عند وصف حالة الصمت التام يستشهد المرء عادة بتشبيه صوت رنين الإبرة المعدنية الرقيقة على الأرض الصلبة..ذاك الصوت الذي يعد سماعه في الظروف العادية ضربا من المستحيل..لكن في حضرة صمت مهيب كالذي فرض هيمنته في أرجاء ذلك البيت الصغير المتواضع فسماع رنين الإبرة وهي تحطّ على الأرض الصلبة بدا أمرا طبيعيا ومفهوما..كانت تحدق في عينيه العميقتين كبئر سحيق بثبات وثقة لا يعكسان ما اعتمل في صدرها من خوف ورعب، فما قد تخسره في حال انكشاف أمرها وأمر ما تخبئ تحت هذه الأرض سيضع عائلتها تحت خطر كبير..نفضت عنها تلك الأفكار وأجابته بهدوء :"و ما الذي تبحثون عنه ؟؟" أطرق الضابط برأسه جانبا وقد اعتلت وجهه ابتسامة خبيثة وهو يجيب بدهشة مفتعلة :"هل حقا لا تعرفين؟؟ وأنا الذي كنت أعتقد بأنّ الأخبار في المدينة تنتشر بسرعة كالنار في الهشيم!! من الواضح بأنّي كنت على خطأ!" تجاهلت سخريته الجلية وأفسحت له المجال باسطة ذراعها وهي تقول بأريحية :"تفضّل وابحث عمّن وعمّا شئت، فليس لدينا ما نخفيه" أومأ برأسه برضا ثمّ أشار لمساعديه ليبدؤوا عملهم ليلتفت بعدها ويلقي نظرة على السيدة هدى وصبح التي خرجت من غرفتها مسرعة وهي تنظر بخوف إلى الجنديين الذي كانا يقلبان المنزل رأسا على عقب إلى أن حطّت عيناه أخيرا على رايا وخاطبها بلطف لم ينجح في خداعها للحظة :" هل تعملين يا ابنتي؟؟" أجابته بلامبالاة :"نعم يا سيدي أعمل ممرضة في المستشفى الوطني" هزّ رأسه بإعجاب معلقا :"فأنت إذا من مناضلي الوطن أيضا!! لربما لا تحملين سلاحك وتقاتلين كما نفعل لكنّك تساعدين أبنائنا في التعافي والوقوف على أقدامهم مرّة أخرى إن حدث وسقطوا..لك منّي كلّ الاحترام والتقدير!" أومأت برأسها في شكر صامت فارتفع طرف شفته في شبه ابتسامة وسألها بمكر :"ألن تريني حديقة منزلك الخلفية يا آنسة...؟" أجابته على مضض :"رايا" اتسعت ابتسامته وهو يكمل :"يا آنسة رايا؟؟" أومأت إيجابا وهي تدير ظهرها في إشارة ليتبعها حيث يريد حتّى وصلا إلى حديقة المنزل الصغيرة، شكرها بسرعة وبدأ يمشي في أنحاء الحديقة جيئة وذهابا بخطوات أثقلها حذاءه العسكري الضخم إلى أن توقف عند الحصيرة التي افترشها الفلفل الأحمر المجفف فانحنى ليلتقط قطعة منه وأدارها بين أصابعه بعبث قبل أن يدفع بها داخل فمه ويقوم بطحنها مغمضا عينيه باستمتاع وكأنّها قطعة حلوى وليست فلفلا حارا يكوي حليماته الذوقية بشراسة..كانت تراقبه بتوجس صامت إلى أن ابتلعها بالكامل وقابل نظراتها بأخرى خطرة وبدأ بالسؤال قائلا :"أواثقة أنت من عدم التقائك بجندي يبحث عن المساعدة خلال اليومين الماضيين؟" لم تتغير تعابير وجهها وهي تجيبه بنبرة غير قابلة للجدل :"قد أجبتك منذ أوّل مرّة سألتني بها يا سيدي..لا لم أرى جنودا أو أشخاصا يطلبون المساعدة إلّا داخل المستشفى وهذا ضمن اختصاصي" تأملّها للحظات قبل أن يومئ برأسه برضا مجيبا :"بالطبع لا تؤاخذينا على إزعاجك وعائلتك لكن الأمر في غاية الخطورة..نحن نتكلم عن أن الوطن هنا..على كلّ حال سأعتبر نفسي محظوظا بالتعرف على أحد أبطال الوطن المجهولين..آه كيف نسيت أن أعرفك بنفسي؟؟ ياله من تصرف أرعن أن أسأل عن اسمك ولا أفصح عن اسمي!!" ثمّ مدّ ذراعه في دعوة صريحة لتصافحه وهو يعرّف عن نفسه :" أدعى المقدّم خالد..سررت بمعرفتك" ترددت قليلا إلّا أنّها سرعان من مدّت ذراعها وصافحته لتشعر بكفّه الدافئ اللزج وهو يضغط على يدها بشدّة ويتركها فجأة معتدلا في وقفته وهو يكمل قائلا :"أتمنى أن تتوخوا الحذر دائما فنحن في خضم حرب لا نعلم متى ستنتهي ولا يعلم الإنسان ما قد يصادفه" ثمّ أومأ برأسه نحو السيدة هدى وصبح مودعا وتوجّه نحو الباب مغادرا ففتحه وتوقف قليلا ليلتف نحو رايا قائلا بهدوء يكتنفه الغموض :"اعتني بنفسك جيدا..فرباطة الجأش والشجاعة لا تكفيان في كثير من الأحيان" وأغلق الباب تاركا خلفه قلبين ينتفضان بارتياح منهك وقلبا بدا وكأنّ قبضة مميتة قد استحكمت به فشلّت حركته تماما...
أنت تقرأ
عن الحرية والعشق
Romanceمنذ أن فتحنا عيوننا على الحياة كان أول ما وقعنا في حبه... كان الحضن الذي آوانا وآوى آبائنا وآجدادنا من قبلهم... دماؤنا ترخص حفاظا على سلامته ..وأرواحنا تطوق لنيل حريته... هو الوطن...وما أغلى من الوطن... لكن عندما يطرق عشق من نوع آخر باب القلب..فسيغد...