وتذهب سيدتي بعد أن تربطني لتأكل، ومع أنني كنت أكاد أموت من الجوع والتعب، فإنها لم تعطني لا شيئًا من الماء ولا قليلًا من البرسيم، لذلك احتلت على الاقتراب من سبت الخضار أثناء غيابها، فرطبت لساني وفمي بما ملأت به معدتي من الخضراوات والكرنب، ولم أذقْ في حياتي أطعم من هذه الخضراوات، وانتهيت من التهام آخر كرنبة في اللحظة التي عادت فيها سيدتي.
فصرخت حين أبصرت السبت فارغًا، ورأيتها ممتقعة متألمة لأنها أدركت فعلتي.
ولا أكرر على مسمع القارئ ألفاظ الشتم والسباب التي هالتها عليَّ وكانت لهجتها حادة شرسة، وكانت وهي غاضبة تقول من الكلام ما أحمرُّ منه خجلًا أنا الحمار.
ولم يكن مني إلا أنني كنت أتلمظ ثم ولَّيتها ظهري، فتناولت عصاها واستمرت في الضرب بقسوة إلى أن ضاع رشدي ونفد صبري فرفستها ثلاث رفسات؛ هشمت الأولى أنفها وكسرت بعض أسنانها، وخلعت الثانية يدها، وأصابتها الثالثة في معدتها وألقتها على الأرض.
فهُرِع إليَّ أشخاص كثيرون وأثقلوني ضربًا وإهانة، ثم حملوا سيدتي ولا أدري إلى أين، وتركوني مربوطًا بجانب المكان الذي ألقيت فيه أحمالي وبقيت وحدي فيه مدة، فلما رأيت أنه لا يفكر فيَّ أحد أكلت ما في سبت آخر من الخضار اللذيذ، ثم قرضت الحبل الذي ربطوني به وعدت بهدوء إلى طريق العزبة.
ودُهِش الذين رأوني في الطريق عائدًا وحدي، وصاروا يتهامسون ويتضاحكون، وقال بعضهم: إنه لا يحمل شيئًا فأين صاحبته؟ وأين ذهبت أحماله؟ فقال آخر: لا بد من أنه فعل فعلة سيئة، وقالت امرأة: قرِّبوه ليركب هذا الطفل على بردعته، فقال زوجها: إنه يستطيع أن يحملك أنت والطفل.
وأردت أن أحسن ظنهم بي وبحسن أخلاقي، فاقتربت بلطافة من الفلاحة ممهدًا لها سبيل الركوب على ظهري، فقال زوجها وهو يساعدها على الركوب: ليس خبيثًا هذا الحمار.
فابتسمت لهذا الكلام لأن الحمار الذي تحسن معاملته لا يكون خبيثًا، فإننا لا نكون مُغْضَبِين عنيدين إلا إذا أردنا أن ننتقم ونجازي على ما يُصَبُّ علينا من الأذى والإهانة، أما إذا عُومِلْنَا برفق فإننا نكون طيبين أحسن من كل أنواع الحيوان.
وذهبت مع هذه المرأة وطفلها إلى منزلها، وكان الطفل جميلًا عمره سنتان، فأحبني ولاطفني وأراد أن أبقى عندهم، ولكني فكرت في أن هذا لا يكون من الشرف، فإن سيدتي هي التي اشترتني فأنا مملوك لها، ولقد هشمت أنفها وخلعت يدها وآذيت معدتها وهذا كافٍ في الانتقام.
وأدركت أن الأم تهم بموافقة طفلها على استبقائي عندها فأسرعت فقفزت من جانبها، وقبل أن تستطيع اللحاق بي لتمسك لجامي ركضت حتى وصلت إلى المنزل.
وكان أول من أبصرني مارييت بنت سيدتي، فقالت: هذا كديشون، وقد عاد اليوم مبكرًا، يا جول اخلع عنه البردعة، فقال جول: كثيرًا ما يشغلنا هذا الحمار، وإلا فلماذا عاد وحده؟ أنا أراهن على أنه هرب. وشتمني ثم ضربني برجله على فخذي، وقال: لو تحققت أنك فررت من السوق لضربتك مائة ضربة.
أنت تقرأ
خواطر حمار
Abenteuerخواطر حمار هذا عنوان غريب في اللغة العربية، ومفاجأة جديدة في الكتب العصرية، ونوع طريف من الحكاية على ألسنة الحيوانات، إذا كان مستحدثًا في هذا العهد فما هو بالجديد في الآداب الشرقية، فقديمًا قرأنا كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، وحديثًا اطَّلعنا على كت...