إلتقاء(الفصل الثاني)

1K 96 24
                                    




بات قلبها يخفق بقوّة كادت أن تطيح بقفصها الصدري إلّا أنّ يدها الحاملة للسلاح الموجّه صوب وجهه كانت ثابتة..وعيناها اللتان كانتا تحدق به بنظرة جليدية لم تتزحزح عنه جسده الملتوي ألما قيد شعرة..رفع رأسه لاهثا لينظرإلى تلك الأنثى الواقفة أمامه بشجاعة..لم يستطع أن يدرك معالم وجهها لكونها تقف في الظلمة بعيدا عن شعاع القمر المنبعث من كبد السماء والذي كان بمثابة دليله إلى حيث يقف الآن بعد رحلة عمياء أخذته إلى ما وراء أسوار المدينة..شدّد من قبضته على جذعه عندما ارتفع صوتها وهي تسأله مجددا :"ما لك صامت؟؟ هل فاجأتك؟؟ أكنت تتوقع بيتا خاليا، أم نساء عزل لتنتهك حرمتهن وهنّ بلا حول ولاقوة للدفاع عن أنفسهن؟؟" أغمض عيناه بشدّة في محاولة للمحافظة على وعيه ليفتحهما مجدّدا مجيبا بصوت يتهدّج ألما :" ليس هناك من داع لتخافي مني..أنا لم آتي لأؤذيك أو أؤذي أحدا آخر" ضيّقت عيناها بحنق وهي تضغط بقوّة على مقبض مسدسها قائلة :"وهل أبدو لك خائفة؟؟ برأيي أنت الشخص الوحيد الذي يتوجب عليه أن يخاف هنا نظرا لرغبتي الشديدة بإفراغ خزان سلاحي في جسدك علّك تكون عبرة لكلّ من يتجرأ ويقتحم بيتا ويهدّد من فيه!!!" زفر بتوتر لتصدر عنه شهقة خفيفة وهو يميل بجسده إلى الأمام قليلا..فرجعت خطوة إلى الخلف ويدها تضغط على الزناد بإستعداد هامسة بوحشية لبؤة :"إيّاك والعبث معي!! لن تنطلي علي هذه الحيلة التي باتت سخيفة من كثرة استهلاكها..كيف لضربة مرفق أن تؤلمك إلى هذا الحد؟!! هيّا اعتدل في وقفتك واحترم رجولتك التي كنت تتشدّق بها منذ قليل!!" كان الألم ينهش جوفه بلا رحمة مترافقا مع الدماء الحارة التي كانت تنساب من بين أصابعه بغزارة لاسيما بعد ضربتها تلك..أخذت قطرات العرق تتصبب من جبينه وهو يجيبها بهمس مرتعش :"لا أريد سوى قطعة قماش نظيفة وبعض الماء..وسأخرج من بيتك وكأنّي لم أدخل!" اقتربت منه خطوة لعلّها تحظى برؤية أوضح لوجهه..كان يبدو رجلا طويل القامة..أشعث الشعر..أخذت تراقبه بتوجس لا يخلو من الفضول وهو يلتقط أنفاسه المتقطعة لتعقد حاجبيها بحيرة وهي تقول بعصبية :"ما بك؟؟ وما الذي تريده من قطعة قماش وماء؟؟ اذهب من هنا..واشكر ربك بأني لم أرديك قتيلا!!" رفع وجهه ينظر إليها فجأة فسقط شعاع القمر على عينيه لتصعقها نظرتهما الخضراء المجبولة من العذاب والألم..ارتجف المسدس بيدها للحظة قبل أن تزدرد لعابها بصعوبة لتكبح لجام عاطفتها وتضيف بنبرة قاسية :"ما الذي تنتظره؟؟ هيّا اغرب عن وجهي وإلا فلن تخرج سالما!!" أومأ برأسه بإذعان وانتصب ليخطو مبتعدا عنها بتثاقل..أخذت تراقبه بتوتر إلّا أنّ ساقاه خانتاه أخيرا فاستسلما تحت ثقل جسده ليهوي أرضا بلا حراك...فغرت فاها بصدمة شاخصة بذلك الجسد الهامد المرمي في منتصف باحة حديقة بيتها..ما الذي حدث له؟؟ هل تراها خطة لعبها بمكر لكي يستجدي عطفها وينال منها على حين غرّة؟؟ وقفت مكانها للحظات بلا حراك لتحسم أمرها أخيرا وتتوجّه نحوه بحذر شديد من دون أن تزيح مسدسها عن مرمى جسده..كان نائما على بطنه وظهره لها فانحنت تهزّه بيدها بتردد قائلة :"إن كانت هذه خدعة منك فعليك أن تعرف بأنّها لن تنطلي علي..هيّا انهض!!" لكنّه لم يؤتي بأي حركة وبقي ساكنا مكانه..زفرت بعصبية وأمسكت بكتفه لتديره نحوها فانبسطت ذراعه بارتخاء بعدما ما استلقى بشكلّ كليّ على ظهره فبات مواجها لها بوضوح كافي لكي ترى مدى شحوب وجهه الساكن الملطخ بالتراب والدم..رمت السلاح من يدها وجثت جانبه تحيط وجنتاه بين كفيها مربتة بلطف حازم وهي تناديه بخفوت :"هيّا..افتح عيناك..ابقى معي!!" اتسعت عيناها بقلق وهي تفتش جسده المكتسي بحلّة البذلة العسكرية بعد أن ربطت الأحداث ببعضها وأمست شبه متاكدة من إصابته لتستشعر أصابعها لزوجة دافئة مألوفة تغطي منتصف جذعه..بدأت أنفاسها بالتسارع لإدراكها كمية الدماء التي كانت تنساب من إصابته بلا توقف إلا أنها سرعان ما استجمعت نفسها ورباطة جأشها كممرضة متمرسة ونهضت لتدس يداها تحت ذراعيه وترفعه قليلا عن الأرض وتبدأ بسحبه بصعوبة بالغة إلى الداخل..لكنّها لم تلبث إلّا وقد سمعت صوتا أنثويا ناعما يهتف بها بدهشة قائلا :"رايا!!! ما الذي تفعلينه؟؟ ومن هذا الرجل؟؟ما الذي يفعله هنا؟؟!!" حوّلت عيناها نحو شقيقتها الصغرى مجيبة بحزم :"سأشرح لك لاحقا أمّا الآن فهيّا ساعديني لأسحبه إلى الداخل فأنا بحاجة إلى مساعدتك..احملي معي ساقيه وأنا سأتولى جذعه..هيّا فإنّه ينزف!!" حدّقت بها صبح بذهول للحظة إلّا أنّها نفضته عنها بسرعة وهرولت نحوها تساعدها..أمسكت ساقيه وبدأت تسحبه مع أختها ببطء حذر..بدأت صبح تلهث بتعب وهي تقول :"يا إلهي كم هو ثقيل!!..هل عندك فكرة كيف سنرفعه عن الأرض؟؟" أجابتها رايا بصرامة :"سنتولج الأمر لا تقلقي، والآن كفّي عن التذمر وساعديني!!" وصلتا إلى الداخل أخيرا لتترك صبح ساقيه تسقطا على الأرض واعتدلت في وقفتها مطلقة تنهيدة طويلة ثمّ قالت :"والآن، أين سنضعه؟؟" كانت رايا لا تزال تمسك به بحرص عندما نهرتها:" سنضعه على سريري..بسرعة يا صبح ليس لدينا الكثير من الوقت، عليّ أن أتفقد إصابته فورا وأوقف نزيفه وإلا سيصاب جسده بصدمة" اتسعت عينا صبح بارتياع وهرعت تساعدها بدون أن تتفوه بحرف آخر إلى أن دلفا إلى غرفة رايا في آخر الردهة لتقول رايا بصوت منهك :"تعالي إلى جانبي يا صبح..ضعي ذراعه اليسرى حول كتفيه وأنا سأستلم اليمنى" بدأت الفتاتان بالنهوض بساقيهما المرتجفتين من عبئهما الثقيل الذي بدا غائبا كليّا عن هذا العالم متجهتين نحو السرير إلى أن نجحا أخيرا بتركه ليسقط ممددا على الفراش..أخذت صبح تتأمله بقلق لتلتفت إلى أختها وتسألها بتوتر :"إنّه شاحب جدا..انظري إلى بذلته..ليس هناك مكان لا تغطيه الدماء!! أمتأكدة أنت بأنّ هناك أمل من نجاته؟!!" تجاهلتها رايا وهي تنحني فوق رأسه لتفحص استجابة عينيه ثمّ التقطت معصمه لجسّ نبضه بأصابعها فاكتشفت بقلق ضعفه وتباطؤه..عقدت حاجباها وقد اعتلت تقاسيم وجهها دلائل العزيمة والإصرار لتلتفت مخاطبة أختها بعملية وسرعة :"اذهبي واغلي قدرا من الماء..ثمّ اذهبي وأعدّي ضمادات من قماش الشرشف الأبيض الإضافي الموجود في خزانة غرفة أمي..هل ما زال لدينا بعضا من الكحول؟؟" هزّت صبح رأسها نفيا وهي تجيبها :" ليس لدينا شيء منه..لقد أخذت كلّ شيء موجود في البيت يتعلق بالإسعافات الأولية وتبرعت به إلى المستشفى" أومأت رايا برأسها بتفهم وأشارت لأختها بالخروج..استدارت إلى حيث يرقد ذلك الغريب الجريح تتمعن معالم وجهه التي وبالرغم من سكونها فقد كانت تحمل كمّا مجفلا من الحزن والعذاب..والألم..لا ليس ذلك الألم الجسدي الذي رسم خطوطه على وجهه..بل كان الألم الذي يغور إلى ما هو أعمق من الجسد..هزّت رأسها مزيحة تلك الأفكار من عقلها واتجهت نحو صندوق خياطتها الصغير وأخرجت منه مقصها لتعود إليه وتبدأ بقص سترته المثقلة بالدم بحذر لكنّ هتاف أمّها المذعور قاطعها فالتفتت للخلف ورأتها تقف عند باب غرفتها بعينين جاحظتين وهي تحدق بالرجل المسجى فوق فراش ابنتها..سحبت رايا نفسا عميقا واقتربت من أمّها وهي تقول بنبرة مهدئة :"لا تخافي يا أمي..إنّه جريح وحالته لا تبشر بالخير..ليس بإمكانه فعل شيء لنا" نظرت إليها السيدة هدى لوهلة بذهول قبل أن تعاود تركيز ناظريها نحو هذا الغريب المدد في منتصف غرفة نوم ابنتها..فاقتربت بتردد لتمعن النظر فيه ثمّ قالت بخفوت :"وكيف وصل إلى هنا يا ابنتي؟؟" تنحنحت رايا في وقفتها متفادية النظر في عيني والدتها لتجيبها أخيرا :"لقد وجدته في باحة حديقتنا..إلّا أنّه سرعان ما خرّ فاقد الوعي أرضا..عندها اكتشفت بأنّه جريح وتلزمه العناية الطبية الفورية" مرّت عدّة ثوان صامتة قبل أن تسحب السيدة هدى نفسا عميقا وهي ترمق ابنتها بعدم رضا قائلة :"إنّه جندي يا رايا..ومن الجلي أنّه قد أصيب في الإشتباكات خارج المدينة..لست مرتاحة لهذا أبدا..نحن لا نعرف في صف من يقف عدا عن هويته المجهولة ومآربه التي لا نعلم عنها شيئا!!" اقتربت رايا من أمّها وأمسكت بكتفيها بثبات قائلة بهدوء :"اهدئي يا أمي وليرتاح بالك..أوّلا هو جريح ولا يملك القدرة على الإيتاء بأيّ حركة..ثانيا ضميري لن يرتاح إن تركته هكذا من دون مساعدة..سأبذل قصارى جهدي لكي أنقذه وبعدها لكلّ حادث حديث..لكن لا تقلقي فأولويتي ستبقى لك ولصبح ولن أدع أيّ مكروه يصيبكما..أعدك " أراحت السيدة هدى كفها على وجنتها هامسة بإستسلام :"أعلم بأنّك لن تتواني عن مساعدة أحد كائنا من كان..لكنّي أرجوك يا حبيبتي بأن تتوخي الحذر..إن كانت أولويتك هي أنا وصبح فأولويتي أنا هي أنت وهي..إياك ونسيان هذا" أومأت رايا رأسها باسمة لتأتي صبح وبيديها قدر الماء المغلي وبعد قطع من القماش الأبيض..فطلبت منها أن تضعهم بمحاذاة السرير وعادت إلى مهمتها في تجريده من سترته لتتوقف فجأة وتحدج أختها بنظرة صارمة قائلة بنبرة لا جدال فيها :"اخرجي من الغرفة يا صبح وأغلقي الباب خلفك" عقدت صبح ذراعيها وهي تجيب بإعتراض :"لماذا؟؟ أستطيع أن أساعدك بالعناية به" تبادلت السيدة هدى ورايا النظرات لتستدير الأولى ممسكة بذراع إبنتها الصغرى وهي تهمس بلهجة آمرة :"هيّا يا صبح..دعي أختك تكمل عملها هنا فلا حاجة لها بك" بدأت صبح بالإعتراض مجددا إلّا نظرة حاسمة من أمها أسكتتها على الفور فأطرقت رأسها وغادرت الغرفة بإذعان لا خيار لها فيه..ألقت رايا نظرة أخيرة على باب غرفتها المغلق وعادت لتكمل عملها..بعد أن جردته من سترته وقميصه بالكامل بدأت تتلمس مكان إصابته التي كانت في المنطقة ما بين حجابه الحاجز ومنتصف البطن في الجهة اليسرى..بدا من الواضح بأنّ الإصابة سببها رصاصة وعلى الأرجح قد اخترقت جزءا من الطحال..زفرت بتوتر وضغطت على الجرح بقوّة في محاولة لتخفيف حدّة النزيف..لم تكن تعرف إن كانت الرصاصة مازالت داخل جسده أم أنّها قد خرجت من الطرف الآخر..فتمسكت بجسده بشدّة وأدارته قليلا لتتفقد ظهره..ابتسمت بإمتنان عندما رأت ثقبا مماثلا غير أنّه أصغر حجما وهمست لنفسها بقليل من الإرتياح :"حمدا لله أنّ الرصاصة قد خرجت من جسدك وإلّا فكان وضعك سيزداد سوءا" ثمّ أعادت تمديده على ظهره وبدأت مهمة خياطة جرحه وتعقيمه علّها تنجح في إيقاف نزيفه الذي كان أكبر عائق له في إستقرار حالته...

عن الحرية والعشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن