الطرق نهض بتثاقل واتجه ناحية الباب فتحه دون أن يرفع عينيه الناعستين ، لكن تلك الشهقة الناعمة ولهيب الأنفاس التي ضرب وجهه جعله يرفع رأسه ويطالع مَن أمامه بنصف عين ، تعابير وجهه لم تتغير رغم دهشته بوجودها هنا في هذا الوقت المتأخر هتف ببرود وهو يبتعد قليلاً
–نعم
أشاحت برأسها من فرط خجلها لتهمس بنبره مرتعشة
- ممكن تلبس حاجه وتنزل نتكلم -
راقه خجلها و استعذبه من قطة شرسة مثلها لكنه يمتلك كرامة تأبي إلا الثأر
عاد ليهتف ببرود
ممكن أعرف سر زيارتك الكريمة فالوجت ده ؟
تأففت بضيق لتهتف بحسم وهى تُخرج ورقة من حقيبتها وناولتها له قائلة
-اتفضل
تناوله منها ببرود وما إن طالعها حتى ابتسم بسخرية قائلا –اممممممممممم
لتردف يمنى قائلة
-لو سمحت أنا مش عايزه شوشره اهو الشيك معاك و ياريت ننهي الموضوع
طوى علي الشيك ثم قام بتمزيقه أمام نظراتها المتراقصة بصدمة وهو يهتف
-أعرف ميراثي كام الأول وبعدين أقرر ده تمن مناسب ولا لا ؟
جزت يمنى على أسنانها قائلة بغضب أعمى
-مادي حقير .
احتدت نظراته وتطاير لهيب الغضب منها مد كفه يقبض على مرفقها لكن يده تعلقت بالهواء ليسحبها ويصفع في وجهها الباب قائلا
- من بعض مع عندكم ... صمت قليلا ليعاود الحديث قائلا من خلف الباب
- وحضري نفسك لاني هاجي أعيش معاكي ماهو مستحيل أجعد فأوتيل وأنا صاحب أملاك وعندي بيت مش بعيد جصر . قهقه بقوة ليتابع بإستفزاز
- بجيت صاحب أملاك يا علي
كادت تفلت عن جموح تعقلها صرخة غاضبة لكنها ابتلعتها وغادرت تلعنه وتسبه بكل أنواع الشتائم التي تعرفها
سار ناحية نافذة جانبيه لحجرة الفندق فتحها بتكاسل شديد ، ضربته نسمات الهواء المنعشة فاستقبلها بتمطؤ مبتسماً..، أقترب من حافة النافذة أسند كفيه عليها وتطلع للأسفل
صدمة لجمته وأسكنته، اتسعت عيناه وهو يرى ابنة عمه المزعومة شخص ما يحاوط كتفها ثم تصعد معه السياره وتغادر .
كز علي على أسنانه بغضب وتسائل داخله
من يكون صاحب الذراعين الحانيتين ؟
ضرب بقبضته كفه الأخرى المفرودة شخصَت عيناه فيما لسانه تمتم بحنق جلي
-ماشي يا آمنه .....أنا بجا ميعجبنيش الحال ده .
سار ناحية هاتفه التقطة بين أنامله دقائق يبحث فيه حتى عثر على رقم ضغط زر الاتصال بداخله قد عزم على أمر هام .
