الجزء الأول

40.9K 459 6
                                    

كان الجميع يجلس في حديقة الدار يستمتعون بالافطار الذي جهز برعاية الجدة حورية. كانت العجوز تراقب أصدقائها والعاملين على الدار وهم يتناولون فطورهم مثنين على مبادرتها الطيبة يوم في الأسبوع. طبعا المقصود بالجميع من هم بصحة جيدة تسمح لهم بالاختلاط والاندماج فهناك من هم طريحي الفراش وهناك من هرم و غاب عقله.
عيناها تلمعان بسعادة مسرورة بتواجدهم حولها. ملاك كانت تراقب فرحتها بشفقة وعطف. هما تحبان بعضهما كثيرا ومقربتان جدا من بعضهما. وتعرف ملاك كل المعرفة بأن هذه المرأة الكبيرة في السن لطالما عاشت وحدة كبيرة ولازالت. هي بين فترة و أخرى تزور دار المسنين وتقضي بعض الوقت مع رفاقها هنا.
من بين كل كبار السن الذين يتجمعون حولها يستطيع أي شخص تمييزها عن غيرها. انها دائما أنيقة تهتم جدا بمظهرها. رغم تقدمها بالعمر الا أن ملامح الجمال ظاهرة على محياها. لابد وأنها في شبابها كانت فاتنة.
لمحتها العجوز من بين الحضور ومدت يديها المجعدتين نحوها وعيناها تبرقان بشوق إليها. هرولت ملاك نحوها تعانقها بحب ثم تقبل رأسها. قالت العجوز معاتبة :
- أين اختفيت كل هذه الفترة يا ابنتي ؟
تأوهت ملاك معترضة :
- آه يا جدتي لا تذكريني بهمي ودعيني أفرح بلقائك

ملاك تعمل ممرضة هنا الا أنها في الفترة الأخيرة كانت تتغيب كثيرا بسبب ظروف عائلية. ملاك شخصية قوية ومسؤولة فالزمن لم يسمح لها أبدا بأن تكون ضعيفة حتى لو أرادت هي ذلك. داخلها طيبة وحنان لكن حزمها وجديتها ينعكسان في عينيها اللوزيتين ذات اللون العسلي. حاجبها رسمهما الرب بخط متناسق وجنتيها تتوهجان دائما سواء كانت غاضبة ام سعيدة. لكن أنفها القصير المدبب بلطافة والمرتفع يضفي عليها لمسة طفولية. طولها متواضع في الثامنة والعشرين
ربتت العجوز على الكرسي قربها تدعوها للانضمام إليها قائلة:
- تعالي حدثيني فقد اشتقت الى أحاديثك الجميلة
- أجل يا ملاك اروي لنا احدى حكاياتك المشوقة

التفتت ملاك الى أصوات جمهورها المحبب. كان المسنين في هذه الدار تعودوا أن يستمتعو بقصص ملاك التي تنسجها من خيالها في مثل هذه المناسبات او حتى تسرد لهم عن ما قد قرأته وأحبته. فمن مثلهم لاشيء قد يسليهم كالأحاديث اللطيفه بين بعضهم البعض.
ماكان على ملاك الا الانصياع لطلبات أحبائها وبينما هي في منتصف روايتها والجميع متحمس لأحداث القصة فاذا احدى موظفات الادارة تستدعيها. انطلقت أصوات الاعتراض والاحتجاج على مقاطعت اندماجهم في الرواية. ابتسمت لهم ملاك
- لا بأس لن أتأخر سأعود بسرعة
ثم فكرت في نفسها وهي تحث الخطا
- ما الذي يريدونه هذه المرة، من المؤكد انذار آخر بسبب غياباتي المتكررة.
طرقت باب غرفة المديرة وهي تدعو الله بأن لا يكون ماتظن. جاءها صوت من خلف الباب
- تفضلي.
دخلت ملاك على اعصابها مستعدة لتسمع التأنيب والتحذير. وضعت المديرة القلم من يدها وأشارت لها بالجلوس. تقدمت ملاك وهي تقول مبررة قبل أن تبدأ هي.
- أعلم بأني زودتها أعدك بأني لن أكرر غيابي وتأخري انتي تعلمين بظروفي و ....
قاطعها المديرة
- لقد تم فصلك
فغرت ملاك فاهها مصدومة
- ماذا؟!!
هل حقا ماسمعت ؟
هل تم طردها ؟
هل ستعود عاطلة عن العمل من جديد؟
همت بقول شيء لكن اعترضتها المديرة بحزم:
- لقد نفذت انذاراتنا وتخذيراتنا كما هناك من سيحل مكانك ويقوم بعملك على أكمل وجه.
وقفت ملاك لتقول مترجية:
- أرجوك تعلمين حاجتي تماما للوظيفة.
فتحت درجا وأخرجت منه ظرفا قائلة منهية الموضوع:
- هذه مستحقاتك تشرفنا بمعرفتك والعمل لدينا.
أردفت:
- لقد كتبت توصية لك علها تسهل لك الحصول على وظيفة أخرى.
شدت ملاك على قبضتها و قد بدأ داخلها يفور. زمت شفتيها كي لا تفلت أي كلمة تندم عليها فيما بعد. التقطت الظرف من على الطاولة وخرجت مغلقة الباب خلفها بعنف. لتتحدث بعدها لنفسها وهي تقول بصوت مسموع:
- عجوز مقيته.
تنهدت وهي تنظر للجمهور الذي ينتظرها. وضعت يدها فوق عينيها تحجب اشعة الشمس وهي تفكرت بأسى
- علي أن أودعهم.
انتبهت الى الظل الذي غطاها التفتت الى الشخص الذي يقف قربها بطوله وعرض منكبية ليقول:
- عفوا يا آنسة هلا استدعيتي الجدة حورية
حملقت به كالبلهاء وهي تردد:
- الجدة فاطمة.
سألت مستفهمة:
- من تكون يا سيد.
ازاح نظارته الشمسية التي كانت تستقر على أنفه المستقيم وهو يضعها في جيب سترته
- أنا حفيدها
لابد وأنه الحفيد الذي تذكره الجدة حورية في أحاديثها. أشاحت نظرها عنه خجلا من تفحصه لها قائلة:
- انها هناك تستطيع الذهاب إليها.
التفت حيث أشارت وهو يزفر بضيق.
- هلا احضرتها الى هنا
لم يعجبها اسلوبه المتذمر. أساسا هي غاضبة وليست في مزاج جيد لمناقشة أحدهم. قالت:
- ليست بعيدة عنك كما أني لا أعمل هنا.
رفع حاجبيه متعجبا وهو ينظر لزيها
نظرت الى نفسها و من ثم اليه لتقول بعدم مبلاة.
-اعني لم أعد أعمل
قالت جملتها وانصرفت عنه.
- من الجيد أنهم طردوك
جملته التي رماها من خلفها استوقفتها وجعلتها تلتفت له.
-مالذي قلته؟!
كيف يعرف أنهم طردوها قد تكون استقالت من تلقاء نفسها أو أي شيء آخر.
عاد ليضع نظارته الشمسية يثبتها على أنفه المستقيم بغرور وغطرسة.
قال وكأنه يقرأ مايدور في رأسها:
- توترك هذا يوضح بأنك طردتي من عملك اليوم.
شدت قبضتيها كعادتها وهي تحاول أن تسيطر على لسانها لكنها لم تستطع.
- من المؤسف حقا أنك حفيد الجدة حورية.
تقدمها دون أن يعير جملتها أي اهتمام واتجه حيث تجلس جدته توزع ابتسامته على الجميع وتمدهم بطاقتها الايجابية.
نظرت إليه وهي تكاد تحرقه من شدة غيظها من غطرسته.
أسرعت تحث الخطا لتتجاوزه متجهة لتلقي كلمتي الوداع على من عاشت معهم أيام جميلة. متجاهلة وجوده تماما وهو يقف يراقبها بسخرية.
- أعزائي يؤسفني أن أخبركم بأن هذا آخر يوم لي هنا معكم.
أردفت حين رأت دهشة الجميع:
- سوف أترك العمل هنا.
تعالت هدافاتهم المعترضة والمصدومة فهم متعلقين بها كثيرا ومعتادين على تواجدها معهم.
أكملت:
- قضيت معكم أوقات هي الأجمل، حتما زميلاتي سوف يعتنين بكم ولن يقصرن.
تابعت وهي ترسم ابتسامة أكبر :
- سوف آتي لزيارتكم حتما.
أخذت تطوي الظرف الذي بين يديها بتوتر من نظراته وهو يراقب بصمت منظرا أن تنهي حديثها. فكرت بأنه حتما يعلق عليها ساخرا في داخله. يال العجب لم تلتقيه إلا لدقائق معدوده وتشعر بكره شديد نحوه.
أحست بيد تقبض على مرفقها تديرها جانبا. التفت اليها فاذا بها الجدة حورية تنظر إليها بعدم تصديق وأسا بالغ من على مقعدها المتحرك.
- عزيزتي أنا آسفة لذلك.
انعقد لسان العجوز فهي لم تعرف ما تقول هي حزينة أيضا لأنها لن تلتقس ملاك كجددا.
ركعت ملاك لتسند يديها في حجر الجدة.
- هكذا هي الحياة لكن حتما سنلتقي جدتي لا تحزني.
ربدت بيدها المجعدة على خد ملاك وهي تقول بغصة:
- عزيزتي اهتمي بنفسك جيدا وأتمنى أن تجدي عملا أفضلا من هذا.
التقط ملاك كف الجدة لتقبله ثم تقول:
- لا تقلقي جدتي.
- مرحبا جدتي
جاء صوته مقاطعا مشهدها الدرامي. انحنى مقبلا رأس جدته. مما جعل ملاك تقشعر من قربه منها.
ابتهجت العجوز برؤيته وهي تقول بسعادة:
- حبيبي غيث متى عدت.
- نزلت في المطار عند الفجر.
قالت العجوز بعدم رضى:
- سامحك الله ولم تأتي لتصبح علي تعلم بأني مشتاقة لرؤيتك.
قال وهو ينظر الى ساعته الثمينة على مايبدو.
- انشغلت يا جدتي وها أنا جئت أصطحبك الى موعدك في المستشفى الذي اذا لم نلحق عليه سيفوت.
ملاك كانت تراقب حديثهما بصمت لكن في داخلها كانت تقول نفسها
- ان علاقتهما على مايبدو متينة ليس مجرد حفيد وجدته.
قالت الجدة حورية وهي تنتبه أخيرا الى ملاك:
- نسيت أن أعرفكما ببعض
التقطت كفي ملاك وهي تنظر الى عينيها وتقول:
- هذه ملاك اسم على مسمى تعمل ممرضة في الدار
أومأ برأسه بنفاذ صبر
- تشرفنا
لتقول الجدة معرفة إياه
- حفيدي غيث.
فقط!!
أليس هناك المزيد عنه؟ على العموم في ماذا يهم معرفة المزيد عنه ؟
فعلت مثله تمام
- تشرفنا
- جدتي هيا بنا
ظهرت نبرة نفاذ الصبر في صوته الذي يحاول قدر المستطاع أن يحتفظ به متوازنا.
قالت الجدة محتجة
- بني ما الداعي لهذه الفحوصات التي ترهقني بها.
دفع مقعدها دون أن يعلق. تابعت:
- كما أنه لو أرسلت أحداً بدلا من أن تشغل نفسك.
قال يذكرها بأمر يبدو أنها نسيته
- ألم أعدك بأني أنا من سيأخذك من اليوم فصاعدا.
التفتت نحو ملاك وهي تقول مبرره وصوتها يبتعد
- يبدو أنه علم بهروبي في المرة السابقة.
نظرت ملاك الى الجدة بعدم تصديق. هل كانت تهرب من الفحوصات؟
حدقت بذلك الجسد العريض الذي يسير مبتعدا عنها وهي تفكر.
- لابد وأنه شخص مهتم حقا ويحس بالمسؤولية فقلما ترى أحدا بحرصة. لكنه مغرور ومتعجرف
أضافت آخر وصفين وهي تتذكر أسلوبه ونبرته الساخره في الحديث معها.

رواية "ملاك " .......... مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن