الخامس "محمود"

41 9 6
                                    


كان يوم جديد في قسم 717، أعتقد أن الأمور تزداد غموضة ليست تزداد وضوحًا، كانت ليلة أمس هي ليلة لم أنم فيها دقيقة، حاولت أن أُفكر في خطة لأعرف الكثير عن مرضى ذاك القسم، أفكار كثيرة راودتني وسأحاول تنفيذ إحداهن، قطعني تفكيري أثناء مروري بجانب غرفة "دعاء" وكان هناك صوت بداخلها، صوت فتى آخر ، فطرقت الباب ودخلت،
كانت دعاء تجلس مع فتى مظهره في منتصف الثلاثينات من عُمره، بشرته سمراوية كبشرة مصري أصيل، كان الحديث بينهم يبدو كوميديًا ،فهما الاثنان يضحكان بصوتٍ عالٍ.
اقتربت فرحب بي ذاك الشاب، ودعتني دعاء للجلوس، فجلست وسلمت على دعاء التي لم ترحل عن تفكيري منذ آخر مرة،،
قطع محمود الصمت وقال* يبدو من الرداء الأبيض أنكِ طبيبة*
قلت * نعم*
قالت دعاء * هذا محمود، صديقي منذ أمس فقط *
قلت بدهشة * أعتقدت أنكم أصدقاء منذ زمن*
قال محمود * حاولت أن أُصادقها منذ دخولي إلى المصحة ولكنها ترفض، *
قلت * تحتاجين إلى من يُحبك وتغلقي الباب في وجه الجميع؟، كيف تغلقين بابِك ثم تقولين لماذا لا أحد يدخل عليّ، لماذا أنا وحيدة؟ *
قالت دُعاء* أحب الصداقات وأخاف الخُذلان*
قلت * الخوف لا يمنع وقوع الحدث ولكنه سيمنع الحياة *
قالت* أحسنتِ، وهل لي أن أنام الآن؟ *
قال محمود* هيا بنا يا طبيبة نكمل حديثنا في الخارج*
تركنا الغرفة وأنا بداخلي بركان من هذه الفتاة التي ترفض الحديث، وتريد أن نساعدها، كيف سنساعد شخص يُفضِّل الهروب من حل مشكلته؟
قاطعني محمود * هل لي أن أُخفي معكِ سر أيتها الطبيبة الجميلة؟! *
قلت * بالطبع نعم واسمي هو ليلى *
قال *أريد أن أُدخن الحشيش فهيا بنا إلى الحديقة*
قلت* أأنت مِثل أولائك الذين يهربون؟ *
ضحك وقال* عزيزتي ،هل عندما جئتِ إلى  غرفة دعاء وجدتيني أبكي على حالي؟ *
قلت * لا*
قال * أنا فقط أعشق أي شيء يجعلني أشعر بالسعادة الحقيقة، أعشق الضحك، السرور، الإحتفال *
قلت * يبدو عليك أنك شخص بشوش *
قال وهو يدخن*نعم، بمناسبة الهروب، هل رأيتي أنني أهرب بسيجارة حشيش فقط؟ هل هذا فقط ما يُسمي هروب؟ *
قلت * لا هناك وسائل آخرى للهروب ولكنك اخترت أن تكون مثل الشباب *
قال وهو يحاول أن يُظهر أنه لا يُبالي* هل فكرتي في يوم لماذا يتجه الشباب إلى المخدرات أو ما شابه؟، ام أنكِ مثلك مثل الآخرين، مثل الآباء، تعاقبين دون أن تبحثي عن سبب المشكلة الأصلي؟، الشباب يا عزيزتي فاض بهم الكيل، أنتن تنادون دائمًا بإسم المرأة ولم أرى في حياتي شخص ينادي بإسم الرجل، إلا قليل، وبعد مصاعب الحياة الكثيرة التي تقع على عاتق الرجل، تقولون لماذا نتجه إلى المخدرات، *
قاطعته* لأننا وُلدنا في مجتمع يُقدسْ الرجل ولا يعرف في الدين إلا "للذكر مثل حظ الأنثيين" وأيضًا "مثنى وثلاث ورباع" عندما يرزقهم الله بإبنه يكرهون ذاك اليوم، يعاملون المرأة على أنها سلعة تُباع لأي رجل خوفًا من العار، ولكن لا يحاولون أن يعلموها معنى كلمة العار، لا يعرفون أن يجعلوهن بنات صالحات، فقط كل ما يعرفونه أن لابد أن تُحبَس إلى أن تتزوج*
قال * نعم أتفق معك، ولكن المجتمع يكره أيضًا أن يرى رجل يشتكي، لن يكون كل هذا مماثل إلى أن يحاول الجميع أن يجعلوكِ بلا قلب، بلا نفسيه، لا أحد يعترف بنفسية الرجال،نحن لدينا طاقة مثل النساء، نحن ننهار أيضًا ونسقط من قمة الجبل إلى القاع، نَحن نُحب، ونتألم ،نحن بشر، ولكن أنتن من حقكن أن تتحدثون عن آلامكن، ولكن نحن عندما نتحدث يقولون أن الرجال لا تتألم، لا تبكي، كُتب علينا أن نعيش بلا نفسية لإرضاء من حولنا *
قد استعطف قلبي بنجاح وقلت * أتفق معك، وأعتقد أن هذا ما نعاني منه إنه ليس فينا، إنما هو في المجتمع، مجتمع خلق لنفسه دستور أحمق، مجتمع لا تعرف كيف تتعايش معه *
قال* نعم أحسنتِ، هل علمتِ الآن لماذا يتجه الشباب إلى المخدرات؟ هذه النسبه الأغلب، *
قلت * أتفق معك ولكن ليس صحيح أن نواجه الفساد بفساد أكبر ،سيتحول الكوكب إلى صندوق قمامة إذًا *
قال* نعم ولكن أحيانًا نحتاج إلى أشياء تجعلنا نرتاح وليس إلى أشياء ذات منطق، *
قلت* وهل عندما تذهبون إلى المخدرات المُشكلات تُحَل؟، أبدًا بل ستكونون مدمنين وأيضًا تعانون من نفس المشكلات، فأصبحت المشكلة اثنتان*
قال وهو يضحك* حقيقةً ، أنتِ على صواب، ولكن الضعف النفسي أسوأ شعور *
قلت *نعم ،وما مشكلتك؟!*
قال*ليس لدي مشكلة، انا أضحك دائمًا*
قلت * لا يُخلق انسان بلا مشكله، أنت تعتقد أنك بخير ولكنك في أسوأ حالات الإكتئاب، الإكتئاب عندما يكون في الإنعزال والبُعد سهل وأمر طبيعي وواضح، أما عندما يكون في صورة أنك دائمًا تحاول إظاهر أنك لا تعاني، أنك في أحسن حال، وأنت بداخلك في أشد حالات الظلام، هنا هو أشد أنواع الإكتئاب، تزال تمارس دورك كإنسان طوال النهار، تضحك، تأخذ كل الأحاديث على محمل الكوميديا، لتتظاهر أنك بخير، حتى تذهب إلى فراشك في آخر اليوم لتكشف كل ما بك من ألم، وعناء، لتتنهد التنهيدة التي كان عليك أن تتنهدها في الصباح وأنت تمزح، والأشد قسوة أن تذهب إلى فراشك فتأخذ منوم حتى لا تواجه نفسك، حتى لا ترى ما بِك من ألم وانكسار، حتي لا تتذكر الأوقات التي كنت تبتسم فيها وأنت تُريد الصراخ *
قال* إنكِ تُبهرينني بأنكِ تستطيعين فهمي، أو فهم مريضك بهذه السرعه، أعتقد كل ما يحتاجه الإنسان أن يُفهَم، أن يجد شخص يفهم لماذا هو عصبي، يفهم ما وراءه من ضغط دون أن يتحدث بحرف *
قلت * أحسنت، وإن هذا إلا ممارسه لعملي، وإنْ أبهرتك اليوم فأنا لم أبهر مريض قبلك، أنا لازلت أتعلم من أخطائي*
قال* نعم،*
قلت* ما هذه المذكرة؟ *
قال وهو يبتسم إبتسامة تجمع بين الشقاء والراحة * أنا كما كان يدعونني أصدقائي كاتب، أعشق الكتابة، فهي روحي التي أعبر فيها عن ما بداخلي من براكين ورعد وأمطار*
قلت * لماذا لم تنتج كتاب حتى الآن؟*
قال* لقد ودعت حلمي هذا، فأنا كاتب مريض، لن يقرأ أحد لشخص مريض، يخافون أن يكونوا مثلي في يومٍ ما*
قلت* المرض النفسي ليس عيبًا، كلنا مرضى، وكلنا تعرضنا إلى الإكتئاب يومًا، لا يوجد أحد سليم بشكل كافٍ في هذه الدنيا *
قال* نعم ،ولكن أنا أغلب ما أكتبه حزين، إلا عندما أحببت فتاة كانت كتاباتي سعيدة جدًا، إلى أن افترقنا عُدت إلى كتاباتي الحزينة، أستطيع أن أضحك وأجعل الجو جميل ومليء بالسعادة، إلا في كتاباتي لا أستطيع، لا أستطيع أن أكتب شيئًا لا يوافق عليها قلبي، أشعر أنها خيانة لروحي، لا أستطيع أن أكتب كتاب عن ١٠ أسباب للسعادة ،وأنا غارق في التعاسة *
قلت * أعلم، هل لي أن أسأل سؤال؟ *.
قآل *على الرحب والسعة*
قلت*لماذا تكتب؟*
قال* لأنني أعلم أن لا أحد يقرأ، ولا أحد يهتم، ومن يقرأ لي فسيكون هو الآخر يواجه ما أواجه والإختلاف بيننا هو أنني أكتب ما بداخله، أُعبر عما يؤلمه لأنه لا يجيد التعبير، أكتب خواطره التي تدور في خاطره، فيندهش أنه يوجد أحد يعبر عما داخله، أو يسعد لأنه هناك يوجد إنسان آخر يشاركه نفس التعاسة، أو نفس السعادة، أكتب وأعلم أن أشباهي هم من يقرأون..*
قلت بتفهم* هناك أمل، لا تكن هكذا *
قال* أعلم وهذا الأمل هو من جعلني أتراجع عن الإنتحار بعد أن أنقذ الله حياتي*
قلت * وهل تعرف أحد هنا؟ *
قال* أنا هنا منذ سنتين، أعرف الأغلب، دعاء، فاطمة، سامر، وتغريد وغيرهم*
قلت* فاطمة وتغريد؟! من؟ *
قال* فاطمة هي طبيبة ولكن اختفت منذ شهور، أعتقد لهذا أنتِ جئتي، كانت طبيبة رائعة، وتغريد هي الأشد خطورة هنا، هي لا تتحدث ،لا أحد يعلم هل هو بإرادتها أم أن المرض النفسي جعلها تفقد النطق*
قلت* ماذا تقصد ب اختفت  الطبيبة؟ *
قال* أعني أنها في الفترة الأخيرة أصبح وجهها شاحب، في حزن مستمر، كانت جميلة للغاية، وفجأة اختفت عن المصحة، سألتُ الأطباء أخبروني أنها في عُطله ولكنها لا تجيب على هاتفها*
قلت * وهل تعرف ما هذه الورقات في غرفة دعاء؟ *
قال * نعم إنها بعض الأغاني القديمة جدًا لا أحد يسمعها الآن وهي في الأغلب غير مصرية  تعبر فيها عن حزنها ولكن بشكل غير مرتب، دعاء نفسها غير مرتبه، فمثلًا عندما تحزن تسمع أغنية حزينة وتأتي بأشد جملة حُزن وتكتبها، وعندما تشعر في نفس اليوم بسعادة تسمع أغنية سعيدة وتأتي بجملة منها وتكتبها ، بالإضافة أنها تحكي مُعاناتها مع الحياة ولكن عن طريق اقتباس أبيات شعر قديمة أيضًا، فلا تفهمي أنتِ أي شيء ولكنها هي الوحيدة التي تفهم*
قلت * إنه موضوع غريب وغير مفهوم*
قال* كل شخص يعبر عن حزنه وإنكساره بطريقته الخاصة *

قِسم ٧١٧حيث تعيش القصص. اكتشف الآن