الفصل الخامس: قف على ناصية الحلم وقاتل(محمود درويش)

50 5 0
                                    

     لا تيأسنّ إن التفت بك الأفعى حول عنقك، لا تحبط إن طوقتك أجنحة العُقاب، لا تخشٓ مواجهة الأسد في العرين، و لا تخاف من مسيرك في مملكة السواد عند الغاب. إنما قاتل من أجل حلمك حتى يقف حبل الوريد عن الارتعاش، إلى أن يحبس تذبذب نبضات قلبك، كافح حتى يدبر جسدك، إلى أن يختل عقلك، ناضل حتى تتهاوى قوتك، نازل الناس فداءً لحلمك، واجه كل من يقف سياجاً أمام سبيلك.

      طريق الحلم ليس سهلا، و ليس بالأمر الهيّن، محفوفاً بأشد المخاطر، و ليس مفترشاً بالزهور و الورود، ستجد الأشواك و  العثرات. في طريق الحلم؛ ستضيع السبيل مراتاً، و ستنحرف عن الطريق لماماً، ستهزم، و ستحبط، و ستفقد أملك، ستنعدم إرادتك، سيغمرك إحساس بالإستسلام، ستصل إلى مرحلة فيها ستكره كل شيء، و تتلذذ بالألم و تتعذب، و ستخوض حرباً شنيعة مع نفسك، أكبر عدوٍ لنجاحك. في خضم هاته الحواجز و الشوائب، سيكبر جنان الأسد خاصتك، بصيحة تدوي الأرجاء، ستزأر، في يوم ستنقلب المعاناة إلى راحة، أيام العجاف إلى غيث، في يوم من الدهر سيحلق طائرك في الأفق و  سيصدح بأجمل الأهازيج، فيه ستغرب شمس المعاناة و القسوة، قائلة: الوداع الوداع لن أعود. و سترحل الآلام إلى سبيلها، و ينقضي زمن الأيام الطوال و الليالي المؤرقة التي لم تنامها، ستشرق شمس الحلم الأعظم، ملوحة بشالاتها في الآفاق.
   
    بعد سبعة وثلاثين حولاً من الاختبارات قضيت، والامتحانات والتجارب اختبرت، والمصاعب تحديت، جاء يوم غير لي حياتي، وَعَبّد لي الطريق إلى دور النشر، ظللت محتسباً على قدر الله، لأَنِّي علمت علم اليقين،  أن الله لا يضيع أجر عباده المتقين، كل الابتلاءات التي مررت بها و صبرت عليها، كانت خيرا وفيراً لي، ما كان يوسفٓ عليه السلام أن يكون عزيزا على مصر لولا أن الله ابتلاه و اختبر صبره، و الله يا صاحبي لا تحزن، لا تحزن على فقدان شيء، ثقتك بالله وتفاؤلك و إيمانك به سيقودك لا محالة إلى النجاح، لا داعي أن تطيل تفكيرك فيما سيحدث، فالقلب العارف بالله و المتيقن في نصره لا يخاف، رزقك يا صاح في مأمن، خذ الأسباب و اسعى في الأرض فلا تخشٓ شيئاً أرجوك.
    
    مادام الله معي، لم أعد أستغرب إن وقع لي شيئاً، عند اختلافي إلى مقر إحدى الجرائد الأدبية التي كنت أذهب إليها لبيع المقالات و القصص الأدبية، كي أوفر قوت يومي، كنت أسلمها لأحدى الفتياة، كان اسمها (فاطمة) هي التي تستلم مني و تعطيني أجر ذلك ، فتنشرهن في الجريدة الورقية و المجلة الإلكترونية باسمي. سبحان الله، جمال الروح و صفاء القلب يلبسان رداء الجمال للوجه. فبعدت أن نالت قصصي و مقالاتي عدداً كبيراً من القرّاء و أصبحوا يطالبون أكثر بذلك، فقمت بإمضاء صفقة عمل معهم لمدة عام، فسألتني تلك الفتاة في ذات نهار ببراءة :
    -" تُرى يا (كريم) ما سبب إقبال القرّاء على قصصك و مقالاتك".
     ابتسمت بصدق و قلت:
     -" ببساطة؛ نابعة عن صدق مشاعر".
     فأخبرتها عن قصتي بعد أن صرنا أصدقاء عمل. و قد كبر الطفل الصغير الذي يقبع في باطني و صار يحب، أصبح يعشق بهيام، و يهوى بشغف، ذاك الطفل الذي ولد من جديد، قد وجد توأم روحه، لقى صديق الحياة، و مع من سيكمل حياته، أنا ذلك الشخص منعدم العاطفة، أفتقد لعاطفة الحب، الذي لم ألمسه في أي شخص، سوى الله ورسوله، ذلك الإنسان، الذي قلبه بالكاد يكون حجراً، لكني قد وقعت في حبها حباً جماً و هيامياً، غدوت ولهاناً في عشقها، علّيّ أعوض ذلك الفراغ الذي  بداخلي ويسري في عروقي، ذلك النضوب المهول في روحي، و  الركود الفظيع في نفسي.  كانت فتاة طاهرة عفيفة، على منهج ربها، وهدى رسولها، أخلاقها تاج فوق رأسها، و حققت الحلم لأنها قارئة و تلتهم الكتب بشراهة، جمعتنا أقدار الله، الذي وهبها لي في غمرة من سبيلي، لم أعتقد أن يوماً سأصير أحب إلى هاته الدرجة، إنه العشق، الولع، الوصال، و الصبابة.

    ما كان مستعصياً عليّ  قد انحل وانفرج، طلبت يدها للزواج، لم تهتم بحالتي المادية، لم تبالي بسجلي في السجن، بل قبلت برحب صدر،كنت لها الصديق قبل الزوج، احترمتها أيّما الاحترام قبل الحب، كانت الزوجة الصالحة لي و قارئتي، عضدي و مسندي من بعد الله. و لقد ساعدتني، لأنها أبت إلا أن تنشر روايتي، ذهبنا سوياً بعد زواجنا إلى إحدى دور النشر غير تلك التي ذهبت إليها، كانت على علاقة صداقة طيبة مع مديرة دار النشر. فعلى الرغم من الثمن الباهض الذي طلب منا لنشر الرواية، و الذي و صَل إلى عشرون ألف درهم، فقد دفعت زوجتي ثمن ذلك ... أتدري حقاً يا صاح ما الذي حصل؟!، أتصدق ؟!، أن رواية اليتيم حصلت  على أكثر المبيعات في الأسواق خلال شهر واحد، وأخذت على إثرها إحدى الجوائز لأحسن رواية في السنة، لقد تفتحت لي الأبواب من جديد، وعشت السعادة تحت عبادة ربي وإذعاني له.

    لا تعتقد أني بعد أن وصلت إلى هذا الحد، أن تنتهي رواية الحياة خاصتي، لا تظنّ أني بعدما صرت أعشق الأدب أتوقف هنا و أنا لا أزال في ربيع العمر، لأن ما جاء من بعد، كان كله مسرات، لأَنِّي قد واصلت طريقي الأدبي، وكتبت الجزء الثاني لليتيم و عدة أعمال أخرى، حصلت كلها على الثناء و النجاح، ونلت أكبر الجوائز التي لا تعد و لا تحصى، لقد فتحت لي الحياة أحضانها من جديد وعانقتني بوطأة الحب، ذلك الحب، الذي لم أعشه في صباي، ولم أشعر بعاطفته البتة،  وبفضل الله وزوجتي، غدوت في هذا المكان.  قد انجلى نبراسٌ آخرٌ في حياتي،  رزقت ببنت و  ولد، لكم جاهدت نفسي على أن لا أفارقهم، ولا أشعرهم بأي نقص الأبوية، أن أكون لهم الصديق، لشد ما حرصت على تنشئتهم تربية دينية وأدبية خالصة، يالله يا مالك كل شيء لك الحمد والشكر كله. إن ابنتي (خديجة)، صارت أديبة الأدباء، وشاعرة الشعراء، لا تنطق عن الهوى، يضرب المثل بأدبها وشعرها الهادف، كانت كتاباتها في سبيل النفع، لنصرة أمتها، وابني (محمداً) الذي غدا شيخاً علامةً كبيراً في الإسلام، له مكانة عظيمة وجليلة، كرّس من حياته و كتاباته للدعوة إلى الله و توعية الناس، و فرد نافع للمجتمع. قد أنعم الله عليهما حفظ القرآن في سنتيهما السابعة.

                                          اليتيمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن