عاد إتيان و معه جولي إلى الطابق الأرضي عبر الباب الذي دخلا منه، ثم استدار إلى اليسار بدلاً من أن يسلك الطريق المؤدي إلى سيارتها، و بينما كانا يدوران حول القصر اكتشفت جولي مبنى بدا و كأنه نسخة مصغرة عن المعبد. و صاحت في بهجة:"إنه نسخة مصغرة و مطابقة للقصر"
"تعرف عادة باسم الغارسونييرة حيث كان يسكن عادة الشبان غير المتزوجين من الأسرة"
و فتح الباب ثم وضع يده على كتفها مرة ثانية و اصطحبها إلى الداخل. كانت حجرة واحدة كبيرة تتصل بدرج يؤدي إلى الطابق الثاني و حاجز حديدي يعزل منطقة المطبخ. و كان الأثاث بسيطاً يناسب الرجل. و قادها ضغط يده عليها إلى داخل الحجرة. كانت أشبه بذبابة وقعت في شراك عنكبوت لا تستطيع الخلاص منه. و جاء صوت إتيان في إغرائه و تدليله الرقيق يقترب من أذنها، أو على الأقل تصورت ذلك إذ سمعته يقول:"هل أحضر لك شراباً منشطاً؟"
و خطا نحو المطبخ. و راحت جولي تذرع الحجرة الصغيرة في تردد. و أحست بأنهما قد أصبحا في مكان منعزل مما سبب لها بعض القلق. و شعرت أنه ليس من اللائق أن تكون في منزل إتيان رغم أنها كانت تتجول في بيت جون تالبوت بحرية كاملة. و قدم إتيان إليها الكوب و قال:"عصير ليمون"
و نظرت جولي بحذر إلى عينيه اللتين أخذتا تضيقان، و رأى يدها ترتجف و هي تتناول الكوب فيما كانت رموشه القاتمة المتجعدة تظلل زرقة عينيه.
"هلا جلسنا في الخارج؟ ربما تكونين أكثر اطمئناناً هناك"
قالها و هو يسخر منها، لكن جولي قبلت الاقتراح. و عندما جلسا على الكرسي فوق المرج الأخضر فقدت المحادثة بينهما حرارتها. و قنع إتيان بالنظر إلى البيت الذي يسيطر على المنطقة. و استغلت جولي الفرصة لتتفحصه عن قرب. لم يكن في نظرها الشخص نفسه الذي التقت به من قبل أو خيل إليها أنها التقت به. كات لا تزال هناك رشاقة الحركة و ذلك التناسق الغريزي الذي يميز الشخص الرياضي، و العينان الزرقاوان القاتمتان تلمعان بالبهجة، و الابتسامة تظهر الخطوط الغائرة قرب فمه. و مع ذلك بدا لها و قد مال إلى التراخي و الكسل كأنه شخص لا يأبه للحياة. و اليوم رأت جولي شيئاً آخر. رأت فكه يبرز في تصميم، و أنفه الدقيق يظهر في ارستقراطية تعبر عن الاشمئزاز، و العينين الزرقاوين تضطرمان بالغضب المتأجج، و الشدة القاهرة التي تنبعث و كأنها شذى حوله. و جذب انتباهها كذلك وقاره و تصميمه الحديدي الذي ينبئ بأنه يمكن أن يكون قاسياً متحجر القلب إذا شاء. و سألها و قد أشاح بوجهه بعيداً عنها:"أما زلت تترددين في أن تثقي بي؟"
كانت صورته تنطبع على الأشجار القاتمة أمامها، و أيقن أنها كانت تتأمل ملامحه، قالت:"لو وضعت قرطاً ذهبياً في أذنك لبدا مظهرك كقرصان بارع"
و بدت و هي تحاول إخفاء حمرة الاضطراب الظاهرة على وجهها.
"أقبل ذلك على أنه مديح و اطراء"
و بات يتفحصها. و حاولت جولي أن تتجنب نظراته الثاقبة. و واصل كلامه:"للأسف، إنني رجل فقير لا أمتلك سوى المستعمرة"
و علقت في ما بدا أنها تغير الموضوع:"إن أغلى ما في الحياة متاح للجميع بالمجان"
"أؤكد لك أنك، بطريقة أو بأخرى، تدفعين الثمن لكل شئ"
قالها بشئ من الضحك و الأنفة و الاعتزاز.
"و ما ثمن الحب؟"
قالتها و قد أدهشتها نغالنغمة الساخرة في صوته.
"إن أغلى ما يملكه الرجل.. هو حريته"
و ضحكت جولي و هي لا تدري كيف تعلق على ملاحظته، و قالت:"هل أنت من أولئك الرجال الساخطين الذين يصممون على البقاء دون زواج؟"
"و هل أنت واحدة من أولئك اللائي يعتقدن أن السعادة ينبغي أن تنتهي بالزواج؟"
و رفعت ذقنها في شئ من التحدي، و أجابت:"نعم، ولا. يبدأ بالحب و تستمر بالزواج، و أنا أحب الشاعرية"
"إنك تتحدثين في صدق. و ما هو الحب؟"
و تنشقت نفساً عميقاً، ثم زفرت أنفاسها ببطء و هي تحدق بالشمس الساطعة تغرق البيت في وهج أصفر عميق:"لا أعرف، و لم يسبق أن جربت الحب. و ماذا عنك أنت؟"
"مرات عديدة"
كانت سطوة عينيه الساخرتين قد اتجهتا إليها، و أحست بالقوة الكامنة في رجولته، و تابع:"و هذا هو السبب في كوني لا أؤمن به"
"إذا كانت حريك غالية لديك إلى هذا الحد، لماذا ربطت نفسك بهذه المستعمرة التي قلت أنها تأسرك أكثر ما تفعل أي امرأة؟"
"إنك تنصتين إلى ما يقوله الرجل،و هذه ميزة أخرى نادرة"
كانت عيناه تتفحصانها بنظرة بطيئة و هما تحدقان. و واصل كلامه:"أضناني السفر، و كنت لا أعرف شيئاً عن أجدادي. و هذا المكان كان يحمل اسمي"
"لا أفهم"
قالتها و هي ترفع رأسها متسائلة. و ضحك و قال:"سوف أطلعك"
و وضع كوبه على الأرض في الرواق المكسوة بالآجر في الغارسونييرة، و فعلت جولي الشئ نفسه. و امتدت يده ليعاونها على هبوط درج الرواق الضيق. و أحست بضيق لأنه يرفع الكلفة معها في سهولة. و لم تستطع أن ترد بالطريقة ذاتها من عدم الاكتراث. كان إتيان يحيرها. كان لغزاً بالنسبة إليها و لم تستطع أن تمنع خاطراً طرأ لها عما جعله يعامل النساء بذلك الحذر. و عادت تفكر أنه ليس حذراً لكنه تحرر من الوهم. و كان طبيعياً أن الرجل له جاذبيته الكبيرة تجتمع النساء حوله كما يجتمع الذباب على عسل النحل و ربما نشأ احتقاره للنساء من كثرة ألفته بهن. أرادت حولي أن تقطع الصمت الذي ساد و هما يسيران فقالت:"إذا كنت أحسست بالحاجة إلى الاستقرار فهل فكرت في أن يكون لك أطفال؟"
و ألقى عليها نظرة جعلت أحشاءها تضطرب. و استقرت عيناه على شفتيها فترة أطول قليلاً مما تحتمل، و فكرت كيف يكون الحال لو عانقها. و كانت تعتقد أن له خبرة كبيرة في المغازلة. و قال:"و لكن الأطفال ليسوا مجرد نتاج للزواج"
و كان وراء ابتسامته شئ كثير من الخبث جعل جولي تدرك أنه كان يحاول أن يصدمها. و احتفظت بهدوء صوتها في الدرجة التي لا تصل إلى توبيخه أو السخرية. و قالت:"من الأفضل للطفل أن يولد في ظل الزواج"
"إنك تتحدثين الصواب دائماً"
و توقف إتيان و توقفت جولي. و كانت يده تضغط على ذرعها كأنها تصدر أمراً لتبقى حيث كانت، بينما سار هو إلى شجيرة مزهرة و قطع زهرة كبيرة بيضاء قربها من أنفه ليشم عطرها قبل أن يقدمها إليها. و عندما أطبقت أصابعها على يده لتتناول الغصن الصغير لم يفلت يدها على الفور بل أخذ يضغط عليها لتبقى و قال في صوت أجش:"إن الفضيلة ينبغي أن تنال المكافأة دائماً"
و اختلست نظرة إلى رموشه من وراء نقاب رموشها و بدا أثر ابتسامة كان قد كبحها، و أخذ يتطلع إلى المنظر الممتد أمامها. و كانت ذراعه حول خصرها تدفعها إلى الاقتراب من المرآة العاكسة. كان هناك عمود عتيق تنتشر عليه بعض البقع أقيم وحيداً قرب الماء، و كان نظيره يرقد في كومة من أنقاض الحجارة و بقايا النقش وسط الأعشاب الطويلة. و في المكان كان المدخل الأمامي للمستعمرة، و كان يشبه البوابة التي دخلت منها جولي و لكنه قد تحول الآن إلى أطلال. و قادها إتيان إلى العمود القائم في هدوء و قال:"هذا ما جعلني أتخذ القرار النهائي بشراء المستعمرة"
راحت جولي تشاركه التحديق في العمود حيث كانت هناك حروف باهتة محفورة بقيت رغم فعل الزمن. و كانت متآكلة لدرجة أن جولي استغرقت بعض الوقت لتقرأ الكلمة:"كاميرون"
و نطقتها في نعومة تكاد لا تسمعها الأذن و هي تمعن النظر خشية أن لا تكون كذلك. و باتت تحدق في اتجاه القصر المنتصب بكل فخامة بين أشجار البلوط الضخمة قبل أن تستدير إلى إتيان و دموع الفرح تملأ عينيها:"لقد وجدته!"
كان صوتها خاطفاً، حاداً و مفعماً بالعاطفة، و واصلت:"لقد وجدت كاميرون هول"
أنت تقرأ
سيدة القصر الجنوبي
عاطفيةسيدة القصر الجنوبي للكاتبة جانيت ديلي الملخص انتقلت جولي من بلدتها في داكوتا الجنوبية حيث اكملت دراستها الجامعية الى لويزيانا بحثا عن جذورها في ما اعتقدت انها منطقة اسلافها القدامى ولدى وصولها ومباشرتها البحث عما جاءت من اجله, تفاجئها , في غابة , في...