بارت 《2》

687 19 1
                                    

《2》
في الليلة الثانية ، قبل أن تغيب الشمس بقليل ، جئنا مع أهلنا مم البيت إلى الملجأ ، وقبل ان ندخل رحنا نلعب سويًّا على درجات السلم الصغير الذي يقودنا إلى داخل المكان . قفزتُ أنا من الدرجة الثانية  في ألهواء إلى الأرض ، صعدت هي و قفزتْ من الدرجة الثالثة في الهواء ألى الأرض قفزتُ  أنا من الدرجة الثالثة ، وقفت هي على حافة الدرجة الرابعة و ترددت ، غيرت رأيها ونزلت من على السلّم لأنها لا تستطيع القفز من مكان مرتفع . جاء الأولاد الذين كانوا يلعبون قريبًا من الباب ، صعدوا السلّم الواحد بعد الآ ورحوا يتقافزون وهم يضحكون .
في هذه الأثناء ، دوّت صفارة الإنذار التي لا أحب صوتها ، ولا يحب صوتها أحد من الناس  . امسكت بيدها وهربنا نحو المكان الذي تجلس فيه أمي و أمها ، تعثرت قدماها بالفانوس الكبير الذي يتوسط أرض الملجأ وانكسرت زجاجته ، سال آلنفط على البلاطات ، ومشت النار خطوات على الأرض الرطبة ، تجمدنا في مكاننا وسط الظلام  ، في حين كان وهج الضوء يحرك ظلالنا على الجدار الاسمنتي في الجهة  المقابلة .
بعد قليل ، سمعنا أصوت القصف الشديدة التي اعقبت صفارة الإنذار  ، انفجارات عنيفة تقترب منا شيئا فشيئا ثم تعود لتبتعد ، تقترب مرة اخرى وتبتعد تموجت الأرض بنا مثل بساط خفيف . في هذا الوقت ، انشغلت امهاتنا مع انفسهن بقراءة الأدعية وترتيل سور من القرآن وفكرت أنا أن اختفي من هذا والعالم ، نهضت أمشي في الظلام واقتربت من أمي :
_ماما ؟

_نعم حبيبتي .

_تعرفين ماذا أريد منك ؟

_ماذا تريدين؟

_أريد أن لا اكون موجودة في هذا العالم .

قبل أن أعود إلى مكاني  ، اشعل  احدهم سيجارته بعود ثقاب ، شاهدت ظلي يتحرك  على الجدار ثم راح يكبر ويتمدد على سقف الملجأ ويتلاشى ، بقيت واقفة في مكاني أفكر في ظلي ....ألى اين ذهب في هذا الوقت  ؟! اين تختفي ظلالنا من هذه الحياة ؟! هل أنا في الحقيقة ظل نفسي ؟
أن روحي تعيش فيه وهي تختفي معه لأنها لا تحب أن تكون موجودة في هذا العالم
كنت اتمنا يشعل أحدهم عود ثقاب آخر لكي يعود ظلي ظلي واتحدث اليه ، احببت أن أسأله  : كيف يستطيع أن يختفي من دون أن نراه ؟ لكنني تذكرت أن الظلال ليس لها صوت ، فعدت إلى مكاني  اقترب من نادية  ببطء ، لم اكن أراها بسبب شدة الظلام ، لكنني كنت اعرف أنها موجودة في مكانها
ذهبت الطائرات بعيدًا معها الخوف وجاء وقت النوم تمددت على بساطنا الصغير بخطوطه الملونة وحشرت هي نفسها إلى جانبي ونامت .
كانت الأرض باردة تنخر عظامنا  ، وضعت أمي فوق جسدينا غطاء ثقيلًا و دثرت اقدامنا جيدًا  وشعرت لحظتها بالدفء .
لم انم هذه الليلة أيضا كنت أراقب حلمها ، انها لعبة مسلية ان تراقب أحلام احدهم و هو غارق في النوم .
في الصباح حكيت لها عن الحلم فاستغربت مني وقالت :

_يا مكروهة ليش تبوكَين أحلامي ؟

_ لأن آني ما اعرف أحلم

حاولت  كثيرًا  في حياتي أن انسخ أحلامها الجميلة وألصقها في نومي ،  لكنني فشلت اكتفيت بمراقبة هذه الأحلام ، وعندما أجدها تحلم أحلامًا مزعجة  أنظف رأسها وأطرد الأشياء التي لا تحبها

في بطن  هذا الملجأ الذي يشبه حوتاً كونكريتيًّا كبيرًا تتحرك على جدرانه خيالاتنا ، في المكان الرطب  المحصن ضد الحرب  ، تعرفت إلى  نادية في كانون الثاني عام ١٩٩١ حين كانن سماء بغداد تحترق بالطائرات والصواريخ .
قضينا أكثر من عشرين ليلة في الملجأ ، عشنا خلالها الخوف والبرد ، والترقب ، واللهو ، واللعب ، والأحلام ، لم نكن نعرف وقتها ماذا كان يجري من حولنا ، لم نفهم ساعتها ماذا كانت تعني الحرب .

مرة ، وقبل أن نجلس على بساطنا جاء عمو شوكت يمشي نحونا و هو يبتسم  ، هو هكذا يبتسم كل الوقت ، قرص نادية من أذنها قرصة خفيفة ، تناول معصمها الأيسر وطبع عليه باسنانه ساعة صغيرة  ، ثم اخذ يدي اليسرى وفعل الشيء نفسه اقتربت منهُ زوجته باجي نادرة وهي تقول له :
_لاتفعل هذا .
قبلتنا باجي نادرة بحنان واعتذرت منا ، كنا نبتسم لها وفي الوقت نفسه ، ننظر إلى الساعة المطبوعة على الجلد وهي تختفي تدريجا . عاد عمو شوكت إلى مكانه وجلس مع مجموعة من الرجاا حول راديو صغير يبث  وشوشات بعيدة ، ذهبت زوجته وجلست بين امي و أم نادية .
بعد قليل ، اقتربت منهن نساء كثيرات و جلسن معهن يتحدثن عن الحرب . جاءت بنات صغيرات وجلسن معنا ، اتذكر  مروة وبيداء و وجدان ، وريتا ، و ملائكة  التي تسميها نادية الشيطانة من دون سبب اعرفه :
_آني مو شيطانة .
_لا انتِ شيطانة.
بكت ملائكة وراحت تجلس قريبآ امهت وهي تؤشر نحونا باصبعها و تقول لها كلمات لا نسمعها .

نهضنا انا  ونادية من مكاننا نتجول في زوايا الملجأ ، نعد الوجوه في ضوء الفوانيس ، كنا نريد ان نعرف  الناش الذين  نعيش بقربهم في محلة واحدة ، هذا ام ريتا  ، هذا ابو مناف ، وهذا مناف وهذه اخته منال ، وهذا اخوه الصغير غسان ينام في حضن امه . هذا ام مروة وهذا اخوها مروان هذه هند وذاك ابوها تلك امها ، هذا نزار وهذا ابوه وتلك امه .
هذه ميادة واهلها وهذه ام علي و وبناتها الكبيرات ، ام علي ليست لديها بنت صغيرة تجلس معنا  .
هؤلاء بيت ام سالي .هذه وجدان وهذه امها وأخواتها . هذا فاروق و امه وابوه . هذا ام ملائكة واسمها هيفاء وهذا هو ابوها اسمه اسامة وهذا هو جدها اما جدتها فهي نائمة كل الوقت وتغطي وجهها بعباءتها السوداء . هذا احمد وامه ، ابوه لم يأت معهما لانه شهيد .

ساعة بغداد/ Baghdad clock حيث تعيش القصص. اكتشف الآن