الفصل الخامس عشر - بوارو يسأل

829 43 1
                                    

كان يوما من ايام نوفمبر الصافية الأديم وكان الدكتور ثومبسون وكروم والمفتش جاب قد جاءوا إلى مسكن بوارو ليخبروه بآخر تفاصيل قضية "ا.ب.س" وكان بوارو ملازما الفراش بسبب نوبة برد وقال المفتش جاب:
- لقد حول القاضي التحقيق قضية ا.ب.س إلى محكمة الجنايات.
وقلت انا:
- هل سيصر الدفاع إلى انه مجنون غير مسؤول عن جرائمه؟
فقال جاب:
- ان الدافع بالمجنون لن يؤدي إلى اطلاق سراح المتهم بل سيدفع به إلى مصحة الأمراض العقلية حيث لايخرج منها الا بمرسوم.
ثم اردف قائلا:
- ولكنني اعتقد ان المحامي المستر لوكاس يرى امام المتهم ثغرة يمكنه النجاة منها وهي اقامة الدليل الحاسم على ان سوست لم يكن في بكسهيل ليلة وقوع الجريمة ولكنه لن يستطيع في رايي ان ينقذ المتهم من حبل المشنقة في نهاية الأمر.
وقال بوارو للدكتور ثومبسون:
- مارايك يا دكتور؟
- تسالني عن رايي في سوست؟ انني لا ادري ماذا اقول انه يتظاهر بتمام العقل والحكمة ولم اجد حتى الآن اي عرض من اعراض الجنون في حديثه او تصرفاته.. ولكنه مصاب بداء الصرع.
- عجبا!
لقد فجأته نوبة الصرع وهو يدخل مركز الشرطة في اندوفر فسالت الطبيب قائلا:
- هل يمكن ان يرتكب المريض بالصرع بعض الأعمال كالجرائم مثلا دون ان يشعر بما يفعل؟ انني احس انه صادق في انكاره امام المحققين.
- لا تنخدع بحركاته واقواله المسرحية عندما كان يقسم امام المحققين " بالله العظيم ثلاثا" انه لم يرتكب اية جريمة من هذه الجرائم رايي انه كان على ادراك كامل بما ارتكب.
وقال كروم:
- ان تحمس المجرم في الإنكار يكون في كثير من الأحيان دليلا على ادانته.
وقال الدكتور ثومبسون:
- والدليل الحاسم على ادراكه التام لإرتكابه هذه الجرائم تلك الرسائل التي ارسلها اليك يا مسيو بوارو انها تدل على عقلية تعرف كيف تحكم التدابير.
وقال بوارو:
- الم يقل سوست شيئا بخصوص هذه الرسائل بعد؟
- لا انه لا يزال مصرا على انه لا يعرف من امرها شيئا.
- انني شخصيا لن اعتبر القضية منتهية حتى اعرف لماذا اختارني بالذات لكي يرسل هذه الرسائل الي.
- طبعا.. طبعا هذا من حقك.
وقال بوارو:
- وذلك الشاهد العجيب المدعو سترانج الا يزال مصرا على قوله بان المتهم كان يلعب الدومنو معه إلى ساعة متأخرة من مساء اليوم الرابع والعشرين من يوليو وفي فندق ببلدة ايستبورن؟
واجاب المفتش جاب الذي كان قد بقي بعد انصراف الدكتور ثومبسون:
- نعم.. انه مصر عليها كل الإصرار هل يهمك امر هذه الشهادة يا بوارو؟
- كل الأهمية.
- ولكنها لا تهمني كثيرا لأني لا اصدقها.. لا..لا ان المحامي لوكاس سوف يعرف كيف يستفيد منها في دفاعه.
- صف لي هذا الشاهد العنيد يا جاب.
- انه رجل في نحو الأربعين قوي البنية متين الجسم شديد الثقة بنفسه وبارائه يعمل مهندسا في المناجم وهو الذي تقدم من تلقاء نفسه للشهادة واصر عليها واجل بسببها سفره إلى شيلي.
فقال بوارو مفكرا:
- اي انه من طراز الرجال الذين يرفضون الإعتراف بالخطأ مهما يكن الحال.
فقلت انا وكنت قد سمعت شهادته اثناء التحقيق:
- انه من اشد الناس عنادا واصرارا على اقواله لقد اقسم بكل شيء مقدس انه التقى مصادفة بسوست في فندق هوايت كروس ببلدة ايستبورن في مساء اليوم الرابع والعشرين من يوليو الماضي اي في ليلة وقوع جريمة بكسهيل ولما رآه وحيدا بائسا اشفق عليه وراح يتحدث اليه وبعد طعام العشاء لعبا معا الدومينو ويبدو ان ذلك المدعو سترانج من هواة اللعبة وقد ادهشه وسره ان يجد في سوست غريما بارعا وقد اقسم مرات عديدة انهما ظلا يلعبان ساعات طوالا متوالية وانهما لم يفرغا من اللعب الا في منتصف الليل ولهذا فهو اقسم مرات عديدة بكل ماهو مقدس ان سوست لا يمكن ان يكون مرتكب جريمة بكسهيل لأنه كان موجودا معه في ايستبورن حتى آخر لحظة من الساعة الثانية عشرة مساء اليوم الرابع والعشرين وقد ثبت طبيا ان الجريمة ارتكبت في هذه الساعة فكيف استطاع سوست ان يكون موجودا في مكانين مختلفين في وقت واحد لا سيما ان المسافة بين البلدتين اربعة عشر ميلا؟
فقال بوارو:
- هذه مسالة تستحق التفكير والتامل.
فهز كروم كتفيه وقال:
- حتى لو ظل ذلك المدعو سترانج على شهادته فلا تزل لدينا جريمة دونكاستر بما فيها من السكين الملوثة بالدماء وكم المعطف الذي كان يغسله في الحوض..انه لن يستطيع ان يجد في هذه الجريمة ثغرة واحدة ثم هناك جريمة سيرستون ثم اندوفر ان هذه الجرائم الثلاث الثابثة عليه تدل على انه مرتكب الجريمة في بكسهيل مهما اقسم واصر سترانج على شهادته.
وقال جاب:
- ان مهمتك يا مسيو بوارو ان تبين لنا كيف يمكن التوفيق بين اصرار سترانج على شهادته وبين ارتكاب سوست لجريمة بكسهيل.
وبعد انصراف المفتش قلت لبوارو:
- ما رايك في هذا كله؟
- ومارايك انت يا هاستنغز؟ اتعتبر الموضوع منتهيا؟
- اعتقد هذا لأن الرجل قد وقع اخيرا والأدلة متوافرة إلى حد مذهل.
- انني شخصيا لا اعتبر الموضوع منتهيا حتى اعرف كل شيء عن ذلك الرجل.
- لقد عرف عنه الشيء الكثير.
- لا.. لا.. لم يعرف عنه في الواقع شيء عرفنا اين ولد حقا وانه اشترك في الحرب العالمية الأخيرة وانه جرح في راسه واعفي من الخدمة بسبب داء الصرع ونعرف انه اقام سنتين في غرفة مفروشة بمسكن المسز ماربري وانه كان دائما هادئا منعزلا من النوع الذي لا يشعر به احد ونعرف انه وضع خطة هذه السلسلة من الجرائم واحكم تنفيذها وانه في النهاية ارتكب عدة اخطاء عجيبة لا يرتكبها اي مبتدىء في عالم الجريمة ونعرف ايضا انه لم يحاول ان يتهم احدا بارتكاب هذه الجريمة كما تعرف في الوقت نفسه انه كان يقتل ضحاياه بلا رحمة او شفقة اترى يا هاستنغز مبلغ المتناقضات في شخصيته؟ داهية وابله عطوف وقاس لايرحم هادىء منعزل وجبار سفاك.. هذه متناقضات كلها لابد ان يكون لها عامل اساسي يربط بينها.
- اذا كنت تريد ات تحلل نفسيته على هذا النحو فلا شك.
فقاطعني بوارو وقال:
- لا.. لا.. انني في الواقع لا اكاد اعرف عن حقيقته شيئا.
- لعل شهوة القتل..
- أجل.. ان هذا الحافز يفسر الشيء الكثير ولكنه لا يقنعني فهناك اشياء كثيرة اريد ان اعرفها عن يقين مثلا: لماذا ارتكب هذه الجرائم؟ ولماذا اختار هؤلاء الناس بالذات؟
- لأن اسماءهم مرتبة بالحروف الأبجدية..
- هل كانت بيتي بارنارد مثلا الفتاة الوحيدة في بكسهيل التي يبدأ اسمها بالحرف "ب" آه لقد خطرت لي فكرة.. لابد انها فكرة صائبة بل يجب ان تكون فكرة صائبة.
ثم استغرق في تفكير عميق حتى ظننته نائما.. ويبدو انني الذي نمت لأني لم البث ان تنبهت على يده وهي تربت على كتفي وعلى صوته وهو يهتف بي قائلا:
- يا عزيزي هاستنغز يا ملهمي العبقري.
ونظرت اليه في ارتباك لهذا التقدير المفاجىء والإعجاب غير المنتظر اما هو فقد استمر يقول:
- انك تميمة حظ يا هاستنغز انك دائما الذي تلهمني باول ضوء ينير لي السبيل.
فسالته قائلا:
- وكيف الهمتك هذه المرة؟
- بينما كنت القي على نفسي بعض الأسئلة تذكرت ملاحظة سمعتها منك.. ملاحظة وضيئة ملهمة الم أقل لك ذات مرة انك عبقري في ملاحظة الأشياء الواضحة وهي نفس الأشياء التي كثيرا ما تفوتني ملاحظتها.
- وماهي ملاحظتي الوضيئة الملهمة هذه؟
- نعم.. ملهمة ووضيئة لأنها اوضحت لي كل شيء انني الآن اعرف الإجابة على جميع اسئلتي اعرف السبب الذي من اجله قتلت المسز آسكر - وان كنت اعرف السبب منذ مدة- والسبب الذي من اجله قتل السير سيرميكال كلارك والسبب الذي من اجله وقعت جريمة دونكاستر واخيرا وهذا هو المهم لماذا وقع الإختيار على هيركيول بوارو بالذات لإرسال تلك الرسائل اليه.
- هل تسمح وتشرح لي الأمر؟
- لا ليس الآن اريد اولا ان اجمع بعض المعلومات وربما استطعت جمعها من فرقتنا الخاصة ثم بعد ان اعرف الإجابة على سؤال معين سوف اذهب لزيارة صاحبنا ا.ب.س لسوف اقف معه وجها لوجه ا.ب.س امام هيركيول بوارو!
- وبعد ذلك؟
- وبعد ذلك سنتحدث.. وتأكد يا هاستنغز ان الحديث من اخطر الأسلحة التي تكشف عن مكنونات الصدور ان الحديث ـ كما قال لي فرنسي عجوز ذات مرة ـ من الضروريات التي اخترعها الإنسان لتخفف عنه كثرة التفكير والإنسان يا هاستنغز لا يستطيع ان يقاوم عملية كشف نفسه والإفصاح عن حقيقة شخصيته عن طريق الحديث و كلما زاد من الحديث ازدادت شخصيته وضوحا.
وهنا قلت له:
- ماذا تنتظر ان يقول لك سوست؟
فابتسم بوارو وقال:

- كذبة.. وعن طريق هذه الكذبة سأعرف الحقيقة.

روايات اجاثا كريستي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن