١- الفأرة

231 8 0
                                    


". . . أرى الغدر في عينيك . . ."

. . . . . . . .

انتفض جالساً بقوةٍ متسع العينين وألمٌ بالغ ينبع من جانب رأسه بنبضٍ متسارع حتى طال الصداع مؤخرة رأسه وجبينه واعتصر عينيه.. أغمض عينيه بقوة زافراً وقد أدرك أنه كان نائماً.. أنه رأى كابوساً.. مجرد كابوس.. لكن سرعان ما فتح عينيه عابساً بشدة وهو يستعيد ذكرى ما رآه للحظاتٍ قصيرة أثناء نومه.. رأى وجهاً يظلله السواد.. وعينان تلتمعان وسط الظلمة.. عينان مبهمتان، يراهما ولا يكاد يراهما، ولا يعرف إن كانتا لرجلٍ أم أمرأة.. بالغٍ أم طفل.. لبشرٍ أم غير ذلك.. ومن ثم سمع الصوت الحاسم الحازم يقول تلك الجملة التي أيقظته من نومه العميق "أرى الغدر في عينيك.."

ظلت تلك الجملة القصيرة تتردد في عقله وكأنه يسمعها بصورةٍ متكررة في هذه اللحظة.. وطار النوم من عينيه فيما بدأت يده ترتجف بقوة حتى اضطر لأن يشدّ عليها مكوّراً قبضته.. لم يكن ارتجاف يده بسبب الخوف، بل بسبب التوتر الشديد الذي شعر به.. لم يكن ذلك حلماً، ولم يكن كابوساً.. كانت رؤيا.. كانت نبوءةً بالأصح.. وهو يعرف تمام المعرفة لمن عليه التوجه بحثاً عن تفسيرٍ لهذه الأمر..

لم تكن الشمس قد أشرقت بعد، لكن طلائع الفجر الوليد قد تبدّت في الأفق بالفعل.. ارتدى ثيابه العادية بعجالة، وخرج من القصر الفخم الذي يعيش فيه مع عائلته، والذي تحيط به حديقةٌ غنّاء مزهرة لا تقل في جمالها عن حدائق القصر الملكي.. رأى عدداً من الخدم يعملون بهمّةٍ ونشاط في أرجاء القصر والحديقة الملحقة به للانتهاء من أعمالهم اليومية قبل استيقاظ أصحابه، لكن في غمرة أفكاره لم يكلف نفسه عناء النظر لأحدهم أو رد تحيته ولو بهزة رأس.. تجاوز الحديقة راجلاً يجدّ الخطى عبر طرقات المدينة الغافية نحو منزلٍ يقع في جانبها غير بعيدٍ عن بيته.. منزلٍ بني في أعلى نقطةٍ من هذه الأرض، على هضبةٍ ذات أشجارٍ كثيفة، فأصبح يشرف على المعبد القريب والأحياء التي جاورته وجانباً كبيراً من المدينة بسهولةٍ تامة.. وكأن صاحبها فضّل احتلال موقعٍ يمنحه أفضليةً على بقية سكان المدينة.. وهي أفضليةٌ معنوية بالدرجة الأولى..

تجاوز الدرجات التي تعتلي الهضبة المقام عليها المعبد الرئيسي في المدينة، ثم ترك البناء العالي ذي الأعمدة المزخرفة بلونٍ كهرماني برّاق يلفت الأنظار، وسقفٍ من القرميد الأحمر يعلوه نسرٌ فارد الجناحين مغطىً بشرائح الذهب الرقيقة التي تعكس ضوء الشمس فيبدو بارزاً من مبعدة.. سلك الدرجات التي تقع خلف المعبد، والمؤدية لمنزلٍ على شيء من البساطة بحجمٍ صغير وحديقةٍ محدودة.. كان المنزل يقع في جانب الأرض الخاصة بالمعبد، وحُرمته من حُرمة المعبد بالفعل.. وهذا إن دلّ على شيء فيدل على مكانة صاحبه في هذه المدينة..

سار مجتازاً الحديقة الصغيرة نحو الباب المفتوح غالباً، والذي لا يكاد يتم إغلاقه إلا في ساعاتٍ معدوداتٍ كل ليلة، فاجتاز الباب دون طرق ودون أن يكلف نفسه التنبيه بوجوده.. وأول ما وقعت عليه عيناه حينما اجتاز الباب كانت فأرةً صغيرةً انزوت في جانب المنزل، والتي انتفضت بصورةٍ واضحة عندما لمحته.. لم تكن تلك فأرةً حقيقية، لكن ذلك الوصف هو أوجز وصفٍ لها في عينيه منذ رآها لأول مرة قبل سبع سنوات، ومنذ دأب صاحب المنزل على مناداتها بهذا اللقب أمام الآخرين..

الغدر في عينيكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن