توسعت عينا سيف لمنظر ندى، القابعة وسط بركة من الدماء التي لطخت فستانها الأبيض. لقد كانت هامدة شاحبة شحوب الموتى، ليقول بصوت متقطع: ماذا فعلت بها؟
وجه شادي نظره تلقائيا ناحية ندى، ليصعق من منظرها هذا، زحف نحوها يتحسس رقبتها، ثم حملها و هو يصرخ بسيف:يجب أن ننقلها للمستشفى حالا
أفاق سيف مما هو فيه ليلتف حول سيارته و يركب صافقا الباب خلفه بعنف و ينطلق بسرعة جنونية بعد أن استقر شادي و ندي في الكرسي الخلفي.
كان شادي يحاول أن يوقض ندى و لكن بدون جدوى، كانت في عالم ثاني، لم يصلها نداء شادي لها و لا توسلاته، و ماهي الا دقائق حتى كان سيف يصرخ في مدخل المستشفى أرجوكم طبيب و شادي يحمل ندى خلفه.
و ماهي الا ثواني حتى التف عليهم مجموعة من الممرضين، اللذين اخذوا ندى على سرير الطوارئ إلى قسم الاستعجالات.
توقف كل من شادي و سيف في منتصف الرواق، كل منهما في عالمه الخاص، كل منهما يتآكله الندم، الأول على تخاذله، و الثاني على رعونته.
قال سيف و هو يركز نظره على الفراغ بصوت بالكاد يسمع: لما؟
نظر له شادي مطولا ثم تنهد قائلا: لقد تعبت
-انك فعلا لئيم
- و أنت لازلت تحبها.
اخفظ سيف رأسه ليجلس على الأرض مستندا على الحائط مغمض العينين ليفعل شادي نفس الشيء.
لازال سيف يتذكر جيدا أول مرة رآها فيها، كان يوم اثنين، خرج من المنزل مستعجلا، بسبب اتصال طارئ من القيادة العسكرية الثانية، اقلع سيارته ليتفاجئ بفتاة تقطع الطريق امامه دون حيطة منها كاد يصدمها نزل مسرعا ليطمئن عليها، إلا أنها لم تعطه الفرصة، إذ أنها أكملت سيرها مستعجلة، بعد أن رمته بسهام زرقة عيناها ...
لازال يشعر برجفة قلبه حينها، تتبعها بنظره حتى دخلت منزله! من هذه الحورية؟ لم ارها من قبل...
عاد إلى الواقع على صوت الممرض و هو يقول: المريضة بحاجة إلى دم و لم يتبقى لدينا في بنك المستشفى
احتضن شادي رأسه بين يده. ليهتف سيف: ما فصيلتها
-AB- قالها شادي
ليردف شادي: نحن في مأزق... فأنا لا أعرف أحد هنا .
اخرج سيف هاتفه من جيبه و اتصل بأحدهم و ما هي إلا لحظات حتى أتاه الرد.
نعم أنا العقيد سيف المنصور ليصمت برهة ثم يردف
أنا في أمس الحاجه لدم زمرة AB-
شكرا سيدي انا في مستشفى السلام .
نظر له شادي نظرة ذات معان كثيرة، غير أن سيف تجاهله تماما.
مر الوقت على سيف و كأنه دهر، كان يذرع الرواق ذهابا و ايابا ينتظر، من هاتفه بخصوص الدم، الى أن ظهر عسكريان يحمل احدهما حقيبة مخصصة لنقل الدم، يهرولان في مشيتهما، ليسلمها لممرض كان يقف أمام غرفة العمليات.
شكر سيف الرجلان و رحلا على الفور.
***
في شرق البلاد في أحدى الفلات الفاخرة، يجلس رجلا في عقده الخامس خلف مكتبه، و تجلس أمامه امرأة و كأنها لعبة باربي، غاية في الجمال، تبدو منزعجة من شيء ما. لتقول: لماذا كل هذا القلق الآن لقد ارهقتني يا علي
وجه لها نظرة حارقة قائلا: و أنت سوف يصيبني احساسك العالي بالأمومة بالشلل يا منى، انها ابنتك، الا تقلقين و لو قليلا عليها؟
- و لما القلق هي الآن مع زوجها فلربما هي تقضي أوقات حميمية معه و انا اقتل نفسي بالقلق؟!
- لا فائدة فيكي، ابنتك لم تتصل و لا ترد على هاتفها و هي متعودة على الاتصال بي اول ما تحط طائرتها على أرض المطار. انا حقا لا أستوعب كيف صبرت لك كل هذه السنين
- نهضت منى من مقعدها ليظهر جسمها المشدود و كأنها عارضة أزياء لا يتعدى عمرها العشرون سنة، بلبسها الضيق الذي يفصل جسدها، و فتحة صدرها الواسعة التي تظهر انتفاخ صدرها، لتدنو للامام و ترتكز بيديها على المكتب، فيظهر صدرها أكثر، و قالت بغرور و دلع مقصود: حقا لا تعرف سبب صبرك حبيبي؟.... أممم اعتقد انه أمام عيناك يا قلبي .
و ابتسمت ابتسامة لعوب ثم استقامة وافقة .
- لا تراهني كثيرا يا عيون حبيبك على ما جبتلك عليه الطبيعة، فأول ما تطفؤ الأنوار تتساوى النساء و لا يبقى سوى هذا(قالها و هو يشير لقلبه) دليلا على الجمال.
ضربت بقدمها الارض و رحلت .ليتمتم قائلا: أين أنت يا ندى؟؟؟
********
في ذلك الوقت خرج الطبيب من غرفة العمليات ، ليسرع له كل من سيف و شادي، و هو يسأل:اين زوجها؟
-انا هل هي بخير؟
- الحمد لله هي بخير. لقد فتح جرحها فالواضح انها تعرضت لعملية استئصال الزائدة حديثا، و لكن للأسف خسرت الجنين.
تمتم شادي: جنين؟ كانت حامل؟
- نعم في شهرها الثاني. لقد تعرضت لنزيف داخلي بسبب العملية التي تعرضت لها.
أردف الطبيب قائلا: البنت تعرضت لاعتداءات جسدية منها قديمة و منها ما هو حديث العهد، فجسدها كله كدمات. و اليوم جاءت و هي تنزف جراء ضربة قوية على الجهة الخلفية للرأس. واعذرني يجب أن أتصل بمصالح الشرطة للتحقيق في الوضع.
كان كل من شادي و سيف في حالة صدمة و توتر، شادي بسبب حضور الشرطة و التحقيق مع ندى، أما سيف بسبب الحياة التي تعيشها ندى، كان يعتقد أنها تعيش حياة سعيدة مع رجل يحبها. لي فوق من صدمته على الأصوات المرتفعة حوله، بسبب شجار شادي مع الطبيب كونه يريد تبليغ الشرطة.
تدخل سيف ليفض الشجار آمرا شادي بأن ينتظره في السيارة. ثم رجع للطبيب الذي كان يقف بمنتهى الغضب. أخرج سيف بطاقته المهنية ليقدمها للطبيب قائلا: أنا أتفهم جيدا قرارك و لكن من غير المعقول أن تبلغ الشرطة على شيء كهذا، فقد كنت شاهدا هو لم يقصد اذيتها...
قاطع الطبيب سيف متجها نحو غرفة الإنعاش قائلا تفضل معي حضرة الضابط، و لتعاينها بنفسك.
تبعه سيف لداخل الغرفة، كانت الغرفة باردة بإضاءة خافتة، يتوسطها سرير يرقد عليه جسد ندى، و الواضح انها جردت من كل ثيابها، ليجدها عارية تماما لا يسترها سوى شرشف المستشفى الابيض، و قد ظهر ذراعيها العاريتين و قد اكتساهما اللون البنفسجي، و شفتيها البيضاء و كأن الوجع قد خطف لونهما الوردي الناعم و قد افترشت خصلات شعرها الأشقر الطويل.
لم يتصور سيف يوما أنه سيرى ندى بدون حجابها، شعر و كأنه يغتصب خصوصيتها و يستغل وضعها، توقف عن التقدم و شتت نظره عنها، فبالرغم من كل شيء لازالت فاتنة بكامل أنوثتها، يصعب على أي رجل مقاومتها مهما كان فما بالك بمن يتنفسها عشقها.
عندما لاحظ الطبيب توقف سيف عن التقدم قال هو يرفع الشرشف قليلا عن جسد ندى و قلبها على جنبها اليمين:تقدم سيادة الضابط لتعاين بنفسك.
تقدم سيف و قلبه يخفق بجنون عشقا و شهوة و خوفا وغضبا، ليتفاجأ بالحالة المزرية لظهر ندى، من أثر الكدمات، كما قد لفت انتباهه ضماد على الجهة السفلى من رأسها .
ما هذا؟قالها سيف مشيرا للضماد
أنه جرح اكتشفناه بعد الانتهاء من التقطيب جرح العملية، و الواضح انها ارتطمت بشيء صلب.
في هذه اللحظة فقد السيطرة عن نفسه، فمد يده يتحسس الضماد، ثم مسح على رأسها و كأنه يسقيها الأمان الذي سلب منها، لينزل يده يتحسس الكدمة التي تتوسط ضهرها، كان منظرها بشع للغاية.
التف سيف يهم بمغادرة الغرفة ليهتف به الطبيب: لو كانت اختك او ابنتك، هل سترضى بهذا؟
اتجه سيف الى موقف السيارات و هو يشتعل غيضا و غضبا، ليجد شادي يطقطق في هاتفه، ليوجه له لكمة حملها كل أوجاعه ليسقط أرضا ينزف دما من فمه، كان شادي في حالة صدمة لطالما كان سيف ظهره و سنده، كان المخلص الوحيد عندما كانا طفلين من زملائه إذا تحرشوا به، و اليوم يضربه!. ليسحبه سيف من قميصه ليوجه له لكمة أخرى و هو يسب و يصرخ لينهي ثورة غضبه قائلا: إذا لم تحبها أو تحترمها، خاف على امك المسكينة يا عديم الرجولة، اتعلم أنك مهدد بالسجن و يمكن أن يصل إلى ٥ سنوات؟
هنا فقط شادي أستوعب فداحة أفعاله.
غادر سيف المكان و هو يحمل من الغضب و القهر ما يهد جبال لا رجل، هو يعرف انه زوجها، و يعرف جيدا ماذا يعني ذالك، و لكن أن يتصور شادي يستمتع بها و انها كانت تحمل قطعة من غيره يحطمه، أن يرى بعينه رعبها من شادي ، و أن يرى سوء معاملة هذا الأخير لها و هو السبب فهذا فعلا احساس لا يحتمل.
ليستقل سيارته و ينطلق بها بسرعة جنونية و هو يضرب المقود، و يلعن و يسب ، لم يعد يحتمل يشعر أن قلبه يعتصر، سابقا كان يتحامل على نفسه فقط لضنه انها سعيدة مع زوجها. أما الآن لم يعد شيء يصبره على أوجاع قلبه.
صف سيارته في مكان خالي تماما من أي أثر يوحي بتواجد البشر فيه أنه بداية لغابة و بدأ بالصراخ و ضرب شجرة امامه و هو يسب و يلعن تخاذله الذي تسبب في خسارتها.
و بعد برهة من الزمن سقط على الأرض يفترشها و هو يحدق في السماء. كانت ليلة مظلمة بدون نجوم في غياب القمر، ليعود بذاكرته لذلك اليوم الذي رأى ندي تخرج من باب الجامعة، أين كان ينتظر اخته خديجة. استقلت اول سيارة أجرة مرت بها، كانت غاية في الجمال في فستانها الوردي و خمارها الأبيض و حقيبتها البيضاء و كأنها مخلوق خرافي خرجت من أسطورة إغريقية. قرر اللحاق بها، الى أن صفة سيارة الأجرة أمام أحد المقاهي المقابلة لشاطئ البحر نزل خلفها، يتتبعها من بعيد و كأنه مسحور و قد جرد من إرادته، ليصدح هاتفه برقم خديجة، رد عليها و هو يرى ندى تستقر على كرسي و تضع حقيبة يدها على الكرسي الآخر و تفتح كتابا و تبدأ القراءة
- نعم حبيبي اجاب سيف
- اعتذر منك و لكن اضطررت للمغادرة قبل الوقت فلا تغضب لأنني اتعبتك بمجيئك للجامعة
- لا عليك، أخبريني أين انتي الآن؟؟؟
-أنا بصدد طباعة أوراق مهمة لبحثي القادم، لألتقي بصديقتي بعدها سوف ارجع للبيت
- حسنا حظ موفق.
لم ينزل نظره من عليها ثانية واحدة، كان مسحور بها، و هي حتى لم تلاحظ وجوده، فكانت تضع نظارة شمس و تقرأ كتابها، يبدوا أنه ممتع للغاية، لكي لا ترفع نظرها عنه و لو لدقيقة.
لا يدري كم من الوقت مضى و هو يراقبها هكذا، الى أن رأى خديجة تقبلها و تجلس إلى طاولتها.