هذا اول ايامي بلا فاطمه ابنة عمي وصديقتي التي قاسمتي ايام الطفوله ؛ افتقدتها ولكن حين عادت اصوات الطائرات حمدتُ الله انها ليست معي لكي لا ترتعب ولا تخاف ولا تشقى ؛ فسماع صوت الطائرات كأنه شرب كأسٍ من الموت بدفعات متناوبه ؛ ولكنها شربته دفعه واحده فسكنت جوارحها وهدأت آلامها ؛ إما نحن فلاتزال جروحنا ملتهبه ولا يزال الدمع يحفر بوجناتنا شقوقا وكأنه يؤسس نهرا ؛ اطلُ على النافذه من غرفتي في الطابق الثاني ؛ فأرى جزءا من الشارع ؛ يرعبني المشهد ويعتصرني الالم ويُبتنى جرحٌ جديد في وسط قلبي الصغير ؛ فها هي مدينتي يحتضنها الموت من كل جانب وكأن العالم المُتفق على أن لا يتفق اتفق اليوم ليكسر قلبي ؛ ها هو شارعنا الذي لطالما مشينا فيه ذهابا وايابا لبيوت جيراننا ... قد أُستُبدل الشارع بنهرٍ من دماء واستُبدلت بيوت اغلب جيراننا بكومه من ركام يعلوها الحريق ؛ اغمضت عيني لانتزاع الذكريات ولرؤية هذا الشارع قبل عام ؛ فطفتُ بذاكرتي التي اعادتني الى يوم مميز وهو يوم خطوبة اخي (عمر) و (دنيا) ابنة الحاج احمد إمام الجامع ؛ سحبتني امي بسرعه لاذهب معها لشراء زينة الاحتفال وبعد وخروجي من البيت تذكرت أني لم اضع النقاب فقلت لامي وقد كنت ابكي ؛ فردت: لا بأس ارتديه في يوم اخر، نحن على عجله ..
فتعكر صفو مزاجي وقد اخذ مني الغضب مأخذا فهي تعدني طفله وانا فتاة كبيره ؛عمري كان ٩ سنوات واريد ان ارتديه مثلها ؛ وحينما كنا سائرات لنشتري بَصُرتُ احد الاخوه العاملين في الحسبه ؛ فأفلتُ يد امي وركضت اليه ؛ واخبرته قائله : امي لم تمهلني لالبس النقاب .
فتبسم قائلا : يالله ؛ احقاً هكذا ؟
فقلت بلهفه : نعم واللهاسرعت امي وقد ادركتني وقالت: ما بك تركضين ؟
فقال الاخ موجها حديثه لامي : يااخت امهليني لحظه واعود بارك الله فيك .فذهب وعاد بنقاب جديد واعطاه لي متبساً قائلا : اثبتي فمنكِ تصلح الأُمه.
.
.
اقتطع تذكري صوت بكاء امي فركضت نحوها لافهم ما الامر الذي زاد وتيرة بكائها المتواصله ؟ ... ما الامر الذي اشعل نيران الاذى في فؤادها ؟ ..
ثم اردت ان اسأل فخفتْ ؛ نعم خفتْ ؛ اخاف ان تخبرني ما بها ؛ فإن كان الامر يبكيها فحتما ان الامر ذاته سيهدم ما تبقى مني ؛ كانت اختي (فرح) تصرخ من الرعب بسبب القصف من جهه ونحيب امي من جهه اخرى فقد كان عمرها ٦ سنوات ؛ لم استطع الصمود بلا ان اسأل فقد بدأت الافكار السوداويه تأكل عقلي ؛ فسألتها : من صار جثه ؟(في داخلي كان السؤال : .. من ذهب الى حيث ربٍ كريم ، تاركا ارض اهلها لُئام ... من فارق الارض المشتعله هذه ؟ .. من الذي نجى من هذا الدمار؟)
شهقت وانتهدت واتخذت نفسا عميقا وصرخت : يا الله رحمتك ؛ حسبي انت يارب ونعم الوكيل... يا الله إنا نستغيثك ...
لا يزال السؤال يُخييم بسوداويته على عقلي ؛ من رحل يا ترى ؟
ثم اجابت امي : رحل زوجي ... رحل حبيبي .. رحل ابوك .. رحل من احببتُ .. لقد انتزعوا قلبي يا حياة .. انتزعوه من بين اضلعي ؛ لقد فارقنا وتركني اكتوي بنار الفراق ؛ ما كنت لاتمنى ان اعيش بعده يوما واحدا ؛ كنت ارى بعينيه واسمع باذنيه واتلمس بيديه ... انا التي ماتت وليس هو ... احتاج ان ابكي على روحي التي فارقتني دهرا كاملا لعل الدموع تُطفئ بركان صدري ولوعة حزني ... حسبي الله ونعم الوكيل ... حسبي الله .. إنا لله وإنا إليه راجعون .
تجلس امي ع الارض مُنهاره وانا واقفه امامها وكأنني شبح ؛ او كأنني لم اسمع ما قالت ؛ هل انا في كابوس ؟
هل ساصحو واجد ابي لجواري يظفر لي جدائلي ويستمع لاقصوصات لعبي ؟!
هل ما قالته امي حقيقي ؟
أَذهب ابي عند فاطمه؟ ... أمعقول انه يتركني ويذهب لها ؟
اغمض عيني وافتحها واعيد الكره مئة مره لعلي استيقظ ؛ لِمَ لا استيقظ ؟ ..
ما بال هذا الكابوس يسرق مني ابي ؛ يسرق مني لحظات يجب ان تكون معه ؛ يسرق مني رؤية عينيه الحانيه ... ينتزع مني لحظاتي معه وتقبيل يديه ...
ثم فجأه افقد كل احساس كل الم كل شيء... فأقع ع الارض بلا شعور واغيب عن الوعي بل اغيب عن الحسره للحظات ثم افتح عيني لاجد جاراتنا تمسح وجهي بالماء ؛ فأفز من مكاني ضاحكه ؛ كنت اعلم انه حلم !!
ابي لم يفارقنا اليس كذلك ؟
لقد كان كابوس وها انا قد صحوت ..
اليس كذلك ...فتنظر الجارات احداهن الى الاخرى بألم ويحاولن تهدأتي ...
فأغيب بفكري عنهن واغوص بذاكرتي لاسترجع المواقف مع ابي لعل الذكرى تساعدني فينطفأ بعض من ذاك اللهيب في صدري ...
واعود بذاكرتي الى ١/رمضان من العام الماضي ...
قبل اذان المغرب بساعه ...
تُعِد امي المائده وقلبها يخفق فالشوق الى اخوتي وابي قد فاق حده ؛ إما انا لم أعد أعلم إن كنت أتحسن أم أنني تعودت على هذا الألم ...
دخلت علينا دُنيا وقد اوصلها اخوها اياد وادخلت دفقات من السعاده في آن واحد...
تدخل راكضه الى امي لتحتضنها احتضان الابنه لأُمها قائله : ابشري... انا حامل بشهر...تُكبر امي وتسجد لله فرحا وتفيض عينها دمعاً ؛ في الواقع لا اعرف كيف تكون امي هكذا ؛ مُرهفة بإحساسها ؛ تتأثر بالنسم والهمس ؛ وفي الوقت ذاته قويه كالجبال لا يزيحها شيء عن عزمها....
إما انا فقد تحسر فؤادي على غياب اخي عمر واريده ان يأتي حالا والان لكي يفرح ؛ فأنا لا افرح الا حين يفرح ؛ عجزت عن الابتسامه في غيابه ؛ عجبا له واشد العجب كيف يُفضل تلك البندقيه علينا جميعا ؟!!
كيف يفعل هذا ؟... كنت اود لو امحي بندقيته التي تشاركني فيه بكل كبرياء وكأنها تعرف إنها اغلى مني فتغيضني في دهاء وتتدلل في يديه تدلل الحوريات ، يبدو انها فعلا ذات حظٍ عظيم ؛ ليتني اياها فأذهب واغدو مع اخي ولا يعتصر فؤادي فراق .
جاءنا اخي بعد ١٥ يوم ليُبشر بهذا الخبر فلم نشأ ان تفوتنا رؤية عينيه حين الفرح فأردنا ان نبشره نحن حين يكون معنا ...
استبشرت عينيه وهبَّ من مكانه قائلا : الله اكبر وله الحمد ؛ سأصبح ابا ... سأعلم ابني القران .. نعم سيكون حافظا لكتاب ربه ؛ سيحمل السلاح ويكون عاشقا للبندقيه ؛ سيدعو لي من يراه مِن المسلمين ...
فترد امي : بإذن الله سيكون مثلك يا بني .فقلت في غيرةٍ تغمرني من الجنين وقد خشيتُ ان يأخذ مكاني في قلب اخي : وماذا لو جاءت بنت ؟
فجرني اخي اليه مبتسما : ستكون كعمتها ذات دهاءٍ وذكاء ..
قطع تذكري صوت باب بيتنا الذي يقف اياد (اخو دنيا) خلفه قائلا لي: دنيا وَلدت ولد .
وتسائلت حينها هل الموت من رحم الحياة ام الحياة من رحم الموت ؟
ولم اعرف شعوري حينها ... بين فقد وقلق وفرح ..
فذهبت الى امي وجاراتنا اللاتي عندها راكضه ... لعل الخبر يُحيي ذره من قلبها ... ولكن حين دخلت الى الغرفه لم يكن الامر كما تخيلت ؛ بل كان الموت الزؤام قد زارنا مره اخرى ؛ يبدو انه ضيف ثقيل بحيث يغادر اصحاب الدار ويبقى هو ....
.
.
يتبع
أنت تقرأ
ما بَعْدَ القَصفْ
Randomفلوجية الاصل ؛اسمي ( حياة ) سيكون عمري ١١ عام بعد اسبوع ان شاء الله ... اروي لكم حكايتي املاً بأن تصحوا من غفلتكم. يا من نمتم كثيرا حين كانت عيني لا تغفو .. يا من ضحكتم كثيرا حين حفرت الدموع وجنتي.. اقدم لكم قصتي لعلكم لي تصغون . #قصه_حقيقيه تم تغ...