..
مجرد فحوصات..
اتجه لقسمه بعدما أنهى حديثه الصباحي المعتاد مع أصدقائه الثلاثة، وما كاد يسترخي بمقعده حتى زفر ضحرا ما إن وقعت نظراته على ذاك الذي يفوقه طولا ببضع سنتيمترات وهو يتقدم بخطواته باتجاهه. ليتحدث بانزعاج واضح ما إن وقف أمامه تماما:
- أنت أخبرني ما الذي تريده؟
ليطلق المعني ضحكة ساخرة قبل أن يجيبه باستصغار: ليس التحدث معك بالطبع.. ثم التفت إلى الجالس بجانب فرانس لتتغير ملامحه الساخرة إلى أخرى هادئة وبابتسامة بسيطة مد يده:
- كتاب الكيمياء الذي أعرتك إياه يوم أمس.
سلمه المعني الكتاب بابتسامة عريضة قائلا: شكرا حزيلا لك كريس لقد استمتعت حقا بمطالعته.
- كنت أعلم ذلك.
ثم عاد إلى مكانه فيم التف فرانس بنظراته المنزعجة نحو الأشقر وقال:
- أنت متى صرت صديقا لذلك الأخرق المغرور؟
ثم أشاح بوجهه نحو الأستاذ الذي دخل معلنا عن بداية الدرس، قبل أن يصدح صوت المدير يطلب من جاكسون أن يحضر حقيبته ويغادر لسبب مجهول أثار استغراب المعني. الذي راح يبحث داخل ذكرياته لصبيحة هذا اليوم عن أي خطأ قام بارتكابه لكنه لم يجد شيئا مثيرا للاهتمام ..
سار في أروقة المدرسة بهدوء إلى أن وصل إلى مكتب المدير أين وجد السيد فيليب في انتظاره.
- من حسن الحظ أنك لم تتأخر.
- عذرا ولكن نحن لم نبدأ حتى بالحصة الأولى، فهل استدعاؤك لي أمر ضروري؟
- أجل طبعا، لقد حددت لك موعدا من أجل بعض الفحوصات.
فحوصات.. فحوصات!! ردد تلك الكلمة داخل ذهنه تزامنا مع ارتسام ملامح الفزع على وجهه. ولم يعلم كيف بدأت إحدى أبشع السيناريوهات بالتدفق داخل مخيلته
"مجرد فحوصات كالتي يقوم بها طلاب المدارس كل عام"
أجل.. لقد أخبروه أنها مجرد فحوصات عادية كالتي يقوم بها التلاميذ كل عام. لكن ماذا عن تلك الأدوات الحادة التي لا أحد يعلم إن كانت معقمة أم لا؟ وذلك الأحمق، لماذا يقوم بغرز سكينه الحادة عشوائيا في خاصرة من تم تقييد أطرافه الأربعة بيننا لا أحد يكترث لا بصراخه المدوي ولا بدموعه المتدفقة. كل ما يهتمون به هو ما سيجنونه من أموال إن قاموا ببيع ذلك العضو الذي يبحث عنه الملايين ممن خذلتهم صحتهم وإيجاده شبه معدوم بسبب انعدام المتبرعين..
- كلا، لست بحاجة لأي فحص أنا بخير كما ترى..
صاح بوجه فيليب الذي ارتبك كرد فعل على صياح الأصغر غير المتوقع ولكنه سرعان ما عاد إلى هدوئه قائلا بنوع من الجدية:
- اهدأ يا فتى واسمعني جيدا أنا لست هنا لأستأذنك لقد حددت لك موعدا بالفعل كما وأن وقتي الذي ضيعته لن أسمح بأن يذهب هباء بسبب رفضك الذي لا مبرر له.
- بلى لدي مبرر وهو أنني بأفضل الأحوال .
- اتبعني دون كلمة أخرى وإلا لن يكون هناك خاسر سواك.
- لكن..
اخرس ما اراد قوله نظرات الأكبر الصارمة، والاي جعلته يخفض رأسه بلا حيلة. ليحل الصمت عليهما طيلة الطريق إلى أن ركنت السيارة عند بوابة المستشفى. وبنظرات راجية، أردف الأصغر بكل ما يملكه من رقة صوت: سيد فيليب، من فضلك أنا بخير أقسم لك أني لست..
توقف عن قول المزيد عندما تجاهله المعني ملتقطا هاتفه وبدأ يبحث في قائمة الأرقام المدونة ليختار أحدها ليرد عليه الطرف الآخر سريعا..
- نحن عند البوابة، حسنا أنا في انتظاركم.
كلماته تلك كانت كالشيفرة صعبة الحل بالنسبة لجاكسون الذي لم يتعب نفسه بمحاولة فهمها. فيما التفت إليه الأكبر ما إن قطع الاتصال ليردف ببروده المعتاد: اعلم أنك أنت من جنيت على نفسك لذا لا تلمني.
ما إن أنهى كلامه حتى لفت نظره رجلا الشرطة اللذان يتقدمان باتجاهه ليترجل آمرا الآخر أن يفعل المثل.
- جيد أنتما لم تتأخرا، هيا رافقاه إلى الغرفة رقم 10 واحكما إغلاقها..
- عفوا!
تمتم باستنكار عندما وجد نفسه محاطا من قبل أولئك الشرطيان، قبل أن يبدآ بسحبه معهما كما يسحب السجين يوم تنفيذ حكم الإعدام عليه..
في مكان آخر، كان ذو النظارة الطبية المستديرة جالسا على كرسي مكتبه الدوار، بينما يطالع ملفات مرضاه المرتبة فوق المكتب بكل تركيز قبل أن يقتحم فيليب المكتب ويدخل. ليرفع نظراته نحوه بهدوء دون أن يعيد تكرار ضرورة طرق الباب طلبا للإذن، لأنه يبدو أنه قد مل من إعادتها في كل مرة..
- لقد أحضرته ومن المفترض أنه قد تم إيصاله إلى الغرفة المحجوزة.
- ماذا عن ملفه الطبي، هل أحضرته معك؟
- وددت أن أفعل ذلك حقا ولكنه لا يملك.
- ماذا تقصد بأنه لا يملك؟ حتى الحيوانات تملك ملفا طبيا فكيف لبشري ألا يملك واحدا؟
- اعتبره حالة خاصة ولأزيدك بعضا من المعلومات الإضافية فأنا قد أحضرته إلى هنا من أجل حصوله على ملف طبي كباقي البشر!
أما بالعودة إلى الغرفة رقم 10، فقد كان حينها جاكسون موجودا فيها، وقد أشعره سريرها الطبي بالغثيان زيادة عن شعوره بالغضب جراء إقفالهم الباب عليه..
- افتحوا الباب لماذا تحتجزونني هنا؟ افتحوا الباب حالا..
باندفاع وانفعال صرخ ليهجم على ذلك الباب مرتطما به بجسده بكل قوة محاولة بائسة منه لفتحه أو تحطيمه أيا كانت الطريقة. المهم بالنسبة له كان ألا يعود إلى السجن مجددا دون سبب!
لكنه فقط أشى نفسه وما ارتطم من جسده بذلك الباب متين الصنع، ورغم تعبه الذي بلغ دروته وقد بان بوضوح على ملامحه إلا أنه أصر على عدم الاستسلام إلا حين فقد كامل طاقته. فانهار جالسا على أرضية الغرفة، وحينها فقط بعد لحظات قليلة تحرك مقبض الباب الذي فور أن فتح حتى وقف وتراجع سريعا ما إن ظهر فيليب رفقة ذو النظارة الطبية المستديرة والذي كان يبدو في مثل عمره ربما. ذا شعر أسود مجعد، لديه عينان سوداوان فوق زيه الرسمي ارتدى معطفا أبيضا يصل إلى الركبة..
فور أن باشر هذا الغريب بالتقدم حتى ظهر فزع واضح على ملامح الأشقر، فراح يتراجع بخطواته المرتبكة نحو أبعد ركن بالغرفة، آخذا إياه كملجأ آمن بيننا يردد بتوتر:
- لقد أخبرتكم أنني بخير لماذا لا تصدقونني؟
- لا داعي لكل هذه الجلبة يا جاكسون إنه..
تحدث فيليب بهدوء بينما يتقدم إليه هو الآخر.
- لست غبيا، لا يرتدي المعاطف البيضاء سوى الأطباء..
صاح وقد ازداد التصاقا بالحائط فور أن صار الطبيب يقف أمامه مباشرة.
- أجل، أنت على حق أنا طبيب..
- ابتعد عني.
قاطعه جاكسون صارخا، بينما يقوم بدفعه بكل قوة من أمامه ولكن دون جدوى، فقد أحكم الطبيب إمساك يديه اللتان
بدتا حقا ضعيفتين:
"دعني فقط، من فضلك.." شبه متوسل تمتم بذلك وقد
أصبحت عيناه الخائفتان تلمع منذرة بإمكانية هبوط بحر من الدموع ليحن قلب الطبيب الذي خفّف من قوة إمساكه محاولا
تهدئته: الأمر لا يستحق كل هذا الرعب إنه مجرد فحص كي تحصل على ملف طبي.."لا أريد!"
هتف دافعا إياه عنه، وقد نجح هذه المرة بذلك.
ورغم أن الطبيب قد تراجع بخطوتين إلى الخلف، إلا أن جاكسون لم يتمكن من الفرار كما كان يريد. فقد تمكن منه فيليب الذي
أحكم إمساكه، حيث أنه على عكس الطبيب لم يتأثر بخوفه غير المبرر الذي اعتبره دلالا وحماقة. فجعله يتسطح عنوة متجاهلا
هتافاته المثيرة للشفقة وسط بعض الدموع التي لم يستطع كبحها..
- ابدأ عملك أنت بسرعة..
صاح بسخط مخاطبا الطبيب الذي اعتذر مرتبكا، بينما يلتقط من جيبه حقنة المهدئ التي كان قد جهزها مسبقا تحسبا
لأي أمر، وغرسها دون تفكير في ذراع الفتى الذي سرعان ما استسلم للنوم. فيما شرع هو بفحصه أمام نظرات فيليب المترقبة.
- إذا!
مستحيل أن تكذب العينان، وهو بالفعل قد رأى ذلك أمامه مباشرة لكنه فقط ألقى سؤاله على مسمع من عدل نظاراته الطبية المستديرة ليبلع ريقه قبل أن يجيب: جسده ضعيف.
- أعلم بهذا مسبقا.
- ولم تقم يوما بأخذه للفحص؟
- رجاء توقف عن اللف والدوران وأخبرني بالأهم بدلا من هذه الأمور الجانبية.
-الحقيقة هي أنني لا أعلم بماذا أبدأ بالضبط لأن حالته يرثى لها.. ولكن جديا فيليب لقد كان أمامك طوال أربع سنوات وأنت
تعلم أنه صغير كيف لك أن تتركه رفقة المجرمين؟ لقد مارسوا عليه شتى أنواع العنف وأيضا أعتقد أنه قد أجرى عملية استئصال كلية ولكن الغريب في الأمر..
- لا يبدو فاعلها جراحا ماهرا، أليس كذلك؟
- بل لا عالقة له بالطب من الأساس، إنه لمعجزة أن يكون حيا بعد كل ما مر به.. وهناك أمر آخر لماذا تعامله بهذا الجفاء؟ إنه إنسان أيضا ألست محقا؟
- الطيبة الزائدة لن تنفعه خصوصا وأن بسبب سجله الجنائي سينبذه المجتمع ومعاملتي له ببرود أو بحنان لن تغير من الحقيقة شيئا.
- عن أي حقيقة تتحدث؟ إنها مجرد حقائق مزيفة.
- مزيفة لكن لا مهرب منها.
- وما ذنبه هو ليعاقب؟
- ذنبه أنه تواجد بالمكان الخطأ والقانون لا يقف في صف المغفلين..
- وماذا عن ذويه لماذا لم يقدموا أي بالغ عن الأمر حتى الآن؟كثير من التساؤالت خطرت لحظتها على الطبيب الذي جعل فيليب يقرر تجاهل الإجابة. غير أنه في قرارة نفسه، يعلم ويدرك
جيدا حجم خطئه في حق هذا الفتى ولكنه حسب ظنه معذور فهو لم يكن أمامه أي خيار عدى التزام الصمت. خصوصا وأن الأمر قد أتى من السلطات العليا. وقد حرص طيلة مكوثه خلف القضبان على حمايته من توحش المجرمين بل وخصص له زنزانة خاصة به، كطريقة في التكفير عن ذنبه.- دعنا من هذا وأخبرني المخدر لم يكن مركزا، أليس كذلك؟
- حسنا لا أعتقد أنك ستنتظر كثيرا لن ينام لأكثر من خمس ساعات.
- ماذا؟ لدي اجتماع مهم وأنا لا أرغب بتفويته لماذا فعلت هذا أيها الأبله؟
_____________________________
.. يتبع ..
أنت تقرأ
لعبة الحياة (ما قبل البداية)
Mystery / Thriller".....حتى اليوم الذي نصبح فيه قادرين على اللقاء مرة اخرى" قطعت وعدا على نفسي أن أحرص بشدة على تنفيذ الأمر بالحرف الواحد انتظرت طويلا بنفس الابتسامة والأمل الكبير، لكني لم أدرك سوى متأخرا أن اللقاء لن يجمعنا مجددا حتى لو مضى عدد لا يحصى من الليالي وا...