يكون الهواء في الربيع منعشا و يصبح النهار اطول قليلا ، نتخلص من الملابس الثقلية و نشعر اننا صرنا خفيفين . يخرج الاولاد بدراجاتهم الهوائية المنبهات الصغيرة المثبتة على مقود الدراجات .
تخرط الامهات و الآباء الى الحدائق و نخرج نحن نلعب على الرصيف .
يرش ابو بيداء حديقة البيت بالماء فينتشر عبق الروائح المنعشة في كل مكان ، ترش ام ريتا عتبة بابهم لتصعد رائحة الارض و تهب عليها نسائم اخر الربيع ، انا مثلكم احب رائحة التراب حين تنزل عليه قطرات الماء ، و انت مثلكم ايضا لا اعرف لماذا احبها .
من وراء الشبابيك تاتي رائحة الشواء ، او طهو البطاطا المقلية بالدهن من بيت ام سالي فنشعر بشيء من الجوع .
فجاة ، تنطلق الموسيقى من بيت ام مناف فنركض على ايقاعها و ننسى اننا شعرنا بالجوع ، ندخل في مهرجان الالوان التي ترتديها الفتيات و هن يرقصن في حفلة عقد قران منال ، توزع امها حلوى العطور في كل مكان :
عيني يا عيني عليها ، يا منولة
تبچي والحنة بديها ، يا منولة .
اقف بعيدا من البنات الصغيرات ، ادس رأسي الصغير بين أجساد النساء الكبيرات لاراقب نادية و هي ترقص في وسط الحديقة قريبا من منال . الجميع يحب نادية حين ترقص و يصفقون لها ، تسحبها منال الى حضنها و تقبلها ، انا احسدها من كل قلبي و اقول لنفسي : كيف تعلمت الرقص مثل الكبيرات ؟ لماذا لا تخجل منهن كما لو انها ترقص لنفسها ؟
يتعالى تصفيق البنات لها و يرتفع صوت الاغاني كثيرا . يتسلق الاولاد سياج البيت ينظرون الى نادية من دون ان تدري بهم ، يطلق احدهم تعليق وقحا بصوت عال ، تتوقف عن الرقص و يهرب الولد بعيدا تتبعه شلة الأصدقاء ، نخرج انا و هي من الحديقة و قد احمر خداها من الخجل .
نسمع مرة أخرى صوت اغنية جديدة تنطلق من الحديقة ، نادية ترفض ان نعود اليهم ثانية ، تخرج ام منال الى باب البيت و تنادي عليها ، لكنها تركض نحو بيتهم و لم تخرج في ذلك المساء .
كما اخبرتكم ، انني ساقول لكم الحقيقة ، انا اغار من نادية قليلا ، و ربما كثيرا ، لان الناس يحبونها و يهتمون بها ، ونحن نحب ان يهتم الناس بنا ، و اذا لم يهتم بنا احد فإننا نكون غير موجودين .
احيانا ، عندما يتجاهلني الناس ابكي ، ادخل غرفتي و ابكي .ثم اخرج و اعمل اشياء غريبة لكي ينتبه الي الآخرون .
هل تعرفون ما هذه الاشياء الغريبة ؟
عندما أتذكرها ساقولها لكم لانني الأن نسيتها .في هذا الهواء المنعش ، الذي يهب على طفولتنا من الحدائق ، كنت اعيش ايامي في محلتنا الصغيرة ، في شوارعها و درابينها ، في حدائقها و ارصفتها .
رسمت على جدار بيت عمو شوكت قاربا صغيرا و نسيت ان ارسم له شراعا ، لم اكن قد رايت في حياتي بحرًا او محيطا و لم اصعد في حياتي قاربا ، رايت الغروب من فوق خزان مياه بيتنا كما اخبرتكم ، مثل محيط هائل يمتد بعيدا جدًّا حتى ابعد من بيت جدتي .
في التلفزيون شاهدت السندباد و رأيت السفينة تصارع الأمواج في البحار العميقة ، يضحك السندباد و تضحك ياسمينة من كل قلوبهما و هما سعيدان بوصولهما الى الميناء ._لقد وصلنا الى الجزيرة العائمة .
في اليوم التالي ، اخفيت في جيبي قطعة طباشير صغيرة ، ذهبت الى نادية و قلت لها : تعالي نرسم شراعا للقارب الصغير .
قالت نادية :
_انا ارسم الميناء و النوارس .
قلت لها :
_انا ارسم الشراع .وصلنا الى الجدار ، و قبل ان نخط عليه بالطباشير ، خرج إلينا عمو شوكت و امسك بنا و نحن نحاول ان نشخبط على حائط بيته النظيف ، قرص نادية من اذنها قرصة خفيفة و طبع اسنانه على معصمها ساعة عميقة تألمت منها قليلا ، اوشكت نادية على البكاء ، اختلط الألم مع الخجل فلمعت في عينيها دمعة صغيرة ، حزن هو لهذا الموقف الذي لم يكن يتوقعه .....
اخذنا من ايدينا و ادخلنا بيته يمسح دموعها ، تقدمت منه باجي نادرة تلومه و تبتسم في وجهينا و هي تعتذر . في كل مرة نشاهدهما معا ، هو يعض معاصمنا و هي تلومه وتعتذر .
انا لا أتذكر ، و حتى نادية لا تتذكر ، و اهلي لا يتذكرون ، و اهلها لا يتذكرون متى سكن عمو شوكت مع باچي نادرة هذا البيت .
البيوت التي تولد قبلنا و الاشجار التي تنمو قبل أن نرى العالم ، ليس لها تاريخ يتذكره الناس .لبيتهما سياچ واطئ تتسلق عليه أشجار الياس و تعلموه اغصان الشبوي لتحجب الحديقة الامامية عن التداخل مع الشارع .
ينفتح الباب الرئيسي على كراج سيارته الفولكس واغن الصفراء اللون . عند نهاية الكراج فسحة مبلطة بالموزاييك و مفتوحة على الممر الجانبي و على الحديقة في الوقت نفسه . لهذا البيت وحده رائحة ذكرى مختلفة ، فهو اول بيت ياتي في خيالي عندما احاول ان اتذكر المحلة .
أنت تقرأ
ساعة بغداد/ Baghdad clock
ChickLitفمثلاً ، يمكنك أن تقول :《إنها الساعة السابعة صباحاً بحسب توقيت بغداد المحلي》،في حين أن شخصا ما يقف من الجهة الثانية المقابلة يقول :《إنها الخامسة عصرآ بتوقيت بغداد المحلي 》. وفي الجهة الثالثة في إمكان شخص ما مرَّ مصادفة في هذا المدينة أن يقول 《الساع...