الفصل الثاني: بزوغ نبراس الرحمة في كنف الضلالة.

69 7 0
                                    

     بعد قضاء خمسة عشر سنة في الشارع و الظلام، ففي عام 2014، على فترة من الدهر، من صقيع شهر مارس، حيث الزمهرير ينساب إلى الأجساد المتغلغلة و الهارية، ويخلف فيها ندبة بزرقة دامية، و حمرة قانية، كأن الدم متلكد فيها. كنت أتجول في عرش مملكتي وحيدا، في وقت الغسق المتواري و الجاثي على بقعة من الأرض، بعد أن آوت المدينة الصاخبة إلى مرقدها بسلام، و البشر ارتموا إلى بيوتهم الدافئة، و الطيور عششت في عشها الآمنة، و الكلاب بسطت أرجلها و نامت. كجلوس الأسد و تخطيطه لقوت يومه، تاركاً الرعية تقوم بجلب الفرائس، أخطط لما سأفعل، يعم مخيلتي ضوضاءً عارمة، و لجة غامرة، بالكاد أسمع هزيم الأفكار تجلجل عقلي، أسير بغير هدى، بدون رشد، عقلي مسلوب من مكانه، معلق فيما سيقع، فيما سيحدث، أفكاري خبيثة تفكر في المكائد و الخبائث.  في برهة من سهوي، و  غمرة من النسيان، سمعت صوتاً غليظاً آمراً هرول وطفا إلى أذناي، و أيقظني من يقظتي النائمة:
    -" هاي، أيها الولد، ماذا تفعل في هذه العتمة الليلية؟".
    -" لا شيء".
    قلت بشجاعة و جراءة، و انقضت الكلمات من لساني، كالفتى الذي لايزال يتلعثم بالكلام. لقد كانت الشرطة، لأول مرة أقبع بيدهم، أخذوني معهم إلى مركزهم، سألوني عن اسم أبي وأمي واسمي، بدون أن يعلموا، لقد وضعوا السكين على جرحي الغائر، الذي يجعلني أفقد طوعي، فقلت و على وجهي الأسمر الشاحب استياءً و ضجراً من الضابط:
    -" ليس لي أباً و لا أماً، و اسمي اليتيم".
    -" و أين مسكنك إذا؟!".
    -" الشارع".
      قال الضابط بامتعاض و استياء مني، و يبدي غضباً على وجهه المستطيلي ذو الأنف الطويل و الشارب الكثيف، المتجانس بالسواد و البياض:
    -" أتضحك عليّ يا ولد".
    -" لا يا سيدي إنما الحقيقة".   تفوهت بكلمات ركيكة و أنا أحدق إليه بدقة.
    انبجست من عيناي دموعاً متأججةً، بِنار اليُتم، الفراق، الوحدة، الضياع، خمسة عشر سنة من عمري ذهبت هباءً منثوراً، دون مأوى، بلا دراسة، العيش بالبؤس، الكدر، السواد، المعاصي، الذنوب، خمسة عشر سنة نسجت المعاناة فيها خيوط كفني، وجهزت نعشي، و كنت أتخبط بين ثنايا براثنها، و أقبع في وسط تائها، لكن يد القدر استبدت عليها، حينما تشبثت بحبلها. في هاته السنين التي خلت سدى، اِلتف حبل الحزن المفتول حول قلبي و طوقه كأفعى ملتفة بإحكام.  في برهة! بصوت خشنٍ من كبر السن دَنَا إلى مسمعي، و منديل أمام مرأي، كان الضابط، قال بمواساة و لطف:
    -" فيها خير يا بني، فيها خير، لا تقنط من رحمة الله، لعله يخزن لك رزقك إلى حين من الدهر، لا يعرفه إلا هو".
   
     لقاءً واحداً، ساعةً واحدة، كلمات مقتضبة، كانوا ذَا كفالة، بإنقاضي من أدغال مملكة الشارع، و متاهة عرش الظلام، لأنه حان وقت الوداع، مجرد لقاء واحد كان كفيلا بتفريقي عن الشارع، الذي كان شاهداً على اختلاجي و انتفاضي، على أيام الكدر الذي قطنت فيها بأحضانه، كان مأواي، الذي آوي إليه بعد اصطيادي، لقد شاهد المرات التي اختلست فيها أشياء الناس، و سطوت و اعتديت عليهم، مررت فيه بالبأساء و الضراء، أيام الحزن و المعاناة، الشجن و المقاساة، ما أصعب الفراق حقاً عندكم أنتم، لكن، ما ألذه عندي، لأَنِّي سأغادر الشارع، فالوداع الوداع. و يا سيدي الضابط، شكراً لك على إعانتك لي، بفضل الله و بفضلك، تغيرت حياتي، مثلك قليلون في هذا العالم، الشكر لن يجازيك حقاً. قد أخذ بيدي، و أدلى بي  إلى جمعية مختصة بجمع شتات أطفال الشوارع، اهتموا بي، اشتروا لي ملابس الي لم أتنعم بها قط ، و أعطوني اسم ( كريم ) و كنية، وعلموني حروف الهجاء ودرسوني. قد بزغ الفجر في وجهي بكل فرح وسرور، و عانقته عناقاً حميمياً و بكل حبور، ترى كل شيء في هذه الدنيا بقدر معلوم، كل شيء مدقق، و كل واحد يجازى. فأضحى النهار ملجئي، و فيه أقضي مآربي.

    بعد اختلاف الليل و النهار علي، وتعاقب الشهور والسنوات، وتقلب الفصول الأربعة، وجدت نفسي قد بلغ بي المطاف إلى الخامسة و العشرون ربيعاً.  تعلمت القراءة و الكتابة و الحساب، عشرة سنين لم تكن كالسنين التي خلت من الدهر، قطعت فيها سرداب ذكريات الماضي، وأخذت لنفسي دفتراً جديداً،  فيها قلت وداعاً للهم و الغم، و أنشدت الحياة المثالية، أول شيء بدأت به، هو أني صلحت علاقتي مع الله، تقربت إليه، غدوت خاضعاً لكل أمر و نهي، صرت على سبيله السوي، و منهاجه المستقيم اللاعوجاج فيه، و اهتديت بنبي الهدى صلوات ربي و سلام عليه، لقد وجدت نفسي التي كانت ضائعة بين خبايا مملكة الشارع، و غياهب عرش الظلام المخلوع، كل شيء غدا ضرب من الماضي، لقد جعلت من هذا الماضي محفّزا و معلماً  لي للمضي قدماً في حياة مثالية، لقد دبّت الحياة في روحي تارة أخرى، و عاد النبض يقرع أسماعي، و رجع الدم إلى جريانه المعهود، و اعتدلت و استويت. لم يكن  بالسهل عليٌ تغيير نفسي من الداخل، من جوفها و من قرارة نفسها، من جنانها، كان الأمر مضنياً حقاً علي، لشد الليالي التي سهرتها على التعلم وتعويض ما سلف، كنت أقوم بالعمل مضاعفاً، وفي كذا مرة من العام الأول من العشر سنوات، سمعت الأستاذ يقول لأحد التلاميذ " عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"،. لشد ما فطنت لهذه القولة التي اقشعر لها جسمي بأكمله واعترتني نوبة من السخونة، لم أعرف هل هذه قولة أحد الكتاب ام آية قرآنية؟... وبعد مرور الأشهر والسنوات، وجدت نفسي النابغة الوحيد في ذلك المكان، أتصدق يا صاح!؟، أني بقدر لهفتي على التعلم وحب الدراسة، نلت البكالوريا في سن الثانية والعشرون بعد جهد جهيد، و محاولاتي الفاشلة، بالأحرى غدا التعب وحشاً لزجاً يعتصرني، و يفتكني فتكاً، بلغت إلى مرحلة خطيرة من النصب والكلل، بالكاد أسقط أرضاً أبد الدهر، ما كان يقويني ويجبّرني هو الله، ومعتصماه بحبل الله، أتتصور أن الأدب صار حياتي الثانية، ترى أن الله يقفل عليك باباً ليفتح لك أبواباً، تذكرت تلك القولة التي صدرت من الأستاذ وعلمت أنها آية قرآنية، لأَنِّي غدوت حافظاً للقرآن على سن الخامسة والعشرون ربيعاً.

     أنا اليتيم الذي كان من قبل يترجرج ويضطرب، ويتخبط في المعاصي و الذنوب.
   
     إن في رحم المعاناة، يكمن الصبر والأناة، و في وطأة المقاساة، يختبر المرء هل هو جدير بالأمر؟. كل شيء سيسهل عليك عندما تشمر على ذراعك وتكن على علاقة وطيدة وصلة وثيقة بربك، لا شيء مستحيل؛ عندما تتحدى هذا المستحيل، وتعمل بإخلاص وتفاني و جد، لا شيء صعب؛ عندما ستبارز تحديات الحياة، برزاياها و أفراحها وأحزانها ومسراتها، ستفلح في الأخير لأن قد أتتك ضراء صبرت فيها، وجاءتك سراء اغتبطت وشكرت فيها، لأن كان إيمانك ثابتاً وجازماً إلى حد اليقين، لأنك علمت أن الله لا يضيع أجر منِ اتق و عمل صالحا و كان صابرا محتسباً مقتدراً على قدر الله.

     

                                          اليتيمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن