الحقيقة المخفية

36 6 2
                                    

الحقيقة المخفية
في حلم لا يمكنه أن يتحقق زرعت زهرة ستذبل في نهاية المطاف أو ربما هي لن تزهر أبدا. كانت حياة مستقرة لكني ألقيت حجرا في مياه راكدة ساكنة فقط لأشبع رغبتي ...بل أعتقد بأني الحجر و لست الرامي .
عشت في منزلي وحيدا أعتني بحديقتي ، حديقتي ...كانت الأم و الأب و العائلة ، لم أملك أحدا عدا تلك الزهور التي أسقيها ، أزرعها ، أعطيها الحنان ، حكيت لها الآمال و الآلام و الأحزان و الأحلام ... أحلام ، انه لشعور جميل أن تملك حلما .
كنت كعامة الناس أقوم بروتيني الممل يوميا ، أعمل ، أعود ، أحتسي كوب قهوة لتهدئة أعصابي ، و أجلس جانب أزهاري أقرأ و إياهم رواية ما .
لكن الحكايات الجميلة تنتهي فجأة ، فقد أتى الوقت الذي تخليت فيه أيضا عن تلك الزهور ، عن تلك الحديقة ... بل عن هذه الدنيا .. جالس فحسب في تلك الغرفة التي استسلمت كما فعلت لظلمات هذه الحياة.
و في يوم بارد من أيام نسيان بسمائه الصافية ، كانت الساعة تشير للثالثة بعد منتصف الليل ، عندما كنت بذقني المكتفة  على صدري اتقاء لريح باردة ، أراقب تلك الحديقة بصمت و لم يحل تجاهلي السريع  دون دخول دوامة من الريح المحملة بذرات الغبار ...كان الأمر كحلم جميل أردت إسناد كتفي عليه .. فتاة في العشرين ربما ، ذات قسمات جميلة و إن كانت لا تخلو من البرودة و الشجن ، و تبرز فيها عينان زرقاوان كما لو أنهما بركة يسبح في ضفافها اليمام ، اكتفيت بالتأمل فقط إلى أن انطبق الجفن على الجفن لأغط في نوم عميق... و يا ليتني ما نمت. استيقظت فلم أرها ، بحثت عنها في مسامع الأرض و مغاربها فما وجدت إليها سبيلا ... بعدها استسلمت فكيف يمكن أن تتفتح زهرة محاطة بالأشواك داخل حديقة مليئة بالوحدة..نعم إنها زهرة بل و نادرة أيضا .قمت بحبس نفسي داخل قلعة الوحدة مرة أخرى لكني بقيت مستيقظا تلك الليلة متمسكا ببصيص أمل يخبرني أنها ستعود .. في منتصف الليل و أنا أراقب الأرض شاردا في قسوة هذا العالم و برودته ، فوجئت بتلك الزهرة ثانية تسقي ورود حديقتي . لكن كيف يمكنني لقاءها هكذا، لم أعلم ما أفعله لذا ارتديت قناع الوحدة الذي يخفي وراءه دمعة و ذهبت لمقابلتها.
" ما اسمك ؟ هل تملكين مكانا تذهبين إليه ؟ هل يمكنك إخباري ؟" كانت هذه أول كلمات تفوه بها فمي الأخرس ، ماذا كنت أنتظر منها مثلا بعد قول هذا... ثم فوجئت بابتسامة تسللت إلى ثغرها فغصت في دوامة التأمل و الهيام و بل النسيان ... أعلم أن مشاعرك أيها القلب حقيقية ، أريد أن أمسك يدها ..تلك اليد التي تقطف الأزهار الزرقاء . هذا قدري ، لا تبتسمي لي بل وجهيني لأني لا أستطيع الوصول إليك ، لا أملك حتى اسما لتناديني به ... و عند استيقاظي من غفلتي لم أرى سوى ظهرها و هو يخرج من البوابة بهدوء ، لم أره سوى و هو يتلاشى شيئا فشيئا إلى أن بدد. أزلت القناع و عدت لتلك النافذة أنتظرها من جديد ، هذه اللحظات معك كمن يرى الأشياء من نافذة قطار مسرع :
               نائية و جميلة....
               و القبض عليها مستحيل .
لم يعد لي هدف في هذه الحياة سوى الانتظار من منتصف ليل لأخر كي أرى ذلك الوجه ، كي أرى تلك الابتسامة . أصبحت هذه الفتاة ملاكي ، زهرتي ، قلبي ، روحي ، كياني و حياتي كلها. أراقبها يوميا في صمت و أسعد عند رؤية ابتسامتها ...تعلمين أني لا أستطيع أن أريك نفسي، أن أعطيك نفسي ، لا يمكنني أن أريك الجانب المظلم مني ، لذا سأضع هذا القناع و سآتي لمقابلتك به دائما.
داخل حديقة الوحدة تفتحت زهرة تشبهها ، أريد أن أهديها لها .. لكن بعد أن أتمكن من نزع هذا القناع السخيف. لكني أعلم أنني لن أتمكن من القيام بذلك ، يجب أن أختبئ خلفه لأني قبيح للغاية.. أشعر باليأس ، أشعر بالخوف الشديد من أن ترحل و تتركني وحدي ، أنا أستمر بوضع هذا القناع كي أخبئ نفسي .
كل ما أستطيع فعله في هذه الحديقة ، في هذا العالم هو أن أغرس زهرة جميلة تشبهها ، و أكون الشخص الذي عرفته سابقا . كل ليلة أحاول نزعه، أحاول رؤيتك عن قرب ، أحاول أن أكون قريبا لقلبك أكثر، لكن هذا أمر صعب جدا... إلى أن أتت تلك الليلة ، و قبل أن تدير ظهرها لتغادر ثانية ، دون أن تتكلم ، بصمت ، بهدوء ، ابتسمت وسط دموعها و احتضنتني ، أحسست أنها سترحل للأبد ، كل شيء مضبب الآن ، أنا حتى لا أعرف ما إن كنت بخير أم لا ، غبي من اخترع العناق ، أراد قول كل شيء دفعة واحدة ... ثم بعدها غادرت المكان كالعادة . كم من الوقت علي أن أنتظر ؟ و كم من ليلة دون نوم علي أن أقضيها ؟ كي أنزع هذا القناع، كي أراك أو بالأحرى كي تريني .
أمر على حافة الشتاء البارد إلى أن يأتي الربيع ، إلى أيام تفتح أزهار قلبي. فقط انتظري ، أرجوك ابقي أكثر قليلا فقد اقتربت أنا أيضا فليس هناك ظلام أو موسم يبقى للأبد .... لقد نزعت القناع ، و قطفت الزهرة الزرقاء ، و ذهبت للقائها ...مع ضوء القمر ، مع نور النجوم ، مع نسيم الهواء و رقاقات الثلج التي بدأت تتساقط ، وجدتها نائمة قرب أزهاري .. الحديقة التي مر عليها قمر الفجر أنا الآن أملؤها بأحاسيسي ، أنا نادم حقا ، فقط آمل أن يعود ذلك الجزء من الثانية مرة أخرى ... فقط لو كنت قويا حينها و قابلتك وجها لوجه ، كان كل شيء سيبدو مختلفا عن ما هو عليه الآن ، لكني أبكي الآن ، أختفي ، أتلاشى ... أقف وحيدا في القلعة المظلمة و أتشبث بتلك الزهرة بينما أنظر لقناعي المحطم ... أبكي ، فقط أبكي ،أ هو بسبب  حطام حياتي المتلألئة أم بسبب قلبي المكلوم  المنكسر ؟ هل سأصل إليك أسرع لو كنت ثلجا في الهواء ؟ فقط تراب الندم تبقى و أنا أنتظرك .
أنا محبوس داخل كابوس .. لا بل كذبة ، أرجوك اعثري على نفسي البريئة ، أعيدي لي برودتي ، أخرجيني من هذا الجحيم . انه يتكرر مجددا ، الإحساس بالوحدة و الألم ... من جهلي أسميتك وطنا و نسيت أن الأوطان تسلب .
              ...نعم لقد نامت للأبد ... حل الشتاء ، و كما تذبل الزهور ذبلت زهرتي أيضا ....
           كل ما أستطيع فعله هو جمع شظايا ضوء القمر و اللحاق بها....
                                            انتهت  
                                                       # خديجة بصير

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jun 28, 2019 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

                                                     الحقيقة المخفيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن