الفصل السابع-الرسالة الثالثة

1.4K 59 0
                                    

و أحسست بالعطف على الشاب حين رايته مقبلا مع ميجان.. ذلك ان وجهه الشاحب المرهق كان ينم عما يصطرع في اعماق نفسه من آلام واحزان كان وسيما رياضي الجسم يكاد يبلغ طوله ستة اقدام بارز الوجنتين له شعر احمر كألسنة اللهب وكان يقول لميجان وهو مقبل معها:
- ما هذا يا ميجان؟ لماذا تدخيليني هنا؟ لقد سمعت الآن فقط ان بيتي..
وتهدج صوته ثم ترنح في وقفته.. فقدم بوارو اليه مقعدا تهالك عليه ثم تناول ـ اي بوارو ـ من جيبه الخلفي زجاجة براندي صغيرة سكب منها قيلا في كأس قدمها إلى دونالد قائلا:
- اشرب هذا يا مستر فريزر انه يفيدك الآن.
واطاع الشاب الأمر فظهر اثر الشراب سريعا فأعاد الدماء إلى وجهه فهدأ بعض الشيء وجلس منتصبا في مقعده وهو يقول في اضطراب:
- هل حقا ما سمعت؟ هل ماتت بيتي مقتولة؟
- نعم يا دونالد..
فقال بلهجة آلية:
- وهل جئت من لندن فورا يا ميجان؟
- نعم..لأن ابي اتصل بي تلفونيا.
- في قطار التاسعة والنصف على ما اظن؟
- نعم..
وبعد برهة صمت عاد يقول:
- وهل يقوم رجال المباحث بتحرياتهم الآن؟
- انهم في الطابق الأعلى الآن.. في غرفة بيتي.
- انهم لايعرفون من؟ ليست لديهم اية فكرة عن؟
ثم توقف عن الحديث فجأة وقد عاد وجهه إلى الإمتقاع وهنا تقدم بوارو منه قليلا وقال له:
- ألم تخبرك بيتي اين كانت تنوي الذهاب ليلة امس؟
- قالت انها ستذهب مع صديقة لها إلى بلدة سانت ليونارد.
- وهل صدقتها؟
فهتف دونالد بحرارة:
- ماذا تعني بحق الشيطان؟
واربد وجهه بانفعالات عنيفة جعلتني اؤمن ان بيتي كانت على صواب في تجنبها اثارة غضبه.. وقال بوارو:
- ان سفاك دماء مجنونا قتل بيتي.. ولكي نصل إلى الحقيقة يجب ان نلتزم الصراحة التامة في احاديثنا.
وهنا قالت ميجان:
- أجل يا دونالد ليس هذا وقت العواطف يجب ان تذكر كل ما تعرفه في هذا الشأن.
ونظر دونالد بارتياب إلى بوارو وقال:
- من انت؟ انك لست من رجال المباحث العامة؟
فقال بوارو ببساطة توحي بانه يؤمن تماما بما يقول:
- انني خير منهم.
وقالت ميجان:
- صارحة بكل شيء يا دونالد.
فهدأت ثائرة دونالد وقال ببساطة:
- انني غير واثق من شيء كنت قد صدقتها حين قالت لي هذا ولكنني بدأت أتساءل
فيما بعد بدأت ارتاب..
- لماذا؟
- انني اشعر بالخجل الآن من شكوكي في امرها وايا كان الأمر فقد ذهبت إلى شاطىء البحر لأرقبها وهي تنصرف من المقهى ولكنني تراجعت خشية ان تراني بيتي فتعتقد فورا انني اراقبها.
- اذن ماذا فعلت؟
- ذهبت إلى سان ليونارد حيث بلغتها في الثامنة مساء ثم شرعت اراقب جميع السيارات العامة الآتية من بكسهيل آملا ان اراها وهي تهبط مع صديقتها من احداها.. ولكنني لم ارها!
- ثم ماذا؟
- غضبت جدا وايقنت انها.. انها مع رجل آخر وان من المحتمل ان يكون قد صحبها في سيارته إلى مدينة هاستنغز وذهبت الى هذه المدينة ورحت اتطلع إلى فنادقها ومشاربها ومطاعمها واحوم حول مداخل دور السينما فيها ثم مضيت إلى البلاج وكانت كلها تصرفات حمقاء لأنها حتى لو كانت بهذه البلدة لما امكن ان اعثر عليها بمثل هذه البساطة هذا فضلا عن وجود مصايف اخرى كثيرة جدا على طول الشاطىء.
وصمت برهة ريثما تهدأ نفسه الثائرة وعاد يقول:
- ويئست أخيرا من لقائها فعدت..
- في اي وقت؟
- لا ادري.. لقد عدت ماشيا.. ولا شك ان الليل كان قد انتصف حين بلغت مسكني.
- ثم؟
وهنا فتح باب المطبخ ودخل المفتش كيسلي قائلا:
- أهذا انت هنا؟
وشق المفتش كروم طريقه بسرعة والقى نظرة سريعة على ميجان ودونالد وعندئذ قدمهما بوارو اليه قائلا:
- المس ميجان بارنارد والمستر دونالد فريزر.
ثم قال للشاب والفتاة موضحا:
- وهذا المفتش كروم من اسكوتلانديار.
واستدار نحو المفتش واردف قائلا:
كنت اثناء تحرياتك في الطابق العلوي اتحدث مع المس ميجان والمستر دونالد آملا ان اجد شيئا يلقي بعض الضوء على الجريمة.
فقال كروم وهو مشغول الفكر بالشاب والفتاة:
- آه حسنا.
وتراجع بوارو إلى الصالة واسرعت وراءه حيث قلت له:
- هل وصلت إلى شيء؟
- عرفت فقط يا هاستنغز ان القاتل على جانب كبير من الإعتزاز بالنفس
ولم اجد الشجاعة الكافية لأقول له انني لم افهم شيئا وعقدنا مؤتمرا آخر من سلسلة المؤتمرات التي عقدناها لبحث موضوع ذلك القاتل " ا.ب.س" كان هذا المؤتمر الأخير خاصا بتقرير ما اذا كان ينبغي او لا ينبغي ان نعلن على الراي العام موضوع الرسائل التي بعث بها المجرم المجهول إلى بوارو..
ذلك ان جريمة بكسهيل كان لها اثر كبير في الراي العام لأنها اولا وقعت في مصيف مزدحم بالمصيفين ولأن الضحية فيها كانت هذه المرة فتاة شابة على جانب من الجمال وبعد مناقشات طويلة اتفقنا على ان المجرم المجهول يعاني نوعا من جنون العظمة وانه لم يرتكب هذه الجرائم ويرسل إلى بوارو هذه الرسائل إلا سعيا وراء الشهرة التي ترضي غروره المكبوت.. وانتهينا اخيرا إلى قرار مؤداه ان ننتظر..فاذا ارسل إلى بوارو رسالة ثالثة يحدد فيها المكان والزمان اللذين سيرتكب فيهما جريمته الثالثة اعلنا على الناس جميعا عن طريق جميع الصحف والإذاعة كل شيء عنه حتى يأخذ الجميع حذرهم ويصبح من العسير عليه تنفيذ جريمته كما يمكن الإيقاع به اذا هو حاول تنفيذها.
وانني لأتذكر بوضوح وصول الرسالة الثالثة التي كتبها ذلك المجرم المجهول الذي يرمز لنفسه بالأحرف الهجائية الثلاثة "ا.ب.س" ولست بحاجة لأن أذكر ان رجال المباحث اتخذوا جميع الإحتياطات والإجراءات اللازمة لمواجهة ذلك المجرم عقب وصول رسالته الثالثة مباشرة ومن بين هذه الإجراءات ان عهد إلى جاويش شاب من رجال المباحث بالبقاء في مسكن بوارو عند غيابنا عنه ليكون حاضرا عند وصول الرسالة فيستطيع ومن ثم الإتصال بادارة اسكوتلانديار دون اي تأخير وازدادت اعصابنا توترا مع مرور الأيام ورفض بوارو ان يغادر لندن رغم الجو الخانق الذي كان يسودها في تلك الفترة وقد لاحظت ان بوارو كان يعاني من قلق نفسي لإحساسه بان المجرم المجهول يتحداه شخصيا وان بعض الأبرياء سوف يدفعون ثمن التحدي اذا لم يقع المجرم في ايدي العدالة قبل ان يضيف إلى جريمتيه السابقتين جرائم اخرى وكان يوم الجمعة هو اليوم الذي وصلت فيه الرسالة الثالثة وقد جاءت الساعة العشرة مساء فما ان سمعت طرقات ساعي البريد المعهودة حتى وثبت مسرعا وهرعت إلى صندوق بريد بوارو الخاص حيث وجدت فيه اربع او خمس رسائل وكانت بينها رسالة مكتوبة على الآلة الكاتبة تماما كسابقتيها وهتفت قائلا وانا انطلق بها إلى بوارو:
- بوارو.. لقد وصلت الرسالة.
فصاح قائلا:
- افتحها.. افتحها يا هاستنغز بسرعة اننا في حاجة إلى كل لحظة لنتخذ الإجراءات اللازمة.
وفضضت الرسالة بسرعة ورحت اقرأها بصوت مسموع:
" ايها المسكين المسيو بوارو هل ادركت الآن انك لست بارعا في القبض على المجرمين وفي الكشف عن الجرائم الغامضة كما كنت تظن؟ يبدو ان الشيخوخة قد ركبتك. حسنا لنرى ماذا يمكن ان تفعل هذه المرة سأجعل الأمر سهلا جدا موعدنا في اليوم الثلاثين من هذا الشهر وفي بلدة سيرستون حاول ان تفعل شيئا فانني بدات اشعر بالتفاهة وانا اجول في الميدان بمفردي أرجو لك التوفيق"
صديقك أ.ب.س
- سيرستون ترى اين تقع؟
وسمعت بوارو يقول بانفعال:
- هاستنغز متى كتب هذا الخطاب؟ هل عليه تاريخ الإرسال؟
فنظرت إلى الرسالة في يدي وقلت:
- أجل..انها تحمل تاريخ اليوم السابع والعشرين.
- وهل حدد موعد جريمته الثالثة باليوم الثلاثين؟
- أجل.
- يا الهي هل نسيت اننا في اليوم الثلاثين فعلا.
ونظرت إلى نتيجة الحائط ثم قلت:
- عجبا ولكن ما معنى؟
واختطف بوارو المظروف من يدي وقرأ العنوان المكتوب عليه:
" المسيو هركيول بوارو عمارات هوايت هورس" ثم قرا ملاحظات موظفي البريد
المكتوبة في اركان المظروف " غير موجود في عمارات هوايت هورس" ويجري البحث
عنه في "عمارات هوايت هورس كورات" ثم يعاد البحث عنه في "عمارات هوايت هافن ".
وكان بوارو يقيم في مسكن بعمارات هوايت هافن  وغمغم بوارو قائلا في انزعاج:
- يا للسماء هل الأقدار تساعد هذا المجرم فتجعله يكتب العنوان خطأ لكي تأتي الرسالة متاخرة عن موعدها ثلاثة ايام؟ اسرع اسرع يجب ان نتصل باسكوتلانديار فورا وبعد لحظة كان بوارو يتصل تلفونيا بالمفتش كروم الذي ما كاد يعرف ما حدث حتى كتم مجموعة من السباب واللعنات التي تزاحمت بين شفتيه ثم قال لبوارو انه سيتصل فورا ببلدة سيرستون ووضع بوارو المسماع ثم قال وهو ينظر في ساعته:
- الساعة الآن العاشرة والثلث.. اي لا يزال على منتصف الليل ساعة واربعون دقيقة.. ترى هل نستطيع ان نصل إلى سيرستون قبل منتصف الليل؟ وهل ذلك المجرم المجنون لم يرتكب جريمته بعد؟
وفتحت دليل السكة الحديدية وقلت وانا اقرا فيه:
- بلدة سيرستون على البحر باقليم ديفون.. تبعد عن بادنجتون بمائتين اميال وثلاثة ارباع الميل عدد سكانها 656 نسمة..انها محدودة السكان جدا ولابد ان اي شخص غريب يدخلها سيلاحظه السكان فيها.
- ان هذا لن يمنع وقوع جريمة قتل اخرى.. ماهي مواعيد القطارات المارة بها؟
- اعتقد ان القطار في هذه الحالة اسرع من السيارة.
- هناك قطار منتصف الليل به مركبة نوم يصل في الساعة السادسة وثماني دقائق إلى نيوتن وفي الساعة السابعة والربع صباحا إلى سيرستون.
- ومن محطة بادنجتون؟
- أجل.
- لسوف نركب هذا القطار يا هاستنغز.
- قبل ان نعرف ماذا حدث؟
- وما جدوى معرفتنا؟
وفيما كان بوارو يتصل تلفونيا مرة اخرى باسكوتلانديار اسرعت انا بوضع بعض الحاجيات الضرورية في حقيبة السفر.. ولما عاد بوارو قال ان بعض رجال اسكوتلانديار سيلتقون بنا على رصيف المحطة وانه يحسن بنا ان نأخذ معنا الرسالة الثالثة ليطلعوا عليها وكان المفتش كروم اول من رايناه في انتظارنا على رصيف المحطة وقد قال مجيبا على نظرة بوارو المتسائلة:
- لا..لم تصلنا اية انباء بعد ان رجالنا قد حذروا بالتليفون جميع الأشخاص الذين تبدأ أسماؤهم بالحرف "س" في تلك البلدة لاتزال الفرصة سانحة امامنا. اين الرسالة؟
وبعد ان فحصها صفر منزعجا وهو يقول:
- يا لسوء الحظ ان النجوم في سمائها تساعد هذا اللعين ضدنا.
فقلت متسائلا:
- ألا يمكن ان يكون قد تعمد هذا الخطأ؟
فهز كروم راسه وقال:
- لا انه حريص على التزام المبادىء وهذا النوع من الجنون يجعل صاحبه شديد التشبت بالفكرة المسيطرة عليه ومادام قد قرر ان يتحدى شخصا معينا فانه لا يلجأ إلى المراوغة والخداع واستطيع ان اراهن انه يشرب ويسكي هوايت هورس.
فأومأ بوارو براسه وقال:
- هذه لمحة بارعة يا مستر كروم.. لعل الزجاجة كانت امامه وهو يكتب العنوان وكثيرا ما تكتب اليد ما تراه العين على غير وعي من الإنسان.
ورفت ابتسامة خفيفة على شفتي كروم وقال:
- إذا اسعدنا الحظ ولم يحدث شيء حتى الآن في سيرستون فلا شك ان المجرم موجود بها الآن..
انه لن يغادرها حتى يحقق مأربه لأنه سيعز عليه كثيرا الفشل وفيما كان القطار يتحرك من المحطة لمحنا احد رجال المباحث يسرع نحونا ثم ينقر على النافذة المقصورة التي جلسنا فيها فأسرع كروم وفتحها قائلا:
- ماذا؟ هل وصلت اليكم انباء ما؟
ولم نسمع ما قاله الرجل ولكن وجه كروم كان شديد التجهم وهو يلتفت الينا قائلا:
- لقد عثروا على السير سيرميكال كلارك مقتولا بضربة قاضية على مؤخرة راسه.
وكنا جميعا نعرف السير سيرميكال كلارك أخصائي امراض العيون الذي لم يكن مشهورا جدا بين الطبقات الشعبية وكان قد تقاعد عن العمل بعد بلوغه سن الستين وذلك ليتفرغ لهوايته الخاصة وهي جمع التحف الخزفية الثمينة المصنوعة في الصين لا سيما القديم منها وكان بعد تقاعده قد ورث عن عمه ثروة طائلة اتاحت له فرصة الحصول على الشيء الكثير من هذه التحف من مختلف المزادات العالمية وكان متزوجا ولكنه لم ينجب الأطفال وكان يعيش في منزل خاص على شاطىء في اقليم ديفون ولا يذهب إلى لندن إلا نادرا وكان من الواضح ان مقتله سوف يثير في الراي العام وفي الصحافة بوجه خاص ضجة كبيرة لم يحدث لها مثيل منذ اعوام ولا سيما وقد وقعت الجريمة في شهر أغسطس حيث يكون معظم الناس متلهفين على ما يشغل اذهانهم وقال بوارو:
- آه.. من يدري لعل هذه الضجة سوف تؤدي الغرض الذي لم تستطع جهودنا ان تؤديه فلا شك ان الناس جميعا سوف يهبون للبحث عن ذلك المجرم المجهول "ا.ب.س".
فقلت آسفا:
- ان هذا ما يريده فعلا.
- نعم.. ولكن النجاح مسكر ولا شك ان شعوره بالزهو سوف يدفعه إلى ارتكاب بعض الأخطاء التي توقع به في النهاية.
وبعد برهة من الصمت اردف بوارو قائلا:
- اننا حتى اليوم نحارب في الظلام.. لانعرف شيئا محددا عن ذلك المجرم المجهول بل اننا لا نعرف  إلا تخمينا الدوافع التي تدفعه إلى ارتكاب هذه الجرائم وانه لمن أسوأ الأمور ان يقتل الإنسان اشخاصا غرباء عنه بلا اي اسباب او مبررات.
فقلت وانا ارتعد:
- ألا يكفي ان يكون الجنون مبررا معقولا؟
- نعم إلى حد ما وهذا موضع الخطر.
وبعد برهة صمت قلت في شيء من الحزم:
- أيا كانت الأحوال فمن واجبنا ان نبذل كل ما يمكن من جهود حتى نضع حدا لهذه الجرائم البشعة.

- طبعا طبعا..علينا ان ننام الآن لأن هناك اعمالا كثيرة في انتظارنا غدا.

روايات اجاثا كريستي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن