كان الصباح قد استسلم إلى شمس الضحى في اليوم التالي قبل أن تطمئن السيدة لوبلان إلى أن جولي قد زودت بما يلزمها من الطعام و الشراب و الكتيبات و التعليمات التي تمكنها من السياحة يوماً كاملاً، و جلست جولي في أمان خلف عجلة قيادة سيارتها و أخرجتها من الممر. لم تكن جولي تعرف وجهتها رغم الأماكن العديدة التي رشحت لها، و كان الجو ينبئ بطقس يميل إلى الحرارة. لذلك فضلت ألا تتجه نحو زيارة المتاحف. و اختارت أن تسلك الطريق الجانبية التي تحيط بسانت مارتنفيل، و تستكشف الطبيعة من منظور آخر غير القيادة على الطرق العامة. و كانت تعتزم التوقف فيما بعد، عندما يحل جو المساء اللطيف أمام المنتزه العام الذي يحمل اسم لونغفيلو.
و سلكت طريقاً يتجه من المدينة شرقاً و تركت وراءها سانت مارتنفيل. كان الطريق خالياً و تركت سيارتها تسير بالسرعة التي أرادتها تبطئ عندما يشد عينيها منظر يثير الاهتمام و تسرع لتجعل الرياح المتولدة عن حركة السيارة تداعب وجهها. كانت مزارع قصب السكر تنتشر في المكان و بعض جذوعه تعلو فتظلل السيارة، بينما بعضها الآخر لا يكاد يصل إلى النافذة. و انتشرت على جانبي الطريق منازل لم تكن تختلف في مظهرها عن امتثالها في مسقط رأسها، مع ذلك كانت من وقت إلى آخر تلمح بيوتاً تتكون من طابقين و قد تراجعت إلى الداخل بعيداً عن الطريق تاركة أمامها مرجاً أخضر يشقه طريق يؤدي إلى البيت تحدده صفوف من أشجار البلوط. و كانت تخفف السرعة في محاولة للعثور على أية محاولة للعثور على أية اشارة عن كاميرون هول، و لكنها كانت تصاب دائماً بشئ من الاحباط.
و استسلمت لرغبة استولت عليها تدفعها للقيام بشئ من المخاطرة. و تركت الطريق المرصوف إلى آخر تغلب عليه الأصداف البحرية، و زادت كثافة مزارع القصب على جانبي السيارة حتى أحست بأن جذوعه البارزة تكاد تبتلعها.
و بدت بعض أغصان الأشجار من بعد تمثل مرفأ الأمان بعد مزارع القصب الممتدة. و توارت جذوع القصب لتفسح مكانها لأشجار البلوط ترتفع في كآبة من مستقرها المائي تغطي أغصانها الطحالب الاسبانية. و بدت الزنابق المائية الجميلة تتصارع مع الطحالب لتبرز على سطح أوراقها الخضراء التي تستسلم للجزر الصغيرة من أعشاب المستنقعات و الأوراق ذات الرؤوس الناتئة من أشجار النخيل القصيرة بسعفها المروحية الشكل.
و أبطأت السيارة سيرها لتلقي جولي نظرة على الحياة البرية في المستنقع. و سمعت بعض الطيور تصفق بأجنحتها و لكنها لم تر أثراً للحياة. و خاب أملها فقد كانت تحلن برؤية تمساح بري و أقنعت نفسها بأن ذلك مستنقعاً صغيراً، بل مجرد مصفاة لا يمكن أن تأوي تمساحاً نظراً إلى قربها من مناطق السكن و على بعد أقدام أخرى كان المستنقع قد تحول إلى أرض للمرعى، و بدت قطعان الحيوانات ترعى العشب الكثيف في منظر لم تألفه جولي. و كانت تظن أن تلك الماشية تكثر في المناطق البرية من الولايات المتحدة، لا في ولاية لويزيانا.
و استدار الطريق في منعطف سهل حول المراعي و وجدت جولي إن على الجانب الآخر من الطريق خطاً متعرجاً من الماء سرعان ما اكتشفت أنه رافد كانت أشعة الشمس تسطع فوق سطحه بشكل جعله يعكس صفاء منظر هادئ. و كانت هناك رافعة تجرف من الشاطئ المقابل حيث كانت أغصان شجرة البلوط تتدلى فوق الماء.
و خطر لجولي أنه مكان رومانتيكي تسعد فيه بتناول طعام الرحلة الذي أعدته السيدة لوبلان. و كان هناك مدخل لبوابة على الجانب الآخر من الطريق يدعوها إلى أن تستفيد منه كموقف للسيارة حتى لا تعيق المرور، فأحسنت الاستفادة منه. و عبرت الطريق تحمل على احدى ذراعيها سلة الطعام و السجادة الصغيرة، و تحمل الذراع الأخرى الترموس و حقيبة يدها. و قفزت عبر حفرة مليئة بالماء كانت تفصل الطريق عن الرافد دون أن تزل قدمها أو يسقط شئ من يدها.
كانت وطأة حرارة الجو تنتشر عبر المكان، و كانت أي حركة تبدو بطيئة واهنة تشبه قوائم الرافعة التي ترتفع و تنخفض في وهن شديد. أما أصوات الطيور فقد خرست، و حتى صوت الماء الخافت و هو يعانق ضفة الرافد لم يكن مسموعاً.
و تجمعت حبات العرق على جبهتها لتفترس أطراف شعرها الهشة و تزحف إلى شفتها العليا حتى تسربت الملوحة إلى فمها. و انحنت على العشب القصير و فرشت السجادة الصغيرة و أخذت ترتب الأشياء إلى جانبها. كانت السيدة لوبلان قد وضعت في سلة الرحلة فوطة في كيس من البلاستيك استخدمتها جولي في إزالة آثار العرق عن وجهها، و أحست بالانتعاش عندما بدأت الرطوبة الجديدة تتبخر عن بشرتها.
و أحست بفتحة قميصها القصير المبطن بشريط من البلاستيك تضايقها فجذبت الكمين القصيرين إلى أسفل حتى بدا خط الرقبة مستقيماً من الكتف إلى الكتف. و خفضت رأسها إلى الوراء و عصرت الفوطة فتدحرجت قطرات من الماء فوق كتفيها تسلل بعضها إلى صدرها.
و أخذت عيناها تتفحصان المكان المحيط بها. و على أمتار قليلة كانت هناك شجرة بلوط صغيرة تركزت عيناها على أغصانها العليا و انتقلتا إلى الجذع ثم إلى أسفل الشجرة. و توقفت يدها فجأة عن الاستمرار في عملية الترطيب التي كانت تقوم بها، فقد وقعت عيناها على رجل كان يسترخي هناك. و سرت الدماء في وجنتيها من وقع المفاجأة، فقد كانت عيناه تتفحفانها في جرأة.
و أسرعت يدها تعيد كمي قميصها إلى وضعهما السابق، و أدرك الرجل أنها لاحظت وجوده فنهض على قدميه و خرج من ظل الشجرة ووقف على بعد خطوات منها و لم تملك إلا أن تتراجع إلى الوراء. و تحدث في اغراء قائلاً:"إنه ليؤسفني أن تحجبي هذين الكتفين الجميلتين"
و تسارعت دقات قلبها و امتدت يدها لتجمعا حاجياتها و تلعثمت قائلة:"إنني.. إنني آسفة.. لم أكن أعرف أن أحداً هنا.. سوف.. سوف أجد.. مكاناً آخر"
"لا حاجة بك إلى ذلك فأنل أرحب يأن تشاركيني الاستمتاع بمنظر ذلك الرافد"
كل شئ في صوته المهذب يجبرها على أن ترفع بصرها نحوه، ووجدت نفسها تحدق في عينين لم يسبق لها في حياتها أن رأت مثلهما في القتامة، و كانت تلمعان في استشارة من وراء ظلال رموش قاتمة مجعدة، و كان حاجباه و شعره بلون أسود أشبه بجناح غراب لامع و قد صبغت الشمس بشرته بلون بني يشبه خشب الساج. و لم يبد في ساقيه البارزتين من سرواله القصير أي اختلاف عن لون ذراعيه. كان طويل القامة و جسمه ممشوقاً يعكس انطباعاً عن قوة في ذراعيه دون بروز في العضلات،فيما كتفاه وسيمان عريضان. و لم يكن هناك أثر للترهل في مظهره و كان فخذاه مستقيمان، و عندما ابتسم كشف ثغره عن أسنان بيضاء كاللؤلؤة. و لاحظت جولي الخطوط الغائرة التي برزت على جانبي فمه. و قال:"أعد بأنني لن أضايقك"
و احمرت وجنتاها و قالت و هي تعرف أنها تكذب:"لم يخطر لي أنك تضايقني"
"كان ينبغي أن يخطر لك، فقد أحسست فعلاً برغبة في ذلك"
و ضاقت عيناه في خبث و هما تتفحصانها و هي في وضع الركوع. كانت جولي تتمنى أن تستنشق نفساً عميقاً و لكنها كانت تخشى أن يبدو عليها القلق الذي كان يساورها.و حاولت أن تسترجع ثقتها بنفسها و وجدت الشجاعة من جديد فقالت:"لا أريد أن أقطع عليك خلوتك"
"على العكس"
قال الرجل ذلك و مشى عائداً إلى مكانه أسفل الشجرة في وضع الاسترخاء الذي كان عليه، و استمر يقول:"إن جلوسك لتناول الطعام لن يؤثر على جلوسي لصيد السمك و يمكنك أن تبقي في المكان ذاته"
و امتد بصرها إلى الصنارة و الخيط المستندين إلى عصا قرب حافة الشاطئ و وجدت نفسها تقول في صراحتها المعتادة:"و لكن هذا الوقت من النهار ليس مناسباً للصيد، فالجو حار"
و علق قائلاً:"يبدو أن لك خبرة في الصيد"
و أجابت جولي و هي تبطئ من عزمها على الرحيل السريع:"بعض الخبرة"
و ابتسم في مواجهتها من جديد و قال:"إن لي نظرية حول الصيد في هذا الوقت من النهارأتحبين أن تعرفينها؟"
و قعدت على السجادة الغيرة و قالت:"و ما هي؟"
"أعتقد أن الأسماك الكبيرة الذكية تعرف أن الصيادين لا يخرجون إلى الصيد إلا في أوقات خاصة تتجنبها هذه الأسماك. أما في هذا الوقت الحار فإنها تبحث عن الطعام في مأمن من شباكهم"
أنت تقرأ
سيدة القصر الجنوبي
Romanceسيدة القصر الجنوبي للكاتبة جانيت ديلي الملخص انتقلت جولي من بلدتها في داكوتا الجنوبية حيث اكملت دراستها الجامعية الى لويزيانا بحثا عن جذورها في ما اعتقدت انها منطقة اسلافها القدامى ولدى وصولها ومباشرتها البحث عما جاءت من اجله, تفاجئها , في غابة , في...