مازلت اذكر ساعة يقظتي من النوم صباح اليوم الخامس والعشرين من شهر يوليو.. واعتقد ان الساعة كانت النصف بعد السابعة كان بوارو واقفا بجانب فراشي يهزني برفق من كتفي.. وما ان فتحت عيني والقيت نظرة على وجهه حتى تنبهت من نومي تماما قلت وانا انتصب جالسا:
- ماذا حدث؟
فقال ببساطة تخفي وراءها انفعال مكبوت:
- لقد وقع ما كنت اخشاه.
فهتفت قائلا:
- ماذا؟ ولكننا في اليوم الخامس والعشرين.
- لقد وقعت الجريمة في الواحدة بعد منتصف الليل اي في الساعة الأولى من اليوم الخامس والعشرين.. هذا اليوم.
فوثبت من فراشي واغتسلت بسرعة وراح بوارو يحدثني بما سمعه في التليفون وانا ارتدي ملابسي فقال:
- وجدت جثة فتاة شابة على شاطىء مصيف بكسهيل. وعرفت انها لفتاة تدعى بيتي بارنارد واسمها الكامل هو "اليزابيث بارنارد" وكانت تعمل مضيفة في احد المقاهي وتعيش مع والدها في بيت صغير من طابق واحد مبني حديثا ويقول الطبيب الذي فحص الجثة ان الوفاة حدثت فيما بين الحادية عشرة والواحدة صباحا.
فسالته بسرعة وانا اضع الصابون على ذقني:
- وهل ايقن رجال الشرطة ان هذه هي الجريمة التي كنا نتوقع حدوثها؟
- عثروا تحت جثة الفتاة على دليل برادشو للسكة الحديدية.
فقلت وانا ارتعد:
- ان هذا امر رهيب..
- تمالك نفسك يا هاستنغز فانا لا اريد ماساة اخرى في مسكني هذا.
مسحت قطرات الدماء التي انبعثت من جرح في وجهي اثناء الحلاقة وقلت:
- ماذا تنوي ان تفعل؟
- سوف تاتي سيارة الشرطة بعد لحظات لتقلنا إلى مسرح الجريمة.
وفي خلال ربع ساعة كانت سيارة الشرطة السريعة تنطلق بنا خارج مدينة لندن وكان معنا المفتش كروم الذي شهد المؤتمر في اليوم الأسبق والذي عهد اليه بالتحقيق في هذا الحادث وكان كروم يختلف كثيرا عن المفتش جاب فهو اصغر سنا واميل إلى الصمت و إلى الترفع عمن حوله واكثر علما وثقافة وكان يبدو لي شديد الإعجاب بنفسه لاسيما بعد ان نال وسام الكفاءة الممتازة عقب قضائه على عصابة خطف الأطفال قبل ان يتسع نطاق اعمالها والواضح انه كان الشخص المناسب لتولي هذه المهمة الخطرة ولكن عيبه الوحيد انه كان يدرك هذه الحقيقة فيزهو في اعماق نفسه ويعامل الذين حوله كانهم اطفال صغار قال لبوارو بلهجة الرئيس المترفع الذي يتحدث إلى انسان بسيط:
- تحدثت طويلا مع الدكتور ثومبسون وهو كما نعرف شديد الإهتمام بهذا النوع من الجريمة "المسلسلة" او " الجريمة التي ترتكب على حلقات " ويعتبرها نموذجا على الإضطراب العقلي الذي يتميز بطابع معين وقد افاض الدكتور في شرح نظريته طويلا وضرب المثل عليها بآخر قضية عن القضايا التي كانت في عهدتي ولعلك قرات عنها انها قضية مابل هومر الطالبة في مدرسة مازويل هل..
ثم راح يفيض في الحديث عن هذه الجريمة الغامضة التي استطاع ان يكتشف غموضها ويقبض على مرتبها في اسرع وقت وبعد ان سادت بيننا فترة من الصمت قال كروم عندما تجاوزنا محطة نيوكروسي:
- اذا اردت ان تستفسر عن شيء عن هذه الجريمة فيمكنك ان تسالني.
- هل وصلتكم بعض التفاصيل عن شكل الفتاة؟ وعن بعض ظروفها الإجتماعية؟
- كانت في الثالثة والعشرين من عمرها وتعمل في مقهى جنجركات.
- ترى هل كانت جميلة؟
فرفع كروم حاجبيه ثم قال في اقتضاب:
- هذا ما لم نعرفه بعد.
وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي بوارو وهو يقول:
- اترى ان هذا لا اهمية له حسنا انني ارى ان لجمال الفتاة في مثل هذه الظروف الأهمية الأولى.
ويبدو ان المفتش كروم قرر ان يضع للمحادثة نهاية اذ قال ببرود:
- آه نعم..
وظل الصمت مخيما حتى بلغنا بلدة سيفن اوك عندما قال بوارو:
- هل عرفت على نحو ما كيف خنقت الفتاة وباي شيء؟
فاجاب كروم بايجاز:
- خنقت بحزامها.. وهو حزام ثوبها الذي كانت ترتديه..حزام مفتول متين معقود.
فاتسعت عينا بوارو وقال:
- آها لقد استطعنا اخيرا ان نعرف شيئا محددا.
- انني لا ارى في هذا ما يدل على شيء معين.
- اعتقد انه يدل على عقلية المجرم الوحشية المضطربة.
وساد الصمت بقية الرحلة...
واستقبلنا في بكسهيل نائب حكمدار سكس المفتش كارتر وكان معه شاب وسيم باسم هو المفتش كيسلي الذي عهد اليه بمعاونة المفتش كروم في مهمته وقال المفتش كارتر:
- اعتقد انك تفضل القيام بتحرياتك الخاصة يا كروم ولهذا ساكتفي بذكر الخطوط العامة للجريمة لكي اترك لك الحرية البحث والتحقيق على طريقتك الخاصة.
فقال كروم:
- شكرا يا سيدي..
- لقد ابلغنا النبأ إلى و الديها وكانت الصدمة بطبيعة الحال قاسية وقد تركتهما حتى يستردا بعض هدوئهما وعليك ان تبدا بسؤالهم الآن اذا شئت.
وسال بوارو:
- هل هناك افراد آخرون يهمهم الأمر في محيط اسرتها؟
- ان لها اختا تعمل على الآلة الكاتبة في لندن وهناك شاب يقال انه خطيبها وانها كانت على موعد معه للخروج بالأمس.
وسال كروم قائلا:
- هل استطعتم ان تجدوا شيئا جديدا من دليل السكة الحديدية الذي وجد تحت الجثة؟
فاشار نائب الحكمدار إلى منضدة في غرفته وقال:
- انه على هذه المنضدة ولم نجد عليه اية اثار لبصمات اصابع وهو دليل جديد.. وقد وجدناه مفتوحا على الصفحة التي فيها اسم بكسهيل ويبدو ان المجرم اشتراه من مكان بعيد عن هنا لأننا سالنا جميع اصحاب المكتبات الموجودة في المنطقة.
- ومن الذي اكتشف الجثة يا سيدي؟
- ضابط متقاعد برتبة الكولونيل وقد اعتاد الخروج مبكرا في السادسة صباح كل يوم مصطحبا كلبه لإستنشاق الهواء النقي وبينما هو يسير على الشاطىء في اتجاه البلاج كورين انطلق كلبه فجاة وراح يشتم شيئا على الشاطىء فلما تبعه صاحبه شاهد الجثة فاسرع ـ دون ان يلمس شيئا ـ لإبلاغ الشرطة بالأمر.
- وتحدد وقت الوفاة بمنتصف الليلة الماضية.
- نعم فيما بين الحادية عشرة والنصف والواحدة صباحا..وهذا مؤكد ويبدو ان مجرمنا المجنون مصر على ان يكون عن وعده. وهكذا ارتكب جريمته في اللحظات الأولى من اليوم الخامس والعشرين كما وعد.
فاوما كروم براسه وقال:
- نعم.. هذه عقلية مختلفة قطعا.. ليس ثمة تفاصيل اخرى؟ الم ير احد شيئا قد يفيد التحقيق؟
- لا شيء حتى الآن ولكننا ما زلنا في ساعة مبكرة واكبر ظني ان كل واحد شاهد امس شخصا يسير مع فتاة في ثوب ابيض سوف ياتي ويدلي الينا باقواله واعتقد ان عدد الفتيات ذوات الملابس البيضاء اللآتي سرن امس مع رجال او شبان لا يقل عن خمسمائة وعلى هذا سيكون عدد الشهود ضخما.
فقال كروم:
- حسنا يا سيدي يحسن ان ابدا عملي الآن وهناك بيت الفتاة والمقهى الذي كانت تعمل فيه وساذهب إلى الاثنين بادئا بالمقهى.
وتساءل نائب الحكمدار قائلا وهو يلتفت إلى بوارو:
فقال هذا وهو ينحني براسه للمفتش كروم:
- يسرني ان اذهب معه.
ولاح لي ان كروم لم يعجبه هذا.. اما المفتش الشاب كيسلي الذي لم يكن راى بوارو من قبل
فقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة.
وقال كروم:
- وماذا عن الحزام الذي كان اداة القتل ان المسيو بوارو يعتقد ان له دلالة كبيرة ولا شك انه يريد ان يراه.
فقال بوارو بسرعة:
- لا.. لا.. يبدو انك اخطات فهم ما اقصد.
وقال المفتش كارتر:
- انك لن تستطيع ان تجد في هذا الحزام ما يفيد التحقيق انه ليس حزاما من الجلد الذي قد تكون عليه بصمات اصابع وانما هو حزام من الحرير المفتول الذي يصلح تماما لمثل هذا الغرض.
وارتعدت مرة اخرى بينما قال كروم:
- حسنا هلم إلى العمل.
- وبدانا اولا بزيارة مقهى جنجركات الذي يقع في مواجهة البحر وكان من المقاهي النموذجية الصغيرة التي تكثر في المصايف حيث يشرب فيها الرواد القهوة والشاي والمرطبات او يتناولون بعض الوجبات الخفيفة وكان بعض الرواد المبكرين قد جلسوا إلى موائدهم يشربون قهوة الصباح ومن ثم اسرعت مديرته وادخلتنا إلى غرفة خاصة لا تلفت إلينا الأنظار وقال لها المفتش كروم متسائلا:
- المس ماريون!
فقالت المديرة بصوت ناعم يشوبه الحزن:
- أجل هذا هو اسمي ان ما حدث أمر رهيب مزعج اخشى ان يكون له اثر سيء على العمل هنا.
وكانت المس ماريون سيدة في نحو الأربعين من عمرها نحيفة جدا وفي حالة اضطراب عصبي تدل عليه حركات اصابعها التي كانت تنقبض وتنبسط بلا توقف وقال لها المفتش كيسلي مشجعا:
- بالعكس يا مس ماريون ان ما حدث سيدفع الكثيرين إلى الحضور إلى هذا المقهى بالذات بدافع الفضول.
- آه هذا محتمل ولكنه شيء منفر مزعج انه يدل على قسوة الطبيعة البشرية.
ولكن وميض السرور بالرواج المنتظر كان واضحا في عينيها.. وسالها المفتش كروم قائلا:
- ماذا يمكن ان تحديثيني به عن المجني عليها يا مس ماريون؟
- لا شيء.. لا شيء اطلاقا.
- منذ متى وهي تعمل هنا؟
- منذ الصيف راضية عن عملها؟
- نعم كانت مضيفة بارعة وسريعة في تقديم الطلبات.
وسالها بوارو قائلا:
- وهل كانت جميلة؟
ورمقت المس ماريون بوارو بنظرة وكأن لسان حالها يقول يا لوقاحتكم ايها الأجانب ثم قالت:
- كانت وسيمة لطيفة الشكل.
وسالها كروم قائلا:
- متى انصرفت من عملها في الليلة الماضية؟
- في الساعة الثامنة مساء اننا نغلق المقهى في مثل هذا الوقت لأننا لا نقدم وجبة العشاء لأحد.
- ألم تذكر لك كيف كانت تنوي ان تقضي سهرتها؟
فقالت المس ماريون بلهجة تاكيد:
- طبعا لا ان علاقتنا الخاصة لم تصل إلى هذا الحد.
- ألم يحضر احد للخروج معها او للسؤال عنها؟
- لا..
- هل كانت في حالتها الطبيعية؟ أعني الم يبد عليها اضطراب او انفعالات نفسية معينة؟
فقالت المس ماريون في حذر:
- انني لا اعرف على وجه التحديد.
- كم عدد المضيفات العاملات في هذا المقهى؟
- اثنتان بصفة دائمة واثنتان بصفة احتياطية ابتداءا من اليوم العشرين من يوليو حتى آخر أغسطس.
- وهل كانت بيتي بارنارد مضيفة احتياطية؟
- لا بل كانت مضيفة اصلية.
- وماذا عن الأخرى؟
- أتعني المس هيلي؟ انها فتاة لطيفة.
- هل كانت هي وبيتي بارنارد صديقتين؟
- هذا ما لا أجزم به.
- هل يمكننا اذن ان نتحدث مع المس هيلي؟
- الآن؟
- اذا امكن.
فنهضت المس ماريون قائلة:
- سابعث بها اليكم وارجو الا تحجزها طويلا لأن رواد المقهى يكثرون في هذه الساعة.
وبعد لحظات اقبلت فتاة ممتلئة الجسم سوداء الشعر متوهجة الوجه بالإنفعالات لاهثة الأنفاس وهي تقول:
- لقد ارسلتني المس ماريون.
- انت المس هيلي؟
- نعم.انا!
- أكنت تعرفين بيتي بارنارد؟
- أوه طبعا اليس ما حدث لها رهيبا؟ اني لا اكاد اصدق ما حدث لا اكاد اصدق ان بيتي التي كانت امس متوقدة بالحياة تصبح اليوم جثة هامدة.. اني في حلم مزعج..
وسالها المفتش كروم قائلا:
- هل كانت علاقتك بها متوطدة؟
- كانت اقدم مني في العمل لأني بدات عملي في مارس الماضي ورايي عنها انها كانت فتاة هادئة لطيفة لا تميل إلى الضحك والمزاح هذا لا يعني انها كانت ثقيلة الظل او باردة العواطف وانما اقصد ان اقول انها كانت متحفظة في علاقاتها مع زميلاتها هنا.
وبعد حديث طويل فهمنا من المس هيلي انها لم تكن صديقة للمجني عليها وانها أي ـ بيتي بارنارد ـ كانت تتبادل الحب مع شاب يشتغل كاتبا في مؤسسة لتأجير المساكن والمنازل المفروشة بالقرب من المحطة وان الشاب وسيم وتتمناه كل فتاة وبعد انصرافها تحدثنا مع المضيفتين الإحتياطيتين ولكننا لم نخرج من حديثنا معهما بشيء جديد.
***
كان والدا بيتي بارنارد يعيشان في فيللا صغيرة بين خمسين مسكنا مشابها لها مشيدة في ضاحية المصيف وكان الوالد ـ المستر بارنارد ـ رجلا كبير الجسم حائر السمات في نحو الخامسة والخمسين من عمره ويلوح انه رآنا مقبلين فوقف ينتظرنا عند مدخل مسكنه.
وقال بعد ان حيانا عند هبوطنا من السيارة:
- تفضلوا بالدخول ايها السادة.
واخذ المفتش كيسلي يقدمنا اليه الواحد بعد الآخر حتى اذا علم الوالد ان المفتش كروم من رجال اسكوتلانديار قال بحماس:
- هذا شيء طيب جدا.. نعم يجب ان تبذل اسكوتلانديار جهدها للقضاء على ذلك المجنون الذي قتل طفلتي.
واختلج وجهه بالألم الممض فلم يتم عبارته وفي غرفة الإستقبال قال:
- لا ادري هل ستستطيع زوجتي المسكينة ان تحضر لإستقبالكم او لا؟ فالواقع ان الصدمة هدت كيانها.
ولكن زوجته استطاعت بعد فترة وجيزة ان تحضر وهي تحاول جاهدة ان تسيطر على نفسها فلم تستأنف البكاء وكانت عيناها متورمتان تدلان على كثرة الدموع الحارة التي ذرفتها طيلة الليل قال زوجها وهو يربت على كتفها ويهيء لها مقعدا تجلس عليه:
- لقد كان نائب الحكمدار شفوقا بنا.. ابى ان يسالنا عن شيء بعد ان بلغنا النبأ ولا شك انه اراد ان يتركنا بضع ساعات نسترد فيها بعض هدوئنا.
وغمغمت المسز بارنارد بصوت كله الدموع:
- انه لأمر فظيع.. انها قسوة مريرة.. قسوة ليس لها مثيل.
وقال المفتش كروم:
- ان الأمر فظيع حقا يا سيدتي ولهذا ارجو ان نعرف كل ما يمكن من الحقائق حتى نقبض على القاتل في اسرع وقت.
وأومأ المستر بارنارد موافقا بينما اردف كروم قائلا:
- كانت بيتي تقيم معكما هنا كما فهمت وكانت تشتغل مضيفة في مقهى جنجركات؟
- أجل..
- وبيتكم هذا جديد.. اليس كذلك؟.. اين كنتم تقيمون من قبل؟
- كنت اعمل في تجارة الحديد بمدينة كنجتون واعتزلت العمل منذ عامين.. وكنت ارجو دائما ان اقضي بقية عمري في بيت على شاطىء البحر.
- ان لك ابنتين؟
- أجل.. الكبرى تعمل في مكتب بلندن.
- ألم تنزعج حينما تأخرت ابنتك عن الحضور امس؟
فقالت المسز بارنارد بصوتها الباكي:
- الوالد وانا ننام عادة في ساعة مبكرة ننام في الساعة التاسعة مساء ولهذا لم نعرف ان بيتي تأخرت في الحضور الا بعد ان جاء رجال الشرطة.
وتهدج صوت الأم وتوقفت عن اتمام الحديث فقال كروم:
- هل كان من عادة ابنتك ان.. تتأخر في العودة إلى البيت؟
فقال الوالد:
- انت تعرف كيف تتصرف الفتيات في هذا الزمن يا سيدي المفتش.. انهن يرفضن القيود ويتمادين في التحرر من رقابة الآباء.. ولكن بيتي بوجه عام كانت لا تتأخر عن الحادية عشرة مساء.
- وكيف كانت تدخل البيت؟ هل هناك من يفتح لها الباب؟
- لا..كنا نضع لها المفتاح تحت مشاية الباب.
- يقولون ان ابنتك.. مخطوبة لشاب؟
- انها لم تكن مخطوبة رسميا ولكن علاقتها به كانت مقدمة للخطبة وهو يدعى دونالد فريزر.. شاب لطيف مستقيم ولا شك انه سيحزن اشد الحزن..
- انه يعمل كاتبا في مؤسسة لتأجير المنازل؟
- أجل.. مؤسسة كورت وبرنسكيل.
- هل كان معتادا ان يلتقي بابنتك كل ليلة بعد ان يفرغا من العمل؟
- لا.. ليس كل ليلة.. مرة او مرتين في الأسبوع فقط.
- الم تعرف ما اذا كانت تنوي مقابلته الليلة الماضية ام لا؟
- انها لم تقل لنا شيئا عن هذا.. ولم تكن بيتي تكثر الحديث عن شؤونها الخاصة معنا او مع غيرنا ولكنها كانت فتاة طيبة مستقيمة.. أوه انني لا اصدق لا اصدق.
- تمالك نفسك يا مستر بارنارد.
- انني اتمنى لو استطيع ان اضحي بحياتي لأعاونكم في القبض على ذلك المجرم لقد كانت بيتي فتاة مرحة ضاحكة مقبلة على الحياة كالطائر الغريد ولا اذكر انها اساءت إلى احد او ارتكبت شيئا تستحق اللوم عليه انها لا تستحق هذه الميتة لست ادري لماذا قتلها ذلك المجرم المجهول لا ادري اطلاقا..
فقال كروم مواسيا:
- تاكد يا مستر بارنارد اننا لن نستريح حتى نضع ايدينا على ذلك المجرم والآن احب ان القي نظرة على غرفة بيتي الخاصة اذ ربما نجد بين اوراقها او رسائلها ما ينير لنا السبيل.
فنهض المستر بارنارد وقال:
- تفضلوا معي..
ومضى وقبل الوصول إلى غرفة بيتي وقفت لإحكام رباط حذائي وعندئذ سمعت سيارة مأجورة تقف امام باب المسكن فنظرت من النافذة فرايت فتاة في نحو الخامسة والعشرين تقفز منها وما كادت تراني حتى تسمرت في مكانها وتمتمت قائلة:
- من انت؟
وهبطت الدرجات القليلة التي تفصلنا وانا في حيرة من امري.. اذ لم اكن ادري هل اذكر لها اسمي او اكتفي بالقول باني من رجال الشرطة واراحتني هي بقولها:
- آه..استطيع ان استنتج من انت؟
ورفعت قبعتها البيضاء الصغيرة وامعنت النظر إلى وجهها الذي لم يكن بالغ الجمال وان لم يخل من الجاذبية وقلت لها:
- انك المس بارنارد..اليس كذلك؟
- اجل ميجان بارنارد..انك من رجال الشرطة اليس كذلك؟
- الواقع انني..
فقاطعتني قائلة:
- لا اظن ان لدي ما اقوله لك فقد كانت اختي فتاة طيبة مستقيمة ليس لها اي اتصال بالرجال..طاب صباحك.
وارسلت ضحكة قصيرة تنم عن التحدي واردفت قائلة:
- ان هذه هي العبارات التقليدية التي تقال في مثل هذه المناسبة.. اليس كذلك؟
- انني لست مندوبا صحفيا اذ كان هذا ما ظننت.
فتلفتت حولها وقالت:
- حسنا من انت اذن؟ اين ابي وامي؟
- ان اباك مع رجال المباحث في غرفة اختك الخاصة.
وارتسم التردد على وجه الفتاة برهة ثم اذا هي تقول فجأة:
- تعل معي.
وتبعتها إلى غرفة صغيرة بجوار المطبخ وفيما انا احاول اغلاق الباب اذا بوارو ينفلت داخلا وراءه وهو يقول منحنيا للفتاة:
- المس بارنارد كما اظن؟
وقلت لها انا:
- هذا هو المستر هركيول بوارو المخبر السري الخاص.
وقالت الفتاة:
- سمعت عنك الكثير يا سيدي.. يقولون انك بارع في الكشف عن الجرائم المعقدة التي يعجز رجال اسكوتلانديار عن حلها.
- انهم يبالغون يا آنستي..
وجلست الفتاة على حافة مائدة في وسط الغرفة وتناولت من علبة سجائرها واحدة وضعتها في جانب فمها واشعلتها ثم قالت وهي ترسل سحائب الدخان من شفتيها:
- انني لا افهم لماذا يهتم المسيو بوارو بجريمة عادية كهذه؟
فقال بوارو:
- ان الذي لاتفهمينه يا آنستي والذي لا افهمه انا قد يملئ مجلدات ضخمة ولكن هناك اشياء يمكن ان يفهمها كل انسان.
- مثل ماذا؟
- مثل الموت الذي يجعل الأحياء لا يتحدثون عن الموتى الا بالخير مع ان هذا قد لا يكون من الصدق في شيء.. لقد سمعتك الآن مثلا وانت تقولين لصديقي الكابتن هاستنغز ان اختك كانت فتاة طيبة مستقيمة ليس لها علاقات بالرجال وقد ادركت من نبرات صوتك انك تريدين ان تقولي عكس ذلك وسواء كنت مصيبا في هذا الإدراك او مخطئا فالمهم اني اريد ان اتحدث مع شخص يعرف كل شيء عن بيتي ويذكر كل ما يعرفه بلا مجاملة او مراوغة حتى نستطيع ان نحدد موقفنا من هذه الجريمة وصمتت الفتاة برهة كانت خلالها تحملق في وجه بوارو..وفجأة قالت:
- كانت بيتي فتاة حمقاء متهورة.
وانحنى بوارو للفتاة في اعجاب وقال:
- انني احيي فيك هذه الصراحة يا مس بارنارد وقد صدق حدسي بانك فتاة لاينقصها الذكاء.
- كنت احب بيتي كل الحب ولكن هذا الحب لم يكن يحجب عن عيني الحقيقة وهي انها كانت غبية متهورة لا تعرف ما يضرها وما ينفعها وكثيرا ما قلت لها هذا في بعض المناسبات وهذا ما تفعله الأخوات عادة.
- وهل كانت تهتم بملاحظاتك ونصائحك؟
- لا اظن.
- ارجو ان تكون اجاباك محددة يا آنستي.
فترددت الفتاة برهة ثم قالت اخيرا:
- لم تكن بيتي ابدا شريرة بطبعها او منحلة الأخلاق واحب ان تتاكد من هذه الحقيقة تماما.. انها لم تكن من النوع الذي يقضي نهاية الأسبوع مع اي رجل يدفع الثمن لا مطلقا.. كل ما في الأمر انها كانت فتاة لعوبا في براءة تحب ان تخرج مع الشبان إلى النزهات و إلى دور السينما وان تسمعهم وهم يرددون عبارات الغزل لها.. هذا هو كل ما في الأمر.
- هل كانت جميلة؟
وعندئذ تناولت ميجان من حقيبة يدها صورة صغيرة وقدمتها الينا وقد راينا في الصورة وجها باسما لفتاة لا تستطيع ان تقول بانه جميل وقال بوارو وهو يعيد الصورة لميجان:
- انها كبيرة الشبه بك..
- لا..كانت اجمل مني.
- حسنا.. وكيف كانت علاقتها بالشاب دونالد فريزر؟
- كانت تبادله الحب ولكنه كان يحبها بجنون بينما كانت هي تحبه باعتدال.. وكثيرا ما كنت اخشى ان ينفض يديه منها يأسا بسبب تصرفاتها التي طالما اثارت المنازعات بينهما هذا كل ما لدي من اقوال طاب يومكما.
ولكن بوارو اسرع يقول لها قبل ان تنصرف:
- مهلا يا آنستي.. ان الجريمة التي ذهبت اختك ضحيتها ليست من الجرائم البسيطة التي تحدث كل يوم انها اخطر من هذا بكثير ومن ثم ارجوك ان تتريثي قليلا وتزيدي من تعاونك معنا..
ثم راح يسرد عليها ما حدث في اندوفر ودليل السكة الحديدية برادشو الذي وجدت نسخة منه في مسرح الجريمة الأولى ثم في مسرح الجريمة الثانية وقرأ عليها الرسالتين اللتين تلقاهما من المجرم المجهول فلما فرغ نظرت الفتاة اليه في دهشة بالغة وقالت:
- هل حقا هذا كله يا سيدي؟
- نعم..
- اتعني ان تقول ان قاتل اختي رجل مجنون تطغى عليه شهوة سفك الدماء؟
- تماما..
- أوه بيتي.. بيتي.. يا للمسكينة اذن لم يكن لها ذنب فيما حدث لها؟
- ان في مقدورك الآن يا آنستي ان تحدثينا بكل ما تعلمين حتى تستطيع ان نقدم هذا القاتل المجنون إلى العدالة.
- نعم..نعم..هذا ما ينبغي.
- اذن لنصل حديثنا الذي انقطع لقد فهمت ان دونالد فريزر كان ناقما على تصرفات اختك وان المنازعات كانت تكثر بينهما بسبب غيرته الشديدة عليها.
فقالت ميجان بارنارد بهدوء:
- سوف اضع ثقتي فيك يا مسيو بوارو وارجو ألا تخبر احدا بما ساقوله لك عن اختي والواقع ان دونالد من الشبان الهادئين الذين يتحملون كثيرا ولكنهم يختزنون الإساءات ويكبتون المشاعر ثم ينفجرون بعنف شديد وهذا ما كان يحدث مع اختي كان شديد الغيرة عليها وكان يحبها بعنف ولكن بيتي لم تكن تحبه بمثل هذا العنف..كانت تحبه حقا ولكنها لم تكن من النوع الذي يكتفي بحب شخص واحد فلا ترى غيره في الدنيا.
- نعم انها لم تكن من هذا النوع وان كانت تحب الوسامة والجمال في كل شاب تتعرف اليه وتقضي معه فترة من الوقت في نزهة او سينما وكانت بحكم عملها في المقهى طبعا كثيرة التعرف بالشبان والرجال لا سيما في موسم الإصطياف وأؤكد لك ان الأمر لم يكن يزيد بينهما وبين اي شاب او رجل عن الخروج معه في نزهة قد تستغرق اليوم كله او الذهاب في صحبته إلى دار سينما وبمعنى آخر انها لم تكن جادة في علاقاتها باي شخص آخر غير دونالد وكثيرا ما كانت تقول لي انها سوف تتزوجه في النهاية وتستقر معه في حياة زوجية سعيدة بعد ان اشبعت نفسها باللهو والمرح.
وتوقفت ميجان برهة عن الحديث فقال بوارو:
- انني افهم تماما هذا الوضع يا مس بارنارد.. استمري..
- ولكن دونالد فريزر لم يكن يفهم هذا الوضع.. وانما يفهم انه كان عليها ان تحبه كما يحبها تماما.. بنفس القوة والإخلاص والتفاني وقد ادى هذا الإختلاف في فهم الحب إلى المنازعات الشديدة بينهما.
- متى كانت آخر هذه المنازعات؟
- منذ شهر تقريبا..كنت قد عدت من عملي في نهاية الأسبوع عندما علمت انهما تشاجرا بعنف حتى لقد فرغت بيتي من دونالد ولكنني صالحتهما واسرفت في تعنيف بيتي وحاولت ان ابين لها خطأ ذلك التمادي في العبث واللهو مع الشبان الآخرين وقد اكدت لي بدورها انها تحب دونالد وان كل علاقاتها بغيره مجرد صداقة عابرة بريئة وتسلية لا ضير فيها وكانت قد تعودت بعد منازعة شديدة سابقة..ان تكذب عليه احيانا خوفا من اثارته وكان مبدؤها ان الذي لا يعرفه العقل لايحزن القلب وقد حدثت هذه المنازعة الأخيرة لأن بيتي قالت له انها ستذهب لقضاء يوم في بلدة هاستنج مع صديقة لها ولكن دونالد اكتشف انها ذهبت إلى بلدة ايستبورن مع صديق.. وعلم ان هذا الصديق متزوج وانه كان يخرج مع بيتي سرا وهذا ما اثاره واخرجه عن طوره وقد احتجت بيتي على غضبه قائلة انهما لم يتزوجا بعد وان من حقها ان تخرج مع من تشاء وقد ضاعف هذا من ثورة دونالد حتى كان يرتعد ويصيح قائلا:
- انه سيضطر ذات يوم إلى.. وإلى...
- إلى ماذا يا مس بارنارد؟
فقالت بصوت خافت:
- إلى ارتكاب جريمة.
- وهذا ما يجعلك خائفة من الحديث في هذا الموضوع؟
- انني لم اكن اظن انه جاد في تهديده اطلاقا.. ولا اعتقد لحظة انه هو القاتل ولكنني كنت اخشى ان اتحدث بهذا كله فالفت اليه انظار رجال المباحث لا سيما وان عددا كبيرا من الناس قد سمعوه وهو يقول هذا.
فقال بوارو:
- لولا غرور المجرم المجهول الذي يبدو في وضعه لدليل السكة الحديدية كل مرة مع الجثة لتركزت الشبهات على دونالد فريزر فعلا.
وفي تلك اللحظة صلصل جرس الباب الخارجي فاطلت ميجان براسها خلسة من النافذة ثم عادت تقول:
- انه دونالد..
فقال لها بوارو:
- دعيه ياتي الينا اولا قبل ان يراه اصدقائي المفتشين.
وانفلتت ميجان حيث غابت لحظة ثم عادت ومعها الشاب دونالد فريزر.
أنت تقرأ
روايات اجاثا كريستي
Mystery / Thrillerتعريف عن اجاثا كريستي:- • هي كاتبة إنجليزية اشتهرت بكتابة الروايات البوليسية تعد أعظم مؤلفة روايات بوليسية في التاريخ حيث بيعت أكثر من مليار نسخة من رواياتها وترجمت للغات كثيرة. • لطالما رددت هذه الكاتبة،أن أعظم متعة يحس بها المؤلف هي اختراع الحبكات...