حصار(الفصل الثامن)

1.7K 92 29
                                    










بصرخة واحدة تعلن الروح عن ولوجها إلى عالم البشر البائس...

وبصرخة أخرى تعلن عن خروجها منه حيث اللاعودة الموعودة...

ففي الأولى لعنته...

وفي الأخيرة خلاصه...

وفي كليهما فقدانٌ لا يدريه إلّا من اختبره...

"إذا هاهي ذي جنتي...في عينيك"

اتسعّت عيناه وهو يحدّق بجزع في وجهها النائم المستكين بسلام رغماً عن الكدمات والدماء التي لطّخت صفاءه الملائكي، فأحاط وجنتيها بكفّيه المرتعشتين وداعب بأنفاسه الملتهبة مخملهما الشاحب هامساً بتوسل :"

"افتحي عينيك يا رايا ..انظري إلي يا حبيبتي!!"

"لقد نجحنا في تأمين المدخل الذي استطاعوا الدخول منه إلى المستشفى يا أيهم..لكنّ الوضع لا يبشّر بالخير فعددنا قليل ولن يكون بإمكاننا الصمود لوقت طويل إن لم نحظى بالتعزيزات!!" هتف جندي من خلفه بتوتر شديد ترجم بحدّته الوضع الحساس الذي وصل إليه كلّ من اعتصم داخل المستشفى المحاصر، بيد أنّه لم يكن يعي ما كان يحصل حوله..كان العالم لينهار من حوله ولن يدري بذلك وهو يتأمّل الكيان الوحيد الذي جعل لوجوده برمته معنى وهي ترقد بلا حراك بين ذراعيه على الأرض الباردة التي بدأت تكتسب دفئاً مخيفاً زادها برودة وفتكاً...دفء ذلك الأحمر القاني الذي كان يتسربل بين تشققات بلاطها بصمت مهيب اخترق صخب الرصاص والصرخات التي تأرجحت ما بين الثائرة والهلعة..

"أيهم !!! ماذا نفعل؟؟؟ سينجحون بإقتحام المبنى قريباً!!!" رمش بأهدابه منتشلاً نفسه من بين شتات أفكاره المتخاذلة ودسّ يداه تحت جسدها المرتخي ونهض يحملها على ذراعيه مجيباً بملامح جامدة :"اطلب من اثنين من رجالنا أن يلزموا المدخل الخلفي وأن لا يبروحوا موقعهم مهما كلّف الأمر..ورافق من بقي معك إلى المدخل الرئيسي حيث الجميع..وأحضر لي معك الطبيب سامر..أخبره بأنّ يأتي على عجل!!" أومأ الجندي بإذعان وهرع ينفذ ما أمر به دونما إبطاء...حطّ بعينيه عليها لتتغير ملامحه إلى قهر تمازج بلوعة لم يعرفها من زمن...حيث ماضيه الذي ترتعد أوصاله من فكرة استذكاره حتى..وهمس بحرقة لنجلاويها المختبئتين خلف ستار جفنيها الشاحبين :"لقد وفيت بوعدي وجئت يا رايا إلّا أنّي لم أجدك..هيّا افتحي مغزليك هذين ولا تذريني لحسرة الإنتظار!!" ثمّ رفع عيناه محدّداً وجهته نحو إحدى غرف المرضى التي بدت بأنّها قد هجرت من قاطنيها على عجل، فدلف إليها بخطى واسعة ليريح حمله المستكين على إحدى أسرّتها بعناية وشرعت أنامله بإزاحة خصلات شعرها الهاربة من ضفيرتها العشوائية برّقة وهو يلاحق بناظريه آثار تلك الكدمات المتناثرة على بشرة وجهها الناعمة بألوان عديدة تراوحت ما بين الأحمر والبنفسجي المائل للزرقة..فتخشبّت يده قبل أن تتجرأ على لمس أيّها في غضب هائج مكبوت، وحادت عيناه صوب جثة الجندي التي أرداه قتيلاً بيده محدقاً بها بكره مخيف وهو يصرّ على أسنانه بقوّة كادت تحطمّها قبل أن يسحب نفساً عميقاً وينهض لينبشّ بتوتر بين المعدّات الطبية إلى أن توقّع على لفافة من الضماد وبعض الكحول فالتقطها على الفور وعاد إليها يمسح بيدين مرتعشتين آثار الدماء الجافة بدءاً من جرح جبينها وانتهاءاً بشفتيها المفترتين بإستسلام هامساً بتضرع :" هيّا يا حبيبتي..افتحي عينيك يا رايا!!!!" تناهت إلى مسامعه أصوات خطى سريعة فالتفت إلى الخلف بحدّة مشهراً سلاحه في استعداد غريزي ليظهر في اللحظة التالية سامر وإلى جانبه نورا التي لم تلبث أن هتفت بإرتياع :"رايا!!!" واندفعت نحو السرير تتفقدها بجزع لم يخلو من المهنية فمسح أيهم وجهه بكفّه في محاولة للتحكّم بأعصابه المنفلتة وقال برعونة :"لقد تعرضّت للضرب في وجهها..لست متأكداً إن تعرضّت إلى إصابات أخرى في جسدها إلّا أنّي لا أظنّ بأنّ الوقت قد سنح لذلك الوغد بفعل المزيد!!" اقترب سامر منها يعاينها بهدوء وعمليّة لم تنعكس على هيئته المزرية بزيّه الطبي الملطّخ بالدم والعرق، ليتنصب بعدها في وقفته متوجهاً بالحديث إلى أيهم برويّة :"لم ألاحظ وجود أيّ كسور..الأمر لا يتعدى بضع كدمات وسجحات تسببت بوزمات في مناطق متعددة في وجهها وذراعيها..ستضمد نورا جروحها ومن الأفضل أن ترتاح بعد الصدمة" تلكأ قليلاً قبل أن ينظر إلى نورا بقلق ويقول :" هل أنت متأكدة من أنّه بإمكانك الإعتناء بها يا نورا؟؟ ذراعك مصابة ولا أعتقد بأنّه من الحكمة أن تضغطي عليها في الوقت الحالي!!" استدارت صوبه لتمنحه ابتسامة باهتة مجيبة :"لا تقلق..أنا بخير يا سامر..جرحي سطحي" تأمّلها بصمت للحظة مومئاً برأسه موافقاً والتفت يقول لأيهم :" لولا قدومكم في الوقت المناسب واكتشافكم للمدخل الخفي الذي استطاع بعضهم التسلل منه إلى داخل المستشفى، لكان الوضع يختلف تماماً عمّا نحن فيه الآن..شكرا يا أيهم!!" تخلّل أيهم شعره بأصابعه بحركة عصبية وعلّق بسخط :"ما فعلناه لا يعتبر إلّا حلّا مؤقتاً..المستشفى محاصر من جميع الإتجاهات ولن يستسلموا قبل أن يفعلوا كلّ ما في إمكانهم ليقوموا بإقتحامه!!" ألقى سامر بنظرة تحمل غضباً مكبوتاً على جثة الجندي المسجاة على بلاط المستشفى الأبيض وسأل بخفوت :"وماذا عن التعزيزات؟؟ على افتراض بأنّك وصلت إلى هنا بناءً على معلومات مؤكدة بما يحدث!!" حوّل أيهم عيناه إلى وجهه الذي فقد دماثته وهدوءه وأجابه بقتامة :" لا أشكّ بحتمية قدومها..لكّني أجزم بإستحالة نجاحها في إنقاذ كلّ من تحت هذا السقف في الوقت المناسب!!" وعندها انساب إلى مسامعهما صوت نورا الذي تعرّى من كلّ ما كان يملكه من قوة وصمود وهي تهمس بضعف قائلة :"إذاً ها هي ذي النهاية؟؟" التفت أيهم إليها بحدّة ليحطّ بخضراويه العاجزتين على شهلاويها المستسلمتين وتنسلّ بلا حول ولاقوة إلى ملامحها الغافية ببراءة لم يمنحها لها وعيها المعذّب فتحجرّت قبضة يده وأجابها بثبات :"ليست النهاية حتّى نقرّ لأنفسنا بأنّها كذلك!!"

عن الحرية والعشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن