بارت 《3》

498 19 1
                                    

في خيالي ، أعدت الناس الذين شاهدتهم في الملجأ إلى بيوتهم في شارعنا ، رتبت تلك البيوت في خطوط مستقيمة ورسمت منها سفينة كبيرة تشبه المحلة التي ولدنا فيها ، ثم رسمت دخانا ابيضى يصعد ببطء نحو الغيوم.
صرت اعرف كل البيوت ، اعرف الاباء والامهات والأبناء والبنات ، صارت المحلة في رأسي عالما هندسيا من الخطوط ، والمربعات ، والمستطيلات . بمجرد أن يسالني احدهم عز اي بيت ، اقول له بسرعة وأنا أغمض عيني :
_إن هذا البيت ، هو رابع بيت من الجهة المقابلة.
لم تعد المحلة بعد هذا الوقت ، ذلك الشيء الذي كنت اتخيله فضاء واسعا بحدود لا نهائية ، صارت واضحة وصغيرة ، فنحن عندما نعرف الأشياء ، تقفد هذه الاشياء حجمها وتصير صغيرة . لكي اوضح لكم هذا الفكرة ، ساضرب لكم مثلا على ذلك : عندما تصبحون في المدرسة وتعرفون حجم المجرات فان الكرة الارضية تصبح في نظركم كرة صغيرة. حتى القمر ، حتى الشمس كلها تصبح في نظركم اشياء صغيرة ، أليس هذا صحيحا ؟ الاشياء الكبيرة هي الاشياء التي عندما لا نعرف حدودها ونتخيلها .

هل اصبحت فكرتي واضحة ؟ بعض الافكار تحتاج الى توضيح لاننا في البداية نفكر فيها لوحدنا . تولد الفكرة في اول الامر من خيالنا و عندما نريد ان نتحدث عنها للاخرين ، لا نعرف كيف نجعلهم يعرفونها تماما مثلما نعرفها نحن ، لذلك نحن نحتاج الى توضيحها ونستخدم لهذا الغرض امثله بسيطة . فمثلا ، هناك شخص يريد ان يصنع دراجة هوائية، لنفرض انه اول من صنع دراجة هوائية . في البداية ولدت هذه الفكرة في راسه ثم رسمها في خياله وقال في نفسه : اذا لم تتحرك هذه الدراجه ستسقط على الأرض . شرح هذه الفكرة لصديقه لكن صديقه لم يستوعبها و قال له : انا واقف لكنني لا اسقط ، لا احتاج يا صديقي ان اتحرك لكي لا اسقط فرد عليه صديقه الذي صنع الدراجة : هذا صحيح ، ولكن هل تستطيع ان تجعل العجلة واقفة من دون ان تسقط ؟ العجلة لا تسقط عندما تتحرك ، فرد عليه صديقه : الان فهمت فكرتك ، وهكذا نحن دائما نحتاج ان نوضح الافكار للاخرين .
عندما انتهت الحرب ، لم نعد نذهب الى الملجا في كل مساء صرت اقضي بعض الوقت في بيت نادية ، او تاتي هي الى بيتنا لنلعب سويا . مرات نخرج للشارع لوحدنا لكننا لا نذهب بعيدا . نعد البيوت بيتًا بيتًا ونشخبط على جدرانها بالطباشير ، نرسم وجوها بيضوية كبيرة و نرسم معها اطرافا صغيرة وأصابع ملونة . رسمنا عمو شوكت يجلس على الأريكة و هو يلبس نظارته و الى جانبه تجلس باجي نادرة وهي تضحك ، رسمنا فوق راسهم عصفورا صغيرا من دون قفص ، رسمنا ام ريتا وهي تربط ساعدها المكسورة الى عنقها ، رسمنا قطة بيت ام مناف وهي تنظر الينا ، رسمنا ابا احمد يطير بين الغيوم على الرغم من اننا لم نره من قبل .

في يوم من الأيام ، كان ذلك على الاغلب يوم الجمعة من شهر نيسان ، ذهبت مع اهلي الى حديقة الزوراء ، كان معنا اهل نادية وبيداء و امها ، و لا اتذكر ما اذا كان ابوها معنا .
جلسنا على العشب نتناول طعامنا الذي جلبناه من البيت . بعد قليل تركنا اهلنا يجلسون وركضنا نحن الثلاثة بين الاشجار نصطاد الدعاسيق ، و عندما اصبحنا قريبين من حديقة الحيونات رمينا بعض الطعام الى الزرافات الجائعة التي تعيش في اقفاص كبيرة .

ساعة بغداد/ Baghdad clock حيث تعيش القصص. اكتشف الآن