11 / الآن أو أبداً

7.6K 102 4
                                    



و بعد نصف ساعة خطر لجايك أن أتخاذ القرار بمجارة مرسيدس و التصرف على طريقتها طريقة أسرة ألكولار , شئ , و إجبار نفسه على الالتزام فعلياً بهذا القرار شئ آخر. ففى الواقع عاد إلى الغرفة ليجد مرسيدس غارقة فى الأريكة وقد بدت مختلفة تماماً حى خيل له للوهلة الأولى أنها شخص آخر.
كان شعرها الأسود اللامع ينسدل على كتفيها و وجهها البيضاوى الشكل مصطبغاً بلون زهرى طبيعى فبدت وكأنها طفل صغير يداعب النعاس جفنيه. جلست متقوقعة على نفسها فى الأريكة الكبيرة ويداها معقودتان حول ركبتيها ما زاد انطباعه بأنها فتاة صغيرة ضائعة .
لكن عندما نظر إلى وجهها و رأى النظرة العاصفة و المتمردة فى عينيه و ملامحها العنيدة و المتعجرفة و ذقنها المرفوعة بتحدٍ و فمها غير الباسم , رأى مرسيدس الأخرى....تلك القادرة على رمقه بنظرة تحيل الرجال الأقل صلابة منه إلى كومة رماد عند قدميها و تخضعهم برمشة عين.
أما اليوم فثمة شئ مختلف حتى فى ذاك التعبير....ذاك الذى أطلق عليه أسم نظرة ألكولار . فالتحدى اليوم يتضمن لمسة من التظاهر بالشجاعة لم يلاحظها من قبل . فالذقن الناعمة عالية بعض الشئ و الفم المطبق تحول إلى خط من العصبية بدلاً من أن يعكس الكبرياء ما جعلها تبدو كمن يخوض حرباً ضد نفسه....و يصر على عدم إظهار القلق و الاضطراب اللذين يشعر بهما.
وبعد ان لاحظ ذلك و بعد أن اكتشف مدى براءتها كبح الملاحظة اللاذعة التى كادت تفلت منه و بدلاً من ذلك أستخدم نبرة طبيعية إلى حد ما وهو يقول :"اقد بدلت ملابسى . فهل أنتِ راضية؟"
لم تجبه على الفور بل تأملت بنطلون جينز الذى ارتداه و القميص الأبيض النظيف الذى وضعه فوقه.
ــ هل أنتِ جاهزة للتحدث الآن؟
وأردف بعد أن لاحظ أنها أجفلت لحدة لهجته:"هل تجديننى محترماً بما يكفى لمناقشة الأمور؟"
ــ نعم, لا بأس .
عادت اللهجة الرسمية الجاتفة وكأنها تسعى لوضع بعض المسافة بينهما.
ــ هل أنت واثقة؟ ام أن علىّ أن أغطى ما ظهر من جسمى....قدماى ربما؟ هل على أن ألبس جواربى أيضاً؟
ــ لا تكن سخيفاً ! ما من داعٍ لذلك!
ــ لا؟ ألا تخشين أن تشعرى بالإغراء؟
ــ هذا ليس ما خطر فى بالى!
النظرة الفارغة المذهولة التى رمقته بها كانت أبلغ من الكلمات
ــ أحقاً؟
ــ بالطبع لا! أردت....أردت التحدث إليك وحسب
أنهت كلماتها على نحو مفاجئ ثم عدلت جلستها فى الأريكة لتبدو واثقة من نفسها قبل أن تردف :"فلنتحدث الآن . دعنا نقول ما لدينا "
بعدئذٍ يمكننى أن أعود إلى منزلى.
لم تقل هذه الجملة الأخيرة . لم تكن مضطرة لذلك فقد قرأها فى وجهها . لكنها رأت مثله تماماً أن التعقل أفضل جزء من الشجاعة فصممت على الالتزام بالمواضيع الأقل إثارة للنزاع و الأبتعاد عن تلك التى قد تسبب المشاكل .
ــ الأمر يتعلق أكثر بما أردتِ أنتِ قوله....
وشرح لها عندما ظهر الأرتباك عليها:"جئت إلى هنا لمناقشة تسوية ما. هذا على الأقل السبب الذى عللت به زيارتك"
ردت مرسيدس بحدة:"حسناً لم آتِ إلى الشقة لأرتمى فى أحضانك و حسب! ما من شئ كان أبعد عن ذهنى من هذا !"
كيف أمكنه أن يفعل هذا؟ طرحت هذا على نفسها فيما أكتفى هو بالنظر إليها من دون أن ينطق بكلمة واحدة . كيف أمكنه أن يعكس الشك و الارتياب و عدم التصديق الصريح فى نظرة واحدة من تنيك العينين الباردتين و المثيرتين للاضطراب بحيث أحست و كأنها أصغر من حشرة ترتجف على الأرض....وغير مهمة بقدرها بحيث أن من السهل سحقها تحت الأقدام.
همس:"حسناً إذا شئت ذلك"
وكانت هذه هى القشة التى قصمت ظهر البعير . فمنذ أن وصلت إلى الشقة لم يسر أى من الأمور كما خططت له. وكيفما دارت تجد هذا الرجل فى المرصاد ينتظرها على أقل ىغلطة يعيق طريقها و يطيح بكل خطة تضعها ويأخذ كل تصرف تقدم عليه فيحرف دوافعها بطريقة مخيفة .
منذ التقت جايك تافرنر فى تلك الحفلة اللعينة فى لندن لم تعد حياتها وهى تريد استعادتها بشكل يائس.
صرخت به:"لقد أكتفيت ! طفح بى الكيل! لست مضطرة للبقاء هنا و الأستماع إلى هذا....سأعود إلى منزلى!"
و هبت واقفة على قدميها و اتجهت إلى الباب حتى تناهى إليها صوته بارداً و جافاً ما جعلها تقف بشكل مفاجئ و حاد.
ــ أتهربين مجدداً يا لآنسة ألكولار؟
طرح جايك سؤاله هذا بهدوء إنما بنبرة لا تخلو من النهكم الذى لسعها كسوط قاسٍ
وأردف يقول:"متى ستبقين و تواجهى...؟"
ــ لست هاربة!
واستدارت مرسيدس لتواجهه و حدقت بغضب إلى وجهه الهادئ و الساكن بشكل يثير الأعصاب . فوق خط فمه العنيد بدت العينان الزرقاوان حذرتين و يقظتين تسجلان كل أنفعال يرتسم على وجهها وكل تغير بسيط فى تعابيرها بحيث شعرت و كأن الحشرة التى حولها إليها تتعرض الآن للتشريح و الدراسة تحت المجهر بشكل مجرد تحليلى.
كررت وهى تشدد على كل كلمة تلفظها :"أنا لا أهرب . وليس مجدداًبالتأكيد"
ــ لا؟ ماذا عن تلك الليلة فى لندن إذن؟فقد فررت بقدر ما أستطعت من السرعة من دون حتى ان تودعينى.
فجأة تغيرت تعابير وجهه بشكل محير . فأضحى لون عينيه داكناً و أرتخى خط فمه المستقيم ثم رأته يحرك جسده الطويل من حيث كان جالساً ليقف على قدميه.
ــ مرسيدس....كان عليك أن تعلمينى . إذا كان عدم خبرتك و خوفك على سمعتك و رد فعل أهلك ما أخافك....
ــ نعم طبعاً....كنت لتتوقف وتقول لا بأس يا عزيزتى يمكننى....
ــ ربما كنت لأفعل ذلك!
خرجت كلماته كزئير الأسد , زئير ذكر مسيطر تلقى ضربة فى مكان يؤلمه للغاية....فى كبريائه.
ــ كنت لأفعل ذلك حقاً....إذا ما أتحت لى الفرصة!
وراح يتقدم منها و الغضب مرتسم على وجهه غضب رسم خطوطاً بيضاء حول أنفه وفمه و جعل حنكه صلباً كالصخر.
ــ وهل تركت لى أى فرصة يا آنسة ألكولار؟حسناً, هل فلعت؟
ــ لــ لا.
أجبرت مرسيدس نفسها على التماسك و الجمود فى مكانها رغم رغبتها اليائسة فى التراجع إلى الخلف بضع خطوات و الابتعاد قدر الإمكان
ــ لا.
وأحست بالارتياح حين توقف عند هذه الكلمة . توقف على بعد أمتار منها وراح يحدق إلى وجهها .
و عاد يقول:"لا, حتى أنك لم تبقى لترى ما سأقوله....أو حتى لتسمعى ما لدى لأقوله . هربت قبل أن أدرك ذلك"
ــ وهذا أفضل . أليس كذلك؟
كرهت قدرته على جعلها تشعر بالذنب فى حين أنها هى التى تعرضت للخداع و هى التى أُستغلت فى هذه المسألة.
ــ هذا أفضل....؟
جمد جايك تماماً و عبس وهو يفكر فى هذا الأتهام الأخير. اللون الداكن فى عينيه أقلقها وأزعجها . بدا جلياً أنه لا يعرف عما تتحدث.
سألها :"وما معنى كلامك هذا؟"
ــ كان من غير المناسب أن أبقى لتجدنى صديقتك فى المنزل عند عودتها!
آهـ , تباً , تباً , تباً , تباً .
لقد أقسمت ألا تأتى على ذكر هذا الأمر أبداً. كانت تفضل الموت على أن يعلم أنها أدركت كم أستغلها بحقارة و أذلها تلك الليلة . لم تشأ أن يعرف لأن هذا يعنى أنه سيعلم أنها زحفت عائدة.....و أنها لم تكن قادرة فعلاً على الرحيل والأبتعاد حتى أدركت أنه غرر بها ما حطمها نهائياً.
و هكذا كانت مجرد حطام عندما وصلت إلى الشقة بحيث أن أنطونيا أستلمت بكل بساطة زمام الأمور. فأجابت على الأتصال الذى تجرأ جايك على إجراءه بكل وقاحة مدعياً أنه قلق عليها . كما أن أنطونيا تعاملت معه و أبعدته عن شقتها عندما حضر فى اليوم التالى متحججاً بسبب تافه.
كانت مرسيدس مستاءة إلى درجة جعلتها لا ترغب حتى فى مواجهته .
ــ صديقتى....أتعنين كارين؟
ــ لا أعرف أسمها إنما أعرف شكلها....طويلة....
ــ شعر أشقر فاتح.....يكاد يكون أبيض .
تدخل جايك ليكمل الوصف بسرعة وسهولة جعلتها تشعر بالغثيان .
حتى الآن و بغبائها و سخافتها و سذاجتها سمحت لنفسها بالتمسك بأمل صغير و خفى بأن كاريت تلك ربما , وربما وحسب ليست صديقته كما ظنت. و أنها لم تاتِ إلى الشقة من أجل جايك بل من.....
من أجل ماذا؟ لم تكن تعلم كما لم تكن تأبه. لقد أملت وحسب.....
و خاب أملها بشكل فظيع.
ــ شعر قصير جداً....جداً وهى نحيفة جداً...
ــ وكانت تحمل مفاتيح باب بيتك الأمامى وقد أستخدمته و كأن البيت بيتها.
لم تشأ أن تتذكر لكنها لم تستطيع أن تمنع نفسها . وعادت بالذاكرة إلى لندن إلى ليلة مظلمة و رطبة حيث وقفت مرتجفة تراقب امرأة شقراء طويلة القامة و هى تصعد السلالم المؤدية إلى الباب و تدخل المفتاح فى القفل....و تسمعها تنادى....
قال جايك بنبرة حادة :"كانت تملك مفاتيح بيتى و قد ظننت أننى استعدته منها . لكنى لم أتوقع أن تحتفظ بنسخة عنه"
رمقته مرسيدس بنظرة قاسية و شاحبة يمكنه أن يجد حجة أفضل من هذه! حجة من شأنها أن تقنعها على الأقل . حجة يمكن....
آه, يا إلهى ! وأدركت فجأة المنحنى الذى اتخذته أفكارها .
حجة من شأنها أن تقنعها على الأقل . أملت فعلاً أن يتمكن من إقناعها بأن حضور كارين كان بريئاً تماماً . و أنه لم يكن يتوقع زيارتها.... وأنها لم تعنى له شيئاً
وهى مرسيدس بعماها و سذاجتها و ضعفها و غبائها أرادت أن تصدقه!

الإنتقام الأخير - روايات احلامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن