الفصل السادس؛ بلوغ المسعى.

20 3 0
                                    

     وها أنذا أمامك، لم يتبقٓ لي في هذه الدنيا إلا أياماً معدودات، بعدما بلغ بي الدهر إلى الخامسة والثمانون حولا. أجلس إلى جانب أحفادي الأربعة وأقضي نحبي، بعد أن صرت هرم الأسنان، غائر العينين و المقلتين، كهل السن، متغضن الجبين، أجعد الوجنتين، يتأجج رأسي بالشيب، أحدب الظهر، أتكئ على عكاز، لن أقول لك كما قال شاعر الحوليات*:
(سئمت تكاليف الحياة ومن يعش--ثمانين حولا أبا لك إلا أن يسأم). بل حمدت الله على أن وصلت إلى هذا العمر ورأيت أحفادي يلعبون ويرتعون. يا صاحبي فلتعلم، لم يكن همي جني المال في هذه الدنيا، بقدر ما شغلتني المساهمة في نهضة أمتنا، وتنشئة شباب صالح على منهاج رسولهم الصادق الأمين، لرقي و ازدهار هذا المجتمع والأمة، لقد رأيت معي أن المشاكل الاجتماعية أعذاراً واهيةً لعدم الوصول إلى الطموحات، و مببررات كاذبة، وضرب من البلاهة لعدم الوصول إلى الأهداف. بعد حياة الذل والهوان، الخزي والعار، والاستكانة لحياة الانحراف و الأوزاز، و الإذعان للاترجراج والاضطراب، تلك الحياة البئيسة والمذلة، في مخالب الشارع، الكئيبة والحقيرة في مملكة السواد، التي لم ننعم بالسعادة ولا بدفء الوالدين، لقد فقدت حنان الأم، لأنها مأوى الراحة و السكينة، بيت الهدون والطمأنينة، افتقدت للعب مع الأب ، كل هذه المصاعب والعثرات، تجعل منك تقف على رجليك من جديد، لكن الناس لن يتركوك وشأنك، يأبوا إلا أن يجعلوك تسقط و تنهزم. في قرارة هذه المشاكل الجارفة، والصعاب الجامحة، ينجلي نبراس الرحمة من لدن الله، في جوف هذه القسوة، وفي جنان المعاناة، ينكشف سراج الأمل من جديد، و على الرغم من شدة الشمس المحرقة، تظل متوهجة مضيئة على الناس، ترى أن مشقة السنين التي عشت في حضانها، لم تذهب سدى، لم تمشِ مهب الريح، و لم تبرح هباءً منثوراً، لأن رغم هذه الغصص والآلام والجروح التي لم تندمل بسهولة والندوب، هناك صبر، من ورائه فرج، بعد كل محنة تمر بها هناك منحة، يجازي بها الله عباده، و قد ترددت على مسامعي كثير المرات، من لا يخطئ لا يصيب، حقاً إن بعد الخطأ المحمل بالتجارب يوجد تعلم، رغم الشدة التي قضيناه على طوال حياتنا، لقينا قدرنا مع الرخاء، فبعد مرّ الخسارة، يأتي الفلاح محملا بطبق من السعادة، أتعرف!!؟، لن توفق يا صاح في حياتك، لن تفلح في مسارك، لن تنجح في الحصول على أهدافك، لن تحصل على شيء البتة، في حين أن كل شيء سيسهل عليك، كل شيء سيغدو ملكك بعدما ترغب فيه، ستعيش حياة رغيدة، كريمة هانئة، مطمئنة...بعدما تجعل الصلاة قرة عين، بعدما تطيع الله عن إخلاص و ولاء، دون مين أو رياء، بلا تباهي أو مراءاة... لا شيء مستحيل في هذا العالم، مهما عظم شأنه، في وجود ربٍ يقول للشيء كن فيكون.
___________________
شاعر الحوليات: سمي الشاعر الجاهلي "زهير ابن أبي سلمى" بهذا الإسم لأنه كان ينظم قصيدته الشعرية سنة كاملة.

                                          اليتيمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن