الفصل الثاني - الجريمة الأولى

5.7K 122 16
                                    

رغم تأثري بهواجس بوارو صديقي إلا أنني في الأيام التالية كنت قد نسيت في خضم شواغلي أمر تلك الرسالة ولم أتذكرها في الواقع مرة اخرى الا في اليوم الثاني والعشرين من الشهر عندما أقبل المفتش جاب إلى مسكن صديقي بوارو ولما رآني صافحني بحرارة وشوق لأننا كنا صديقين قديمين وصاح مدهوشا:
- آه.. هذه مفاجأة يا كابتين هاستنغز متى جئت من تلك البراري التي ذهبت إليها؟ اني إذ أدكر تلك الأيام الطيبة التي كنت اراك فيها مع المسيو بوارو دائما آه اني اراك بخير وان كان شعرك قد بدأ يخف بتأثير الزمن.. حسنا.. حسنا.. هكذا الأمر معي أيضا.
وامتعضت قليلا من هذه الملاحظة ولكني تدكرت فجأة ان جاب لم يكن لبقا في أحاديثه مع أحد ومن ثم تظاهرت بالإبتسام بينما استطرد المفتش جاب في حديثه مع بوارو قائلا:
- وهكذا انت يا مسيو بوارو كلما فكرت في اعتزال هذا الركض الطويل وراء المجرمين وجدت نفسك في خضم أحداث جديدة. هل سمعت يا كابتن هاستنغز عن الرسالة الغامضة التي تلقاها بوارو؟
فقال بوارو:
- لقد أطلعت هاستنغز عليها منذ بضعة ايام.
فهتفت قائلا:
- أجل.. أجل.. لقد نسيت أمرها ماذا كان التاريخ المذكور فيها؟
فقال جاب:
- الحادي والعشرون. وهذا ما دفعني إلى المجىء فقد كان أمس الحادي والعشرون من الشهر وبدافع الفضول فقط اتصلت امس تلفونيا بمركز شرطة اندوفر فقيل لي انه لم يحدث اكثر من مشاجرة بين احد السكارى وزميل له واصابة طفلة بحجر قذفه طفل عليها في مثل سنها ومن ثم اعتقدت ان المسيو بوارو لم يكن موفقا في هواجسه هذه المرة.
فاعترف بوارو قائلا:
- انني قد استرحت الآن..حمدا لله.
- كنت شديد الجزع بسبب هذه الرسالة اليس كذلك؟ لك الله. اننا نتلقى عشرات امثالها كل يوم. ويبدو ان هناك طائفة من الناس تهوى كتابة هذا النوع من الرسائلا لأسباب كثير مختلفة.
- الواقع انني اوليته هذه الرسالة من الإهتمام أكثر مما تستحق.. خير. لقد حضرت لزيارتك اليوم لأطمئنك من جهة ولأني كنت اقوم بالتحقيق في حادث سرقة جواهر في الشارع المجاور. طاب يومكما.
وبعد انصرافه قلت لبوارو:
- انه لم يتغير كثيرا..
- أجل.. ولكن الشعر الأبيض تكاثر في فوديه بشكل ملفت للنظر.. حسنا يبدو اني كنت مخطئا حقا في هواجسي عن تلك الرسالة ويلوح ان الإنسان كلما كبر في السن ازداد ارتيابا في كل شيء كالكلب العجوز الأعنى الذي يحاول ان يثبت وجوده بالنباح الأجوف.
وهنا ضحكت وقلت:
- اسمع يا عزيزي بوارو اذا كنت تريد ان استأنف العمل معك في الإيقاع بالمجرمين فيجب ان تكون الجريمة من النوع المثير الذي يقيم الرأي العام ويقعده.
فضحك بوارو بدوره وقال:
- اذا قدر لك ان تختار جريمة كما تختار الطعام فكيف تريدها ان تكون؟ سرقة مثلا ام تزييف؟
- أريد ان تكون جريمة تهديد رئيس وزراء مثلا او خطر يحدق بمليونير امريكي يقيم في انجلترا او خطف رئيس تحرير صحيفة كبرى وان يراق على جوانب الجريمة الدم.
فتنهد بوارو وقال:
- ولابد ان يكون العنصر النسائي فيها... فتاة جميلة ذات شعر ذهبي.
- أجل لأن الجمال كثيرا ما يجني على صاحبه ويثير حسد الناس له.
وقلت فجأة:
- ويحسن ان تعقب الجريمة الأولى جريمة ثانية لأن هذا يزيد من اهتمام الناس بالأمر لأن الجريمة الواحدة لاسيما في قصة مطولة قد تبعث على ملل القارىء.
وعندئذ صلصل جرس التلفون فتناول بوارو المسماع وقال:
- أجل أنا بوارو هركيول بوارو.
وصمت برهة ينصت ثم أربد وجهه ويقول هذه العبارات على التوالي:
- نعم..نعم..
- طبعا..
- طبعا..طبعا سوف أحضر.
- أجل ربما كان الأمر كما تقول.
- سآتي بها معي.
وأعاد المسماع إلى الحمالة وقال لي:
- انه المفتش جاب يا هستنغز.
- ماذا يريد؟
- قال انه عقب وصوله إلى ادارة سكوتلانديار وجد في انتظاره رسالة من اندوفر.
فهتفت قائلا:
- اندوفر؟
- أجل اندوفر.. وجاء في الرسالة ان امرأة عجوز تدعى المسز آسكر وجدت مقتولة في دكانها الصغير الذي تبيع فيه التبغ والسجائر والحلوى واعترف ان انفعالاتي هبطت في تلك اللحظة.. لقد كنت اتوقع ان اسمع عن جريمة تهز الرأي العام اما مقتل امراة عجوز في بلدة نائية فهو حدث عادي يقع الكثير منه في كل يوم.
واستطرد بوارو يقول:
- ويعتقد رجال الشرطة في اندوفر ان في مقدورهم وضع أيديهم على الفاعل...
وازدادت انفعالاتي هبوطا بينما أردف بوارو يقول:
- ويبدو ان المرأة كانت على خلاف مع زوجها الذي أدمن الخمر وأصبح عاطلا منحط الأخلاق وقد سمعه الكثيرون وهو يهدد زوجته بالقتل...
وصمت بوارو برهة قبل ان يستأنف الحديث قائلا:
- ومع هذا كله فان رجال المباحث في ادارة اسكوتلانديار يريدون ان يعيدوا النظر في الرسالة الغامضة التي تلقيتها وقد وعدتهم بأننا سنحضر إلى اندوفر.
وأحسست بالإنفعال المثير مرة اخرى وخامرني ذلك الشعور القديم شعور كلب الصيد وهو يتأهب للإنطلاق وراء الثعلب المراوغ... وكان بوارو لايزال يتحدث ولكنني لم اسمع شيئا مما قال..

روايات اجاثا كريستي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن