تكملة البارت 《6》

153 11 2
                                    

يربي عمو شوكت و زوجته في الحديقة الخلفية زوجين من طائر القبچ ، جلبتهما هي من كردستان العراق ، و على أغصان شجرة الرمان ، يتدلى قفص صغير لطائر البلبل الذي يغرد كل صباح ، و احيانا يغرد وقت المساء ، لكنه في الليل ينام .
اثاث بيتهما يشبه تقريبا اثاث بيوت المحلة ، الا ان الفراغات بينها مريحة .

على الجدار الموازي لطاولة الطعام ، صورتهما و هما شابان انيقان يقضيان شهر العسل في مصائف كردستان ، حيث يظهر في خليفة الصورة شلال  (گلي علي بيگ) . المياه تتدفق من الشلال و تحفر نهرًا صغيرًا بين الصخور  ، النهر الصغير يجري لمسافات طويلة بين الوديان و يرمي نفسه في نهر دجلة . تحت شلال(گلي علي بيگ) كانا يبتسمان ابتسامة منعشة تذوب منها الثلوج في اعلي الجبال و يتدفق صدى اغنية تتوه في الوديان السحيقة .

صورتهما الفوتو غرافية شلال من الذكرى يتدفق نحو اللانهاية بصمت .

في هذه المملكة الاليفة يعيشان و على هذه الاريكة نفسها ، التي جلسنا عليها انا و نادية بعد ان مسحت دموعها و تناولنا قطعا من الحلوى ، يجلسان هما في المساء و يشاهدان برنامج التلفزيون .
على الرغم من مرور مدة طويلة على زواجهما فانهما يعيشان من دون اطفال ، لم تنجب باجي ناردة طفلة تلعب معنا  .
انا ونادية ة كل اطفال المحلة اطفالهما ،  جميعنا دخلنا بيتهما و اكلنا من مطبخ باجي التي نحبها و هي تفرح بنا ، نحكي لنا بلكنتها الكردية قصصا خيالية عن الجبال الشاهقة ، عن مامند و حبيبته التي سرقها و هرب بها الى قمة الجبل  وعاشا هناك بقية حياتهما ، تحكي لنا عن السناجب و الفلاحين و قصصا أخرى .....

((كان هناك فلاح و ابنه ، و كان سمع كليهما ثقيلًا ،ذات صباح استيقظ الابن باكرًا ، و لبس ثياب العمل ، فشاهده والده و سأله :هل ستذهب لحراثة الأرض يا ولدي ؟ فاجابه الابن : لا يا أبي ، لا يا ابي ، انا ذاهب كي احرث الأرض ، فقال الاب : ليكن يا ولدي ، فقد ظننتك ذاهبا لتحرث الأرض!! ))

ضحكنا انا و نادية من هذه القصة الجميلة و قلنا لها باجي نريد قصة ثانية ، رفعت رأسها تنظر الى السقف لكي تتذكر :

((كانت هناك قرية صغيرة تقع على سفح جبل كبير اسمه
"بيره مگرون"
في هذه القرية تعيش فتاة جميلة مع اهلها ، تحلم كل يوم بشاب وسيم ياتي اليها من النافذة و يحدثها و عندما تستيقظ في الصباح لا تراه ، في يوم من الأيام ، نزل الثلج و غطى الأرض كلها ، خرجت الفتاة التي اسمها جوانا من البيت ،  و تسلقت سفح الجبل حتى تعبت ، و جلست تفكر في هذا الشاب الذي لا تراه إلا في احلامها  ، و قالت لنفسها : بما انني لم اره في الواقع ، لماذا لا اصنع له تمثالًا من الثلج ، راحت تجمع الثلج من حولها حتى أصبح لديها  كومة كافية ، فجلست تصنع منها فتى احلامها ، بعد ساعة من العمل صار لديها صديق  له عينان كبيرتان و شعر اشقر ، تمامًا مثلما كانت تراه في احلامها ، و قفت امامه تنظر في عينيه فقال لها :انا احبك ، خجلت جوانا  واحمر خداها و قالت له : ما اسمك ، فقال لها اسمي ماندو ، فقالت له :لماذا انت نحيف ؟
فقال لها : لانني جائع ، ابتسمت  له و قالت : سوف اذهب الى البيت و اجلب لك شيئا من الطعام ، فابتسم لها و شكرها  . اسرعت جوانا تهرول فوق الثلج باتجاه بيتهم ، لكنها تاهت في الطريق ، لان الثلج غطى اثار أقدامها .
في هذه الأثناء اشرقت الشمس من بين الغيوم ، و عندما و صلت جوانا البيت ، حملت بعض الطعام و عادت تركض نحو صديقها و هي فرحة بالطعام الذي جلبته له ، لكنها لم تجد اي اثر لماندو ، لان الشمس قد اذابته بحرارتها .
حزنت جوانا كثيرًا و راحت تبكي و رمت الطعام على الأرض ، فجاءت العصافير تاكل منه ، و منذ ذلك اليوم ، تنهض جوانا كل صباح و تحمل الطعام و ترميه للعصافير في المكان نفسه .
لم تعد هذه الفتاة الجميلة تحب الشمس لانها اخذت منها ماندو ، في يوم من الايام و بينما هي تحمل  الطعام الى العصافير ، شاهدت الشمس تنزل قريبا من السفح ، فقالت لها : لماذا اخذت ماندو ايتها الشمس ؟
فقالت لها الشمس : انا لم اخذ ماندو ، لكنه كان يحبك كثيرا حتى ذاب من الحب و صار جدولًا))

حزنا انا و نادية على جوانا و ماندو و حزنت معنا باجي نادرة لكنها قالت لنا : في المرة المقبلة سأحكي لكم نهاية القصة سعيدة لهذه الفتاة و هي تلتقي فتى احلامها من جديد .

في السنوات الاخيرة ، لم يعد عمو شوكت انيقا مثلما كان مظهره حين كنت صغيرة ، حين كانت بذلته جديدة و قميصه ابيض و فوقه ربطة عنق زرقاء ، لم يعد هذه الأيام يهتم كثيرا بملابسه ،حتى ربطة عنقه اصبحت قديمة و لونها اصبح باهتا ، لم يعد يبتسم لنا كثيرا ، و عندما نلقي عليه التحية ، يردها علينا ببرود من دون ان ينظر في وجوهنا .
تركت باجي نادرة وظيفتها و تفرغت للاهتمام ببيتها و زوجها و هي تحرص كثيرا على نظافة باب بيتها ، و نظافة الرصيف و الشبابيك ، و تعتني بنباتات حديقتها و طيورها .
انا احب ملابسها الكردية بالوانها الجميلة ، احب رقصاتها و اغانيها في الأفراح :

نرجس نرجس نرجس ... نرجس زينار جوانا

اوي نرجس نرجس نرجس ... سرك الوني ايفانا .

بعد ايام عدة من دخولنا بيتهما انا و نادية ، استيقظت باجي مبكرا ذات صباح ، حملت حقيبتها و سافرت الى بيت اهلها في قريتهم الجبلية ، انقطعت أخبارها بعد تلك الزيارة .
عندما يسأل احد من المحلة عمو شوكت عن سبب غيابها ، احيانا يقول انها مريضة ، و احيانا يقول ان امها ماتت .
و مع مرور الوقت ، صار يعرف كيف يعيش لوحده ، و تعود الناس على ان ينسوا باجي نادرة.

لكي اكون صادقة معكم ، الناس لم ينسوها ، لكنهم تعودوا على تسيانهم لغيابها ، و ليس على نسياها هي شخصيا ، هناك ناس في محلتنا و حتى في كل مكان من العالم ، نسيانهم يعني اننا نتذكر غيابهم ، الذي يحل محل وجودهم في حياتنا ، و باجي نادرة من الناس الذين لا يمكن ان ينساهم احد حتى ان نادية قبل ايام حلمت بها و هي تحكي لنا قصة جديدة سارويها لكم عندما يكون الوقت مناسبًا .

ساعة بغداد/ Baghdad clock حيث تعيش القصص. اكتشف الآن