خرجت من السجن، و انجلت شمس الحرية من جديد، انسابت إلى جسدي و أضاءت عليه، وأزالت تلك الندوب و تغلغلت فيه كيفما أرادت، و الحرية طفلة صغيرة، عنفوان ببراءتها التي لاأزال لم أنجبها بعد، عانقتها بحميمية، و قبلتها قبلة مريمية، وعدتها وعداً يقينياً أني لن أتركها تارة أخرى، و لن أسمح لأحد أن ينهبها أو يسلبها مني.
هذا هو جزء من قصتي المظلمة و المنيرة، لا يزال الطريق طويلا وطويلا جدا، غامرٌ بالمنعرجات الحادة، والسياجات المنحرفة ، معبد بالشعاب، لا يزال يحمل في قرارته العديد من الخبايا.
أنا اليتيم الذي ظل يتجرع سُمّ الألم رشفة رشفة، ومرارة الشقاء قطرة قطرة، بعد هذه المعاناة التي مررت بها، و التي كنت أقبع بحضنها، وهذه المقاسات التي احتملتها، سأبدأ جزءاً جديداً من رواية الحياة ، لذلك استعد يا أخي في الله، لسبر أغوار هذه الرواية.
ترى أن بعد تجربة الثلاثين ربيعاً في الصبر و التجلد حتى وهن عظمي، ثلاثين سنة من الحيلة و الاترجراج والاضطراب إلى أن وجل بدني وأدبر، لكن جنان الأسد لدي كبس على جماح هذا الوجل والوهن، ذلك العناد الذي آخذه خَلِيلا لي، تلك العزيمة التي تقهر الأسود بصلابتها، وإن لإصراري طُوراً عظيماً يظل مبجلا في الأعالي والهمم، و إرادتي طائر عقاب بأجنحته المهولة.خرجت من السجن بآمال واثقة، ومتمنيات حالمة، وطموحات ضخمة، بعد شهر من خروجي ، أنهيت كتابي الذي كنت أدونه على مر خمس سنوات في السجن، ها قد جاء وقت طبعه ونشره، عن قصتي البئيسة و المحزنة، عن صباي الذي لم أنعم برضا الوالدين، عن السجن الذي دخلته حيفاً، عن حياتي في جانبها المنير، في حلتها الجديدة، بتعلم القراءة والكتابة، وتعلم العلم النافع، ألا وهو حفظ القرآن الكريم في مدة ستة أعوام بمعانيه وتفاسيره، و الحذو على سنة رسولنا الصادق الأمين، عن حياتي الثانية، إنها الأدب، بولعي الكبير بالشعر العربي القديم، ولهفتي بقراءة الروايات والقصص... نعم، لقد ناضلت من أجل هذا و كافحت، كنت على أهبة من التحضير. علني أعوض سنوات من الضياع في البؤس، أعوام اصطبغت بالكدر لوناً، و بالكمد ندبةً، علّيّ أجرد ذهني من ذكرياتي التي عصفت بعقلي و بالكاد يصبح مختلاً، و تعويض بالضلالة التي كنت أتفيأ ظلالها العبادة التي تنعمني خير راحتها.
أردت طبع روايتي ونشرها، لكني فقير معدم، رجل لا يملك حتى قوت يومه ومسكنه، خالي الوفاض من كل زاد، وكيف لي أن أطبع هذه الرواية وهي تتكون من ستمائة صفحة، إن بكالوريتي لا تنفع لأَنِّي دخلت السجن، لكن مادمت أنعم بصحة كافية، وبنية قوية صلدة، ترى إن لم أعين نفسي من سيعينني؟، ترى إن لم أشق طريقاً لمستقبلي من سيشقه غيري؟، فاتخذت قراراً بالإشتغال في أي شيء كان، الحمدلله، لست وحدي في هذا الكون الشاسع، فالله لا يترك عباده لوحدهم، اشتغلت عاملاً في البناء، و صرت أكتب بعض المقالات و القصص الأدبية، و أبيعهم لإحدى الصحف التي تهتم بالشأن الأدبي و أتقاضى أجراً عليهم، كنت أستيقظ في كل صباح لأذهب إلى عملي، بفرحة تتطاير من عيني، وسعادة في الروح تغمرني، أجلب لنفسي قوت يومي. وقد اكتريت منزلاً، يتكون من دورة المياه ومطبخ وبيت شاسع وحيد.
انقضت علي سنة كاملة وأنا أشتغل في البناء و كتابة المقالات و القصص، وقد أضفت إلى روايتي بعض الأحداث، جمعت قدراً كافياً من المال وذهبت به إلى المطبعة. وقفت أمام بناية دور النشر الضخمة، طويلة القامة و متوارية بالزجاج من كل ناحية، كطفل صغير يفرح بعد إرضاعه من طرف أمه، كذاك الفتى الذي نجب في دراسته و عاد فوجد أبواه ينتظراه، أشعر أني في حلم لا في هذه اليقظة، أحقاً يتفتح لي باب الفرج من جديد؟، أحقاً يمكن لهذه الرواية أن تطبع وتنشر؟، أيحقق حلمي بعد طول سنين؟ . انسبت إلى المطبعة، في ارتجاف، وجداني يتطاير كرفات العاصفة، صفحات الذكريات تقلب في ذاكرتي المختلطة بالفرحة العارمة الظاهرة على محياي. فغدا كل شيء على ما يرام، لكني فرحت كثيراً قبل أن أرى أولا هل ستطبع؟، أعلم هل ستنشر؟. إن خيبة الأمل تحدوني و تفتكني، ها قد أقفل باب جديد في وجهي تارة أخرى، بعدما اعتبرت نفسي أن لتلك الأحزان والأشجان، تلك المصاعب، والنكسات، تلك العثرات المتتالية والنكبات، قد حل الصباح من بعد الليل، وأشرقت صهبة الشمس، لا لا لا لا، لم يكن ذلك سوى توهمات، و مجرد تخيلات، سوى ضرب من العبط، ظننت نفسي يمكنني أن أنعم بحياة هادئة، اعتقدت أن السعادة أخيراً فتحت لي أحضانها للعيش في كنفها، بعد أن دخلت تحت سطوة الحماس المنقطع النظير، و طَي سجل أسود من حياتي، ظننت أنني قد أنعم بحياة كريمة هادئة بعيدة عن كل شائبة، حسبت أن للشقاء نهاية وللمسرات بداية، ذلك لم يتحقق قط...تفاجأت بأن نقودي لا تكفي لنشر الرواية، وأن الناشر لا يمكنه أن يضحي بماله على شيء لا يرجى حصول فائدة منه، وعدة مبررات لا طائل منها، كبحت جماح نفسي، بالكاد أخرج عن طوري، و شدِّيت رباطة جأشي وخرجت مطأطأ الرأس، منحدر الكاهل، واليأس يفتك باطني فتكاً، والإحباط قد أنشب عليّ سدوله القاتم، ليدخلني في دوامة من الإغواء، غدا قلبي ينتحب بعويل. لماذا أناس هذا العالم يعاملونني هكذا؟، لمٓ يجعلون من العلاقات الإنسانية المال أسمى درجة؟، و يعاملون الشخص على حسب نقوده و نفوذه، و ينسون المحبة و الصداقة لله، لماذا أصبح المال هو الكفيل لمحبة الشخص و طبيعة العلاقة؟، لقد تحطم عقلي، وأفكاري تناثرت في الأفق إلى أشلاء، انسابت بروية أفكاراً خبيثة، أعادتني إلى العدواني التي كنت أعشش فيه في صغري، كأنها تقول لي" أناس هذا العالم لا يستحقون إلا العدوانية، و الشدة في التعامل معهم". استعذت بالله و قمت من مكاني قبل أن أرتكب شيئاً لن يحمد عقباه.
تُرى هل أستسلم بعد كل هذه الصعاب التي مررت بها؟، بعد هذه المحاولات المستميتة، والمجهودات الجبروتية، أستسلم بهذه البساطة، لا لا لا، صبرت، وتجلدت، وعلى الله توكلت، وفي هذا الطريق واصلت، بل تيقنت أشد اليقين، أن كل هاته المطبات و المشاكل التي جرت لي، كانت بمثابة خيرٍ لي، و علمت أن الله أرحم عليّ من نفسي، فاختار لي ما رَآه خيراً لي فرضيت به، إلى أن أحدث الله أمره علي.
أنت تقرأ
اليتيم
Historical Fictionإلى الذي ضيّع السبيل و أخذ لنفسه المشاكل الاجتماعية عذراً. إلى الذي استسلم و وقف في نصف الطريق و لم يقوٓ على المواصلة. إلى الذي اعتصر الألم قوته، و أنزفت المعاناة دم جسده. إلى الذي نصّب من نفسه و وهب حياته فداءً لتحقيق حلمه. إلى...