كان شبه مغيب عندما تخطاه شادي ليقف أمام ندى و على وجهه ابتسامة وجع، رفع يده ليضعها على وجنتها و هو يحرك ابهامه يتحسسها برقه وعيناه تغرق في عيناها، يبحث عن أي احساس بداخلها اتجاهه، خصوصا بعد أن سمع ردها برفض الذهاب بدونه، فلم يجد سوى الجمود و البروده، فقال راجيا: سامحيني يا ندى فأنا لم أكن سوى أخرق أضاعك و أضاع نفسه في الطريق.
لم تجب بحرف، و اكتفت بالنظر للآخر الذي كان و كأنه في عالم غير العالم، هل جرحته جملتها الملعونة الكاذبة التي تفوهت بها خوفا من نفسها و ما تعتمره أغوارها؟ هل فعلت بعد كل ما فعله من أجلها؟. يا الاهي انها تشعر بوجع لا يحتمل و كأن قلبها يعتصر بدون رحمة لمجرد رأيته بهذه الحالة، متى تسنا لها أن تحبه لدرجت أنها تتألم لمجرد سكوته.
وجه سيف بصره نحوهما ليراه يلتصق بها بشبه حضن، كان هذا كفيلا بتأجيج غيرته المجنونة عليها، لم يعد يهتم بالعقلانية و لا التقاليد و لا المنطق و لا حتى الدين لم يعد يعترف بأي قيد ليبعدها عنه، ليرميها في أحضان غيره تقدم منهما بخطى سريعة و كله غضب، ليسحبها من يدها بقوة حتى ارتدت على صدره، هاتفا اياك أن تلمسها... ليكمل كلامه بعد أن لكمه بقوة كانت كفيلة لاسقاطه أرضا:لن اسمح لليد التي أذتها أن نلمسها بأي شكل كان.
تلمس شادي مكان الضربة و نهض و على وجهه ابتسامة أسفة ليقول: كنت أتمنى أن تثور و تهوج و تغضب يوم استفزيت رجولتك لأدفعك اليها، أين كانت هذه الغيرة يوم اقتربت منها متغزلا، أين كانت هذه النظرة الشرسة؟ كل ما رأيته يومها استسلام وتخاذل، ثم انسحاب ليصرخ قائلا: أين كنت يوم يوم بعثت لي بهدية زواجي منها.
عاد سيف بذاكرته ليوم لقاء شادي في مكان ندى المفضل في أحد المقاهي المقابلة لشاطئ البحر أين كان يجلس إلى طاولة مقابلة لطاولة ندى المنغمسة كعادتها في كتابها، هذه الأنثى تثير كل حواسه و تثير فضوله لها بشكل غريب، أليس لهذه الفتاة حياة خارج الكتب؟ فهو لم يسبق و أن رآها بدون كتاب في يدها!!!
انتبه لشادي عندما هتف قائلا: انها فاتنة حقا، أنا لا ألومك .
- ماذا؟؟؟ و لما تلومني
قهقهة شادي و أردف قائلا: لا لشيء فقط الناسك سيف الذي لم يسبق لي و أن رأيته يهتم لأي مراة، يجلس أمامي اليوم مسلوب العقل و الحواس، يا رجل مذ جلست معك و أنا أحدثك و أنت غائب تماما...
حمحم سيف قائلا: لا . لا تحلل على مزاجك، أنا لا أنكر أنها جميلة أنما لم تسلب مني شيء.
قال قولته هذه لأنه لا يستطيع تسمية ما تعج به نفسه لها، فهو غير قادر على أن يحدد مشاعره أتجاهها، أهو حب أو أعجاب أو مجرد فضول، لا يعرف ماذا بالظبط، كل ما هو متأكد منه أنه يريدها أمام ناظريه طول الوقت، ساعة بساعة، دقيقة بديقة، و ثانية بثانية، وصل جنونه أن يطلب نفس مشروبها، أن يحضر لنفس المقهى كل يوم على الساعة الرابعة ظهرا، مع أنها تأتي فقط الثلاثاء و السبت، كان يجلس في حضورها مقابلا لطاولتها، و في غيابها يجلس على كرسيها في محاولة بائسة منه أن يتحسس وجودها،
اليوم فقط يشعر مدى غبائه أنذاك. ألم يكن يعرف فعلا شعوره اتجاهها، أم كان يحاول مقاومة هذا الشعور؟؟؟ شعور بالتبعية للآخر، شعور بالنقص بدون الآخر، شعور بالخوف و الوحدة في غياب الآخر، كان شعوره مرعب له هو من لم يسبق له تجربة هذا النوع من الأحاسيس البشرية، فقد كبر قبل الوقت يتحمله بمسؤولية أسرته بعد استشهاد والده، فكان كل وقته لعمله و أمه و أختاه. أنه شعور حقا مرعب أن يشعر المرء بأكتفائه بشخص واحد عن الدنيا كلها، أن تشعر أنك سلبت ممن تحب، أو ممن كرست حياتك لهن، شعور مرعب شهي في نفس الوقت.
لذلك فضل عدم البوح لصديقه و أخوه بما يختلج روحه، فهو حتى اليوم لم يحدد شعوره اتجاه من تجلس أمامه منغمسة بكتابها لا يكاد يرف لها جفن، و كأن كتابها هذا هو الأكسجين الذي تتنفسه، اليوم أكمل ثلاثة شهور وهو يجلس أمامها، و لم يخطر ببالها أن ترفع رأسها عن كتابها لترى ذلك الرجل الذي رتب حياته كلها ليتفرغ بهذا الوقت لا لشيء سوى لرأيتها حتى لو من بعيد.
هو يعرف أن حادثة أستشهاد والده عقدت حياته، و سببت له عقدة نفسية، فهو يخاف الاقتراب منها، فيخلفها ورائه أرملة و يتيتم أطفاله صغارا، لن يتحمل هذه الفكرة أطلاقا.
استفز شادي انتباهه بعد أن طال سكوته بقوله: قم يا سيف و تعرف عليها انها تبدوا انسانة طيبة خلوقة
رد سيف بصورة حازمة: لا. لن أفعل هذا.
- سيف لا تستفز روح الصياد داخلي تقرب منها و الا سأفعل أنا.
صمت سيف قليلا ليردف قائلا و هو متأكد أن شادي لن يتودد لإمرأة تخصه حتى و لم يعترف بذلك: لن أفعل هذا يا شادي فلا تتصابى .
وقف شادي و هو في قمة انزعاجه من ابن خالته، فهو يعيش عيشة الرهبان منذ وفاة أبوه، و ها هو يرفض الاعتراف بحبه لإمرأة لا لشيء سوى لمجموعة من الأفكار البالية المتخلفة، سوف يعلمه درسا لن ينساه، و سيثير غريزة التملك به، رمقه بنظرة تحدي ثم اتجه نحو ندى .
لم يصدق سيف ما يراه بعينيه الآن، شادي يتقرب من ندى و أمام نظره،
استأذن شادي ندي وجلس أمامها على نفس الطاولة ليقول: لقد أثرت فضولي لأعرف ما تقرئين منذ ساعة بهذا التركيز.
استغربت ندى هذا الرجل الذي جلس إلى طاولتها و هي لا تعرفه و لم يسبق لها رأيته حتى، و ها هو يكلمها بأريحية تام و على وجهه ابتسامة فاتنة.
ابتسمت ندى لابتسامة شادي لتقول بصوت جد ناعم وكأن الحروف تخرج ألحانا من حورية، أثارت غرائزة شادي الرجولية، لتقول: إنه كتاب يتحدث على مشاكل المسلمون في فرنسا وما يتعرضون له من تمييز عنصري.
انها فعلا مختلفة، هل تجلس كل هذا الوقت من لتنغمس في كتاب ثقيل دم لا تكاد ترفع نظرها عنه و لا حتى أثارها جمال المكان بها لتستمتع به، لتقرأ هكذا كتاب، فقال : كنت أظنه رواية رومنسية استحوذت انتباهك، من اين كل هذا الشغف في قراءة كتاب ثقيل دم كهذا.
- تخيل فقط معي أن جنون الخوف من الإسلام في فرنسا دفع الحكومة بإصدار قانون يقضي بمنع المحجبات من دخول المدارس و الجامعات و حتى زيارة المساجين .... و مرافق عمومية كثيرة. فكيف لا يثير شغفي هكذا كتاب، أنه يثير تركيزي كله.
صمت شادي وهو يبحر في عينيها الحابسة للأنفاس، عنده حق سيف إن احبها، بل لقد أحبها و يكاد يقسم بذلك، فعينيه تفضحه، ابتسم قائلا: أنا شادي المنصوري
و أنا ندى الحسيني، هل تقربك خديجة المنصوري.
شحب لونه من ذكرها لاسم حبيبته، ليقول وهو يحاول مدارات توتره الغير مبرر: انها ابنت خالتي وعمي بنفس الوقت. عند كلمته هذه استدار نحو طاولة سيف قائلا: وهناك سيف أخو.... بتر كلامه عند رأيته الطاولة تخلى من ابن خالته.
عاد سيف للواقع على سحب شادي لندى منه، وهو يقربها له هامسا في أذتها:أنا آسف يا ندى، وقبل رأسها هامسا انت طالق.
كانت صدمة لندى، هل طلقها؟ هل تحررت منه؟ واعتذر أيضا منها؟! لم تتخيل أنه سيحررها منه بدون خسائر تطالها و تطاله، فاقت من صدمتها على سحبها من ذراعها بعنف نحو سيف و هو يدفع شادي عنها للخلف هادرا: حذرتك قبلا من لمسها يا شادي...
- قطع كلامه عندما هتف شادي متأسفا: ماذا حدث لنا يا سيف، لطالما كنت أخي وصديقي الذي أتخذ دور ابي كنت أنت الظهر الذي استند عليه، لطالما كنت أماني...
- أتسألني! اسأل نفسك يا... أخي قالها ساخرا. أين كانت الأخوة و الصداقة و أنت تسلبني روحي بدون رحمة أين كانت الأخوة و أنت تأخذ مني المرأة الوحيدة التي أحببت و أنت متيقن أنني كنت لا أتنفس الا لأجلها، ومع ذلك حافظت على هذه الأخوة وانسحبت من حياتك بهدوء متأملا انها ستكون سعيدة مع رجل مستقر بعمله مثلك، ولن تعرف ما مرت به أمي بعد استشهاد أبي.
هجرت المدينة و بيتي و أهلي بسبب أنانيتك ولم اعترض، ولكن اتضح لي أنني كنت مغفلا، بتفكير عقيم، فلو أمي تعذبت بسبب وفاة أبي إلا أنها جمعت رصيدها من ذكريات الحب و عشق رجل لها يكفيها ما تبقى من حياتها. صدقني يا شادي سوف أدمرك، بحق الأخوة التي تتحدث بها اليوم سأدمرك، بحق ما فعلت بمن سكنتني سوف اجعلك تعض أصابعك ندما.
تحرك سيف وانفاسه عالية أثر غضبه، وهو يسحب ندى خلفه خارجا من الكوخ اوقفها أمام السيارة انتزع سترته و ألبسها لها لتقيها من برد هذه الليلة الصاقعة، ألبسها لها بدون كلام، بدون أن ينظر إلى عينيها و كأنه يحمل لها من الغضب ما يوازي غضبه من شادي، كانت نظراتها له كلها توسل، ولكن للأسف لم يكن بحالة تسمح له بطمأنتها.
فتح لها الباب قائلا اركبي.
استقرت ندى على كرسي بجانب السائق، وهي في حالة للاوعي تائهة في هذه التطورات لا تكاد تستوعب الكثير.
استقل سيف سيارته ليقود متجها نحو المدينة ليوصل ندى إلى بيتها.
كانت هادئة صامت لا تتحرك وقد جابت بعقلها مجموعة من الأفكار التي كانت تعصف بها، كيف استطاعت أن تكون بالجبن بماكان، وتحملت الإهانة و الضرب و التعذيب لمدة ٨سنوات، في حين كانت تستطيع الطلاق و التخلص من شادي وبدون أن يتضرر أحد من اسرتها، و لا حتى والدها، لقد كانت غبية في انتقامها من نفسها معللت ذلك بأنها تخاف من ارتكاب والدها لجريمة ضد شادي،هل فقدت احترامها لنفسها لدرجة أنها كانت تقبل استباحته لجسدها دون اعتراض منها؟؟؟ كيف لها أن ترضى العيش دون احترام ولا مودة و لا حب؟
عندما غزت كلمة "الحب" أفكارها استدارة بدون تفكير لسيف، الذي كان يقود سيارته يد على المقود و الثانية يرتكز بها على النافذة وهو يتحسس ذقنه، كان يبدو الغضب على وجهه جليا، هل هو غاضب مني؟؟هذا ما حدثت به نفسها، فقالت: سيف... ليرتجف صوتها وهي تقول هل أنت غاضب مني
لم يجبها سيف و أكمل سياقته، و أن لم ترى علامات الانزعاج على وجهه لأعتقدت أنه لم يسمعها، فاستطردت تستجدي عفوه: سيف أنا آسفة أنا لم أكن أقصد ما فهمته من رافضي العودة معك.
رد سيف بخفوت: اسكتي يا ندى.
- ارجوك سي... لم تكمل ندى كلامها فزعة من صوت سيف العالي وهو يقول بألم: ألم يئن الأوان بعد يا ندى لترحميني؟ اسكتي يا ندى بحق الرحمن أصمتي.
كان قلبها يدق بصخب لم تعد تسيطر على دقاته ولا على تهدأت أنفسها المتسارع و لا على دموعها المنسابت على وجنتيها، لقد بدأت بوادر الاختناق تظهر عليها، وماهية الا ثواني لتتعالا شهقاتها طالبة الهواء و قد ضاقت أنفسها...
أوقف سيف السيارة فزعا من حالتها ليفتح زجاج النوافذ ثم دنا منها هاتفا بعد أن تبين له أنها تختنق لفرط تورتها فهي حالة عصبية عانت منها حلا في مراهقتها: اهدي يا ندى، اهدي يا ندى
خرج مسرعا من السيارة ليلف حولها ويفتح باب ناحية ندى لينزلها من السيارة و يجلسها فوق صندوق السيارة و يتحرك راجعا للسيارة فجلب كيس ليضع فتحته على فم ندى هاتفا" تنفيس بهدوء يا ندى
قالها هو يتنفس بهدوء وهو يأخذ شهيقا وزفيرا مطولان لتتبعه هي بدورها.
وماهي إلى لحظات حتى هدأت ندى وعاد تنفسها طبيعيا، وارتخى جسدها ودموعها تنساب على وجهها بدون توقف، لقد حطمت قلبه حالتها، مد يديه يمسح دموعها برقة قائلا وهو يغوص بعينيها: لما تبكين؟
لم تجب ندى على سؤاله، بل اكتفت بطأطأت راسها، ليستنتج هو أسوء الاستنتاجات لقلبه فقال: أتبكين بسبب طلاقه لك؟ هل ت ت تريدينه؟ قال كلمته الأخيرة بتلعثم كانت وكأنها نطقت بسكاكين قطعت قلبه لا حروف تنطلق من مخارجها.
هزت ندى رأسها تنفي ما تفوه به من حماقات. فتسائل: إذا لما البكاء الآن؟
قالت ببرائة و هي لا تقصد ما أحدثته حروفها القليلة به:لأنني لا أطيق غضبك مني لن أتحمل ابعادك لي بهكذا طريقة.
دنى منها سيف غير مصدقة لما التقطته أذناه يريد أن يسمعها مرة أخرى وهي تنظر بعينيه، ليرى مدى صدقها
رفع وجهها بيده بهدوء قائلا ماذا قلتي: ترقرقت عيناها بالدموع وتحشرج صوتها قائلة بصوت متقطع: لا تغضب مني فأنا رفضت الرحيل معك ليس تمسكا بشادي، وإنما خوفا بترت كلامهامصدومة من نفسها، يا الاهي ماذا أقول؟ هل ستفضحين نفسك أمامه الآن؟ ليس ذنبي فهو من يدفعني لقول كلام ... أخرجها من حوارها مع ذاتها، قوله المتوتر المغلف بالغضب: هل تخافين مني يا ندى؟ هذا ما أثيره بداخلك الخوف. ي......
قطعت كلامه بتسرع لتقول بدون تفكير: لا لا أنا لا أخاف منك بل أخاف من نفسي ومن ما أحمله لك من عش...... سكتت فجأة وهي تستوعب ما كانت تقوله، هل ستعترف له بحبها وهي لم تكمل الساعة بعد طلاقها ماذا سيفكر الآن بها؟!
لقد خطفت انفاسه، لا يصدق نفسه، هل اعترفت للتو انها تحبه؟!هل سمعها جيدا أم أنه يتوهم؟! أولم تكن تمقته بسبب شادي وما فعله بها؟ .
تقدم منها وهي لاتزال تجلس فوق صندوق السيارة حتى لامس جسده هيكلها، ليحتظنها بكل ماله من قوة، حضن حمله تعب السنين، وشوق عاشق أبعد عن حبيبته عنوة ليتجرع طعم البعد والحرمان و الشوق و الغيرة لثمانية سنين لم يعدها من عمره ببساطة لأنها سرقت منه ولم يعشها بل اكتفى بالتعايش معها.
رفعت يديها لتحاوط ظهره لتظمه لها أكثر، فكان رد فعلها هذا على احتضانه لها بمثابةعلاج لكل جروحه التي لم تتوقف عن النزيف طوال السنين الماضية.
قال هامسا بأذنها: لابأس لابأس صغيرتي سأكتفي بهذا مأقتا، لن أطالبك بقولها لي.