الفصل العاشر-الرسالة الرابعة

945 51 0
                                    

كان طابع الحزن واضحا على قصر السير سيرميكال كلارك عندما ذهبنا في الموعد المحدد لمقابلة الليدي كلارك ولعل جو سبتمبر المقبض كان له اثر في شعورنا بذلك الطابع الحزين المخيم على القصر وكانت معظم غرفاته مغلقة والستائر مسدلة على نوافذها كما ان الغرفة التي جلسنا ننتظر فيها كانت رطبة كئيبة واقبلت ممرضة محترفة ينم مظهرها على الكفاءة وقالت:
- المسيو بوارو؟ انني الممرضة كابستيك.. وقد تلقيت رسالتك التي ذكرت فيها موعد حضورك لزيارة الليدي كلارك.
- أرجو ان تكون في حالة صحية تسمح بمثل هذه الزيارة.
- الواقع ان حالتها الصحية احسن قليلا.
- اني سعيد إذ اسمع هذا.
- الواقع ان الدكتور ليجون اتبع معها طريقة جديدة للعلاج.. ورغم ان التحسن بطىء الا انه واضح.
- ولكن يقال انها لن تسترد صحتها مهما يكن الحال.
فقالت الممرضة وقد صدمها هذا الحديث الصريح:
- ان الإنسان مهما بلغت براعته في الشؤون الطبية لايستطيع ان يصدر حكما جازما كهذا.
- ولكني اعتقد ان وفاة زوجها كانت صدمة عنيفة لها.
- ربما يكون هذا صحيحا لو انها كانت في حالتها الطبيعية اما وهي الآن في شبه غيبوبة فاعتقد ان الصدمة ليست بالقوة التي تظنها.
- اسمحي لي ان اوجه اليك هذا السؤال يا مس كابستيك.
- هل كانت الليدي كلارك شديدة التعلق بزوجها؟
- أوه أجل.. لقد كان الإثنان زوجين سعيدين ولا عجب ان شعر المسكين السير سيرميكال بأشد
الجزع عليها حين علم حقيقة مرضها.. ويمكن القول ان احزانه بسببها كانت بالغة جدا في اول الأمر.
- في اول الأمر؟ وبعد ذلك؟
- لا تنس ان الإنسان يتعود على كل شيء حتى على المرض المزمن وقد اعتاد السير سيرميكال على مرض زوجته فخفت احزانه بعد الصدمة الأولى ثم لا تنس هوايته في جمع الخزف الثمين.. وليس كالهواية عزاء للإنسان في مثل هذه الكوارث لقد كانت تشغله كثيرا لا سيما عندما يذهب إلى المزادات الكبيرة في لندن او عندما يقضي الساعات الطوال مع المس جراي في تصنيف المجموعات وترتيبها.
- آه.. المس جراي لقد تركت الخدمة هنا كما علمت.
- نعم وانه لأمر يدعو للأسف ولكن للزوجة عذرها لا سيما إذا كانت مريضة حين يمتلىء راسها بالهواجس والشكوك واني لشديدة الإعجاب بالمس جراي عندما رفضت ان تناقش الليدي كلارك فاعتزلت الخدمة فورا.
- اذن فالليدي كلارك هي التي امرت بطردها؟
- طبعا.
- هل كانت تكرهها دائما؟
- لا لم تكن تكرهها في اول الأمر بل على العكس كانت تميل إليها.. حسنا كفى ثرثرة من جانبي الآن.. ان الليدي كلارك في انتظاركما.
وصعدنا معها إلى غرفة بالطابق الأول وكانت غرفة مضيئة لطيفة جيدة الأثاث وقد راينا فيها الليدي
كلارك جالسة على مقعد وثير بالقرب من النافذة وكان وجهها الهضيم ينم على الألم والإرهاق كما كانت شاردة زائغة النظرات قالت الممرضة:
- هذا هو المسيو بوارو الذي اردت ان يزورك.
فقالت السيدة في غموض وذهول:
- آه نعم.. المسيو بوارو.
ولما صافحته قال وهو يقدمني إليها:
- هذا صديقي هاستنغز يا ليدي كلارك.
- كيف حالك يا كابتن هاستنغز..
ولاح لي انها استغرقت فجأة في غيبوبة بعدما جلسنا على مقعدين بالقرب منها.
ولكنها لم تلبث ان هزت راسها كأنما تفيق من حلم ثم تقول:
- اننا سنتحدث عن كار.. اليس كذلك عن مقتل كار.
ثم تنهدت وهي تهز راسها كأنما تتحدث إلى شخص مجهول واستطردت تقول:
- من كان يظن ان نهايتنا ستكون هكذا نهايته ستكون قبل نهايتي؟ ولكنها الدنيا.
ومرة اخرى عادت تقول وكأنما تحدث نفسها:
- لم اكن اصدق ابدا انه سيموت في الستين لقد كان يتمتع بصحة جيدة وان من يراه كان يحسبه في الأربعين من عمره..ولكن.
وبعد برهة صمت أخرى طويلة قالت فجأة:
- نعم انني شاكرة لكما لحضوركما لقد طلبت من فرانكلين ان اراك يا مسيو بوارو ووعدني بان يبلغك رغبتي وكل ما ارجوه الا يرتكب حماقة من هذه الحماقات التي يندم عليها الرجل فيما بعد لا سيما في مسالة الزواج انه رغم بلوغه الأربعين من العمر سهل الإنقياد واعتقد ان معظم الرجال هكذا امام الفتيات الجميلات وهذا يدل على انهم اطفال في اعماق نفوسهم ولا سيما فرانكلين انه دائما طفل رغم مرور الأعوام.
فقال بوارو:
- اعتقد انه مندفع بطبيعته.
- أجل أجل انه مندفع وعلى جانب كبير من الشهامة لا سيما مع الفتيات وانا اعتبر ان هذه ليست
شهامة وانما حماقة.. وهكذا كان كار.. ايضا!
وتلاشى صوتها قليلا وعاد إلى الصمت وبعد برهة تمتمت قائلة:
- الم المرض قاس لا سيما إذا كان مصحوبا بنوبات من الألم فالمريض يعيش في قلق دائم لا يعرف متى ستهاجمه النوبة التالية وهل سيهاجمه الألم او سيتوقف نهائيا.. آه.. معذرة.
- انني اقدر مشاعرك يا ليدي كلارك والحياة مليئة بالمآسي.
- أجل أجل ولكن المرض يجعلني اذهل عما حولي في بعض الأحيان عن اي شيء كنا نتحدث؟ آه  نعم..
- عن شيء يتعلق بوفاة زوجك.
- وفاة كار مقتله.. يا للمسكين ويا للمجرم المسكين لا شك انه مجنون ولا شك ان جنونه نشأ بسبب هذه الحياة المليئة بالسرعة والضجيج التي نعيش فيها هذه الأيام انها حياة لم تعد تطاق اني دائما اشفق على المجانين فلا شك ان عقولهم المضطربة تثير فيهم اغرب الإنفعالات ثم ان سجنهم في مكان منعزل امر رهيب مزعج ولكن ماذا يمكن للمجتمع ان يفعل غير هذا؟ لا سيما إذا بدأوا يقتلون الأبرياء.
ثم التفتت نحو بوارو وسالته فجأة:
- الم تقبضوا عليه بعد؟
- لا.. لم نقبض عليه بعد.
- لا بد انه كان يتسكع بالقرب من القصر في ذلك اليوم.
- اننا في موسم الإصطياف يا ليدي كلارك والغرباء عن البلدة يكثرون بطبيعة الحال.
- أجل أجل نسيت هذا ولكنهم عادة يبقون عند الشواطىء ولا يصعدون إلى المنزل.
- لم يقترب من المنزل احد الغرباء في ذلك اليوم يا ليدي كلارك على كل حال.
فقالت السيدة بحماس مفاجىء:
- من قال هذا؟
فأجاب بوارو مدهوشا:
- الخدم و..المس جراي.
- هذه الفتاة كاذبة.
وحملقت إلى الليدي كلارك مدهوشا بدوري بينما استطردت هي تقول:
- انني لا احبها ولم احبها ابدا وكان كار شديد الإعجاب بها وبكفاءتها وكان يقول دائما انها فتاة يتيمة وحيدة في الحياة وما عيب اليتم انه احيانا يكون رحمة وبركة عندما يكون للأبناء والد سكير عربيد فاسد الأخلاق وام بلهاء.
وحاولت الممرضة ان تهدىء ثائرتها ولكن الليدي كلارك استطردت قائلة:
- لقد امرت بفصلها من الخدمة بعد وفاة كار مباشرة والعجيب ان فرانكلين حاول بكل وقاحة ان يبقيها ويقنعني انها قد تكون ذات فائدة لي انه احمق مندفع انه طفل في قرارة نفسه وانا لا اريد ان يختلط بفتاة ذات اهداف بعيدة مثلها لقد امرت باعطائها مرتب ثلاثة اشهر وخروجها من البيت فورا وقد ذهبت وهي تتظاهر باللطف والدعة يا لها من فتاة داهية..
ومرة ارخى بذلت الممرضة جهدها لتهدئة الليدي كلارك فلما هدأت قال بوارو:
- لماذا قلت انها كاذبة يا ليدي كلارك؟
- لأن هذه هي الحقيقة.. الم تقل لكم انه لم يقترب احد الغرباء من القصر في ذلك اليوم؟
- نعم.
- حسنا جدا.. لقد رايتها بنفسي.. بعيني هاتين من هذه النافذة تتحدث مع رجل غريب تماما عن الناحية امام مدخل البيت.
- متى كان هذا؟
- في صباح اليوم الذي قتل فيه زوجي في نحو الساعة الحادية عشرة صباحا.
- وماذا كان شكل الرجل؟
- كان رجلا عاديا لا يميزه شيء عن غيره.
- هل كان سيدا او بائعا؟
- لا لم يكن بائعا ولكنه كان رجلا رقيق الحال كما بدأ من ملابسه.
واختلج وجهها بألم مفاجىء فقالت الممرضة لنا:
- ارجو ان تتركاها لتستريح الآن.
وقطعنا الرجاء.. وخرجنا وقلت لبوارو ونحن في طريق العودة إلى لندن:
- هذه حكاية غريبة جدا اعني حكاية المس جراي والرجل الغريب.
- أرايت يا هاستنغز ان كل شيء يثبث ما كنت اقوله لك كثيرا وهو انه لابد ان يحدث امر ينير السبيل امام العدالة.
- لماذا كذبت الفتاة وقالت انها لم تر احد الغرباء في ذلك اليوم؟
- ان ابسط ما يمكن ان نفعله في هذا الشأن هو ان نسالها.
- لنفرض انها كذبت مرة اخرى.
- في هذه الحالة ستزداد الأمور وضوحا.
- انني يا بوارو لا اصدق ان يكون لفتاة كهذه علاقة برجل مجنون.
- تماما وهذا هو رايي ايضا.
ومرة اخرى راح بوارو يستعرض الجرائم الثلاث ويحاول عبثا ان يجد رابط بينها رابطة اخرى ارتكاب شخص واحد لها ووصلنا اخيرا إلى مسكنه في عمارات هويتهافن وقبل ان ندخل المسكن قيل لنا ان فيه رجلا ينتظرنا بداخله وتوقعت ان يكون الضيف المنتظر فرانكلين كلارك او المفتش جاب ولكن لشدة ماكانت دهشتي حين رايته الشاب دونالد فريزر الذي نهض لإستقبالنا في شيء من الإرتباك ولم يضغط بوارو عليه لكي يدلي بالأقوال التي جاء من اجلها وانما دعاه إلى مشاركتنا في وجبة الاطعام خفيفة مع بعض كؤوس من الشراب وبعد ذلك قال له:
- لقد جئت من بكسهيل يا مستر فريزر اليس كذلك؟
- أجل.
- هل نجحت مع ميللي هيجلي؟
- ميللي هيجلي؟ انني في الواقع.. انني لم ارها!
ثم انفجر قائلا:
- بل انني في الحقيقة لا اعرف لماذا جئت إلى هنا.
فقال بوارو:
- انا اعرف..
- كيف يمكنك ان تعرف؟
- لقد جئت لأن لديك اقوالا لابد ان تدلي بها إلى احد.. وانا الشخص الذي ينبغي ان تدلي بها اليه.
- اتعتقد هذا؟
- تماما..
وصمت الشاب برهة قبل ان يقول في خجل:
- أتؤمن بالأحلام يا مسيو بوارو؟
وكان هذا آخر ما توقعت ان اسمعه ولكن بوارو كما لاح لي لم يدهش وانما قال بهدوء:
- نعم.. هل رايت حلما؟
- أجل.. وكان طبيعيا ان احلم بها ولكن ليس طبيعي ان يكون الحلم على هذا النحو الفظيع.
- اخبرني به..
- كنت دائما احلم انني على البلاج انتظر عودة بيتي من غيبتها وكنت واثقا في الحلم طبعا انها ستعود يوما وكان اشد ما يهمني ان اعيد إليها حزامها يا الهي..
- وبعد؟
- وتغير الحلم ليلة امس.. فرايتها جالسة على الشاطىء ولكنها لم تشعر بي وانا اقترب منها يا الهي.. لقد فاجأتها من الخلف ولففت الحزام حول عنقها وخنقتها به.
واخفى الشاب وجهه بين يديه وقال:
- ولما ماتت تبينت انها لم تكن بيتي وانما اختها ميجان.
ورفع الشاب راسه وقال في الم:
- فما معنى هذا يا مسيو بوارو؟
- اشرب كاسك..
وعاد الشاب يسال بعد ان اطاع الأمر:
- اخبرني يا مسيو بوارو..ما معنى هذا؟
ولم اعرف بماذا اجاب بوارو لأني في تلك اللحظة سمعت طرقات ساعي البريد على صندوق بوارو الخاص فاندفعت إلى الصندوق وما كدت اتناول الرسالة التي وجدتها فيه حتى نسيت كل ما سمعت من دونالد فريزر وانطلقت عائدا اجري إلى بوارو وانا اهتف قائلا:
- لقد وصلت الرسالة الرابعة يا بوارو!
فوثب واقفا واختطف الرسالة وفتحها وقرأ ما يلي بصوت مسموع:
" يا لك من مسكين يا بوارو؟ انني حزين من اجلك يجب يا رجل ان تتحرك.. فان الطريق لا يزال طويلا امامنا. "هل يكون مسرح الجريمة التالية مدينة تيبرري؟ لا.. لا.. ان هذا الحرف لا يزال بعيدا" اذن ليكن موعدنا في بلدة دونكاستر في الحادي عشر من هذا الشهر. وداعا".
المخلص دائما "ا.ب.س"

روايات اجاثا كريستي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن