خوف(الفصل الثالث)

843 75 12
                                    







الخوف...ذلك الشعور الذي بات رفيقنا البغيض في أحلك أيامنا وأكثرها مرارة..حيثما مشينا وأيّ طريق سلكنا يصحبنا وقد ارتسمت على ملامحه القبيحة تلك الإبتسامة الصفراء الساخرة مناظرا إيّانا بعنجهية كما لوكنّا عبارة عن حشرات بلا حول ولا قوة بإمكانه سحقها ومحيها من الوجود حالما يقرر بأنّ الوقت قد حان لذلك..بيد أنّ أصعب ما في إدراكنا هذا حقيقة أنّه قد نجح في مهمته وسلب منّا الشيء الوحيد المتبقي والذي يجعلنا بشرا...أصواتنا...تلك القوّة التي تدفعنا لرفع أصواتنا عاليا دفاعا عن إنسانيتنا..الشيء اليتيم الذي بقي بعد خسارة كلّ غال..الخوف هو قوّة جبارة ونحن نسمح له بإنقضاض على أجسادنا كطفيلي ينمو وينمو إلى أن لا يخلف شيئا وراءه سوى مجموعة فجوات سوداء تتسربل منها أرواحنا لنغدو أجسادا جوفاء تهيم في الأرض بلا أمل في انتظار النهاية...

قد ذاقت الخوف مرات عديدة..إلّا أنّ الغلبة كانت دائما وأبدا من نصيبها..كانت أجسر من أن تدع ذلك الكيان القاتل بأن يسيطر عليها ويسلب ما يجعلها هي..رايا..وهذا ما جعل صاحب الخضراوين يحدّق في مقلتيها الداكنتين المتحديتين بذهول كالمصعوق..من أين استقت هذه الفتاة ذات الجسد الرقيق التي بدا قادرا على الإجهاز عليه بحركة واحدة منه القوة لتنظر إليه بهذا الشكل؟؟ توّقف الزمن لثوان عديدة قبل أن تهمس له بهدوء من دون أن تحيد بعينيها عن عينيه :"أنا من ضمّدت لك جرحك هذا الذي أشعر به ينزف من جديد" كسرت كلماتها تلك التعويذة التي جمّدت أوصاله لتنحسر جرعة الأدرينالين التي زودت جسده المنهك بالطاقة لحظيا فعاوده ذلك الألم الفظيع الذي خطف أنفاسه فأغمض عيناه بشدة وصدرت عنه شهقة مكتومة ليهوي على الفراش بعنف إلى جوارها وقد بدأت قطرات العرق بالتصبب من جبينه وهو يحاول التقاط أنفاسه باستماتة..اعتدلت رايا سريعا وطفقت بنزع الضماد القماشي على عجل عن جرحه النازف لتلاحظ احمرارا قد أحاط بالجرح على نحو مقلق فتمتمت بسرعة :"لقد عاودك النزيف من جديد..سأقوم بتعقيم جرحك وتغيير ضمادك..تحمّل قليلا" واختفت فرفع جفنيه بإنهاك ليحدق بعينين لا تريان في باقة الزهور الذهبية المضيئة التي تزين سقف الغرفة السكري إلى أن تناهت إلى مسامعه صوت خطوات خفيفة سريعة تقترب منه يرافقها صوت صاحبتها الخافت وهي تهمس بلطف:" أريدك أن تتحمّل فسيؤلمك ما سأفعله لكن ليس لدي خيار آخر فلا أملك مخدرا ليريح ألمك" ازدرد لعابه بصعوبة مجيبا بصوت مخنوق :"افعلي ما عليك فعله.."رفعت عيناها لترمقاه بتوتر ثمّ بدأت بتعقيم الجرح وإعادة خياطة القطب التي تسببت حركته العنيفة تلك بقطعها..لم يكن يصدر أي صوت أو احتجاج من ألمه لكنّها كانت تشعر بمعاناته التي تفوق طاقة أي إنسان على التحمل..بنفسه المحبوس في صدره..بالإرتعاشات الصغيرة التي كانت تسري في كلّ خلية حيّة فيه لتشعر بها تحت أناملها الرقيقة..لم يكن من السهل حتّى لممرضة مثلها شهدت على أشنع الحالات في المستشفى أن تتحمّل ألمه لكن لم يكن باليد حيلة وكان عليها بأن تمضي مهما كلّف الأمر...وضعت الاصق الأخير على الضمادة النظيفة بعد إنجازها لعملها ورفعت ساعدها لتمسح جبهتها المبللة قائلة وهي تقول بإعياء :"لقد انتهيت..أرجو من الآن بأن تبقى مكانك ولا تتحرك قيد شعرة..إنّ جرحك ملتهب بالفعل وسأعطيك الآن مضادا حيويا سيساعدك على مقاومة الإلتهاب قبل أن يصل التلوث إلى الدم وتقع في خطر أشد!!" رفعت عينيها أخيرا تنظر إليه لتتفاجأ به يتأملها بصمت فتنحنحت في ارتباك غريب عليها وأشاحت وانشغلت بلملمة الفوضى التي خلّفها تغيير ضماده وهي تقول بعملية :"سأحضر لك شيئا لتأكله أيضا..كم مضى من الوقت منذ آخر مرّة دخل الطعام إلى جوفك؟؟ سيساعدك هذا على استعادة قوّتك بشكل أسرع ثمّ أع..." "أشكرك" قاطعها سيل كلماتها تلك بصوته العميق الذي كان يحمل قدرا من القوة وقدرا آخر يساويه من الضعف على نحو شوّش عقلها وأوقعها في حيرة من أمرها..أمعنت النظر فيه قليلا ثمّ سألته بلا مواربة :"لقد سألتني منذ قليل من أكون وأجبتك..ماذا عنك؟؟ ألا يحقّ لي بأن أسأل نفس السؤال؟؟ أعتقد بأنّ هذا أقلّ ما يمكنك فعله نظرا للطريقة التي دخلت بها إلى منزل لا يقطنه سوى النساء في زمن يجعلنا عرضة للإفتراس من الغرباء أكثر من أي وقت آخر" أسبل جفنيه للحظة ليرفعهما مجددا مجيبا بثبات :"اسمي أيهم..كنت أقاتل ضمن إحدى الكتائب المقاومة خارج المدينة..استشهد أغلب من فيها في هجوم صاروخي مباغت وتبعثر من بقي منّا..أصبت وأنا في طريقي للبحث عن رفاقي فدخلت المدينة بحثا عن المساعدة حتّى أستجمع قوّتي وأعود إلى أرض المعركة..كان منزلك أوّل ما رأته عيناي..أعتذر على الدخول بتلك الطريقة كالمجرمين..لا مبرر لي لفعل ذلك عدا يأسي في تلك اللحظة" أنهى كلامه وهو يحاول الجلوس فأوقفته في الحال بضغط كفيها على صدره وهي تنهره بحدة:" ما الذي تفعله؟؟ لقد أعدت خياطة جرحك لتوّي!! ألن تكفّ عن حركاتك اللامبالية هذه؟!!" ارتفع طرف شفتيه بشبه ابتسامة وهو يراقب احمرار وجنتيها غضبا إلى أنت انتبهت إليه وتسأله بعصبية :"ما الذي يضحكك في كلامي؟؟ هيّا سأساعدك في التجلس وانتظرني ريثما أجلب لك الطعام والدواء" وضعت ذراعه حول عنقها وساعدته في النهوض بجسده الثقيل بكلّ مافيها حتّى اطمأنت على وضعه وتغادر الغرفة متجاهلة نظراته التي تفارقها منذ أن حطّت عليها لأولّ مرّة..

عن الحرية والعشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن