سقوط (الفصل العاشر)

519 43 18
                                    







" تأمّلني جيداً...هلّا فعلت؟!"
"أين أنت؟"
"أمامك...ألا تراني؟!"
"أنا كفيف يا حبيبتي...ألا تعلمين؟!"
"وأنا بكماء..."
"لكنّي أسمعك!!"
"إذن فأبصرني..."

أخذت ذرّات غبار أنقاض المدينة المتهالكة تعصف بجنون حول قدميه المدججتين بهيكل جزمته العسكرية المهترئة وهو ينهب الأرض بخطوات سريعة يائسة صوب ذلك المبنى الذي شرع يتحوّل أمام ناظريه المذعورين رويداً رويداً إلى حطام ترابي في غضون دقائق زهيدة...
لم يعي في تلك اللحظات القاتلة حقيقة تجرّده من حوّاسه التي جعلت منه يوماً إنساناً كاملاً عاقلاً..
فهاهي أذناه قد غفلت عن سماع أصوات الصيحات والآهات والأنّات...
هاهو أنفه قد عجز عن التقاط رائحة التربة والدماء التي طفقت تفوح في الأرجاء...
هاهي حنجرته قد فقدت القدرة على النطق بحرف واحد بعد اسمها...
هاهي بشرته خسرت ما تملكه من شعور لتنتفض بإحتجاج على لسعات النار الحارقة التي باتت تهددها من كلّ حدٍّ وصوب...
وها هي مقلتاه قد نالت العتمة من بريق بصرهما نصيباً حتّى أخفقتا في رؤية جموع الناس الملتاعة الهاربة وجثث القتلى المترامية...
وفجأة توّقف العالم ليضحى أسير لوحة صامتة نازفة تشكّلت أمام ناظريه ببطء مؤلم من خلف غلالة مقلتيه الملتهبة...
أكوام مهولة من حجارة مشطورة هنا وهناك كانت قد خبأّت بين ركامها أشلاء من حيوات اقتنصت في غضون ثوان معدودة...
نشيج هنا...وعويل هناك...هجسات منتحبة تتعالى بتواتر رهيب من خلفه...و مراسم مآتم خامدة خيّمت على المكان من أمامه...
تسمّر يجول بعينيه الغائمتين بهوس مفجوع متمتماً اسمها بضياع للحظات أبديّة إلى أن تراءى له من قلب الدخان والتراب جديلة خميلة أخفقت في لملمة تلافيف خصلاتها الدعجاء فارتمت بإرتخاء يائس حول رأس صاحبتها المرتاح بسكينة مستسلمة على الإسفلت المتصدّع الكالح...
فارتعش ثغره لتتعثرّ الحروف من بين شفتيه هامساً بلوعة :"رايا..."
وتبعثرت نبضات قلبه الخائرة تزامناً مع حركة ساقيه الموهونتين وهما تقودانه حيث جسدها المسجّى بسكينة تناقضت مع جنون الجحيم المستعر حولها، فخرّ جاثياً على ركبتيه كمن سلبت قوّته على حين غرّة ومن دون حساب محدّقاً من خلف ندى خضرة مقلتيه النازف في تفاصيل وجهها النائم بسلام كان قد غيّبه واقعها البائس، ليخونه أخيراً جبروت حنجرته وتعلن عصيانها مطلقة آهة نطقت بحرقتها بوجعٍ رزحت جبال الأرض عند ذكره، فما كان منه إلّا وأن حمل رأسها بين كفيه ليشعر بتسلل ذلك السائل الدافئ بين أصابعه، فاتسعّت عيناه وهمس بنكران هائج :"لا...ليس أنت...لا يا رايا..لا يا حبيبتي!!"
ثمّ هزّ رأسه بتمرّد وهو يتلّمس نبض عنقها بإرتعاش قبل أن يخترق ضباب وعيه المكلوم صوتاً هزيلاً لاهثاً قائلاً بهدوء :"إنّها على قيد الحياة..لا تجزع يا أيهم"
عندها التقطت حواسه انتفاضة نبضها الضعيفة وهي تربت بشرة إصبعه لتسترجع بضعاً من بقايا روحه التائهة، فسحب نفساً متهدّجاً قبل أن يخذله جسده الموهون ولملمها بين ذراعيه حاضناً إيّاها إلى صدره بعناية ، غافلاً عن جرح كتفه الذي أخذ ينهشه احتجاجاً على  حركته الرعناء وهو يهمس لغياهب شعرها المعفّر بالغبار والدخان بحرقة باكية :"حمداً لله..حمداً لله!"
لم تستغرق وشوشاته الخفيضة سوى بضع لحظات حين التفت بحدّة ليلقي نظرة على من كان خلفه طيلة ذلك الوقت من دون أن يدرك ليصدم برؤية سامر وهو يبادله نظراته بأخرى مريرة...فجال بعينيه على هيئته المزرية الدامية ليستقرّ أخيراً عند يده القابضة بقوّة على جانبه حيث تترقرق الدماء القانية بغزارة مخيفة، فازدرد أيهم لعابه بصعوبة وعلّق مبهوتاً :"سامر..."
منحه الطبيب نظرته المعهودة الرزينة وأجابه بثبات :"خذ رايا وارحل من هنا...لا أدري حجم إصابتها لكنّي قلق من نزيف رأسها يا أيهم"
رمش أيهم بأهدابه ليستوعب ما قاله وأمعن بوجهها الشاحب بجزع ثمّ أومأ برأسه ونهض بها منتصباً على قدميه و أعلن بحزم :"سأجد سيّارة ما لأودعها فيها ثمّ سآتي لأصطحبك يا سامر..أنت انتظرني هنا وسوف..."
رفع سامر يده ليوقفه عن الكلام قائلاً بنبرة قاطعة :"ارحل أنت وريان من هنا يا أيهم ولا تنظر إلى الخلف..أنا وأنت نعلم تماماً بأنّ المدينة قاب قوسين أو أدنى من السقوط ويعدّ البقاء فيها للحظة واحدة إضافية حكماً بالإعدام!!"
تجمّدت ملامح أيهم وهو يمعن النظر في وجه سامر الباهت المكدوم وسأله بإنكسار :"وماذا عنك؟؟ وعن الجرحى من حولنا؟؟ والناس الذين يتخبطّون بحثاً عن الحياة والأمان؟؟هل أولي لكم ظهري وأرحل؟!"
أغمض سامر عيناه بقوّة وعاد ليفتحهما ليتأمّله بمزيج من الأمل والفخر وأجابه بثقة :"ليست قضيتنا حكراً على مدينتنا هذه...فهاأنت ذا أمامي تحمل بين ذراعيك جزءاً من قضيتك التي تستعد في كلّ ثانية للموت من أجلها، وسترحل من هنا لتواجه أرضاً أخرى وأناس آخرين يتخبطون بجزع في انتظار من يذود عنهم ويحمل راية كفاحهم..ارحل يا أيهم فوقتكما لم يحن بعد"
غرز أسنانه بقوّة على شفته وهو يرمق بقهر حمله الثمين المرتاح بضعف على صدره ثمّ رفع وجهه صوب جسد سامر المتهالك و سأل صوت مبحوح :"وهل حان وقتك إذن يا سامر؟!"
لمع رمادي مقلتيه بدمع أبى أن ينهمر وابتسم بشيءٍ من الأسى وهو يجيب بيقين :"لا تستجعل لقائي أيّها الجندي، لكنّي سأكون بإنتظارك يوماً ما.."
تشنجّ فكّه بحركة سريعة وأومأ برأسه هامساً بحرارة :"إلى لقاء آخر يا صديقي.."
واستدار بحدة محكماً بذراعيه حولها وبدأ يهرول مبتعداً عنه إلى أن اختفى عن ناظريه خلف غمامة الأدخنة المتكاثفة في محيط مركز المدينة المهدّم، فانهزم أخيراً تحت وطأة ألمه وأفلت منه أنين مكتوم قبل أن ينهار جسده على الأرض وتنزلق يده اللزجة بإرتخاء من فوق جرحه النازف مطلقة العنان للمزيد من الدماء بالسيلان بكسل قاتل تروي به تربة الأرض الثملة ثمّ زفر نفساً متقطعاً وأخذ يحدّق بحسرة في زرقة السماء المستترة خلف حشود الأدخنة المتكاثفة بتسارع، فانحدرت دمعة مسحت كلّ ما صادفته في طريقها من دماء و تراب لتستقر أخيراً في أحضان خصلات شعره الذهبية الباهتة..كاد يسبل جفنيه الثقيلين بإستسلام مطلق بيد أن صرخة بعيدة اخترقت صمت وعيه الخائر فأجفلته عن سباته المنتظر حتى تلاشت عتمة بصره ليجد نفسه يحدّق في وجهها الملائكي الشاحب وهي تحدّثه بطلاسم هلعة عجز عن فهمها إلّا أنّه منحها ابتسامة هادئة هامساً برقة :" اهدئي يا حبيبتي.." هزّت رأسها برفض وهمّت لتحضن وجهه البارد بين راحتيها المرتجفتين وهي تحدقّ بوجهه الذابل من خلال كهرمان مقلتيها النازفتين تناجيه بلوعة :" انهض يا سامر..انهض وارمي بثقل ألمك ووهنك على جسدي..لا تقلق علي فأنا قوية...ولن أرزح..انهض بالله عليك ولا تذرني لحسرة حياة لن أطالها من دونك...انهض..انهض يا حبيبي"
رفع يده يتلمس بأنامله دموعها المنهمرة بحنان مجيباً :" أجل أنت قوية..ولم تبصر عيني أقوى منك... لذلك ستعيشين يا فتاة العسل..ستعيشين لتروي كل ما حصل..ستعيشين لتحكي كيف تمكنّ مغرور جلف من التسلل الى قلبك ذات يوم طمعاً بخلود لا يستحق...ستعيشين كي تتمدد جذورك داخل أرضنا هذه رغم كل من يريد اقتلاعها..ستعيشين كي لا أنتهي أنا يا نورا.." خرج اسمها مع بين شفتيه محمّلاً بأنفاسه اللاهثة المتقطعة، فسقط آخر درع لمقاومتها المتلاشية وجذبت جسده المرتخي بين ذراعيها توشوش لأذنه بعبرات معذّبة مكلومة مجدولة بحسرة وعود هالكة إلى أن شعرت بأنفاسه المتحشرجة تنحسرشيئاً فشيئاً حتى باتت تنهيدات يسيرة فاختنق نحيبها الخافت لتلفظ بهمسة مفجوعة شيعت بها نفسه الأخير :" أحبك يا حلمي الجميل.." وأسندت رأسها فوق صدره الهامد لتطلق العنان لدموعها التي أخذت تدفق بصمت هادرغافلة عن دوي الإنفجارات التي توالت تدّك العالم من حولها، عن جموع الناس الهارعة برعب طمعاً بأمان خادع خارج أسوار المدينة المغتصبة، وعن الطائرات المحلّقة فوق رأسها بحثاً عن أمل يكابد للبقاء..لم تدرك كم من الزمن قد قضى عليها وهي متشبثة بجسده الخاوي حين تسربل صوت وجل صغير بين سراديب سباتها قائلاً :" ألن تهربي؟؟ العدو قد بدأ بإقتحام المدينة وقتل كل من يقف في وجهه" لم تحرّك ساكناً فيها لوهلة حتى بدأ يفقد الأمل بأن تجيبه، فهمّ بالإقتراب منها بتردد إلّا أنّها شرعت برفع رأسها ببطء حتى أمسى وجه الصبي على مرمى من ناظريها، فطفقت تحدّق في ملامح وجهه المذعورة المستترة خلف جلدٍ يفوق سنين عمره القصيرة فقالت بهدوء:" ما الذي تنتظره إذن يا فتى؟" تأمّلها الصبي بحزن ما لبث أن تحوّل إلى إدراك لحظي فاندفع قائلاً بيقين:" هو أنت فعلاً!! تلك التي خدشت كرامتي بصدقة خرقاء وداوتها في اللحظة ذاتها بدمعة ندم خالص.. و كأنّ الله لم يكتب لي إلا أن ألتقي بك جاثية مقهورة" ناظرته بعينين جوفاوتين للحظة ريثما تعرّفت على تفاصيله المشبعة بكبرياء لم يعرف الخنوع يوماً فأجابته بجفاء متجاهلة ما قاله:" ارحل من هنا" هزّ رأسه بعناد معلناً بتحدٍ:" لن أتركك لهم.. تعالي معي!!" أدارت وجهها لتنظر إلى وجه حبيبها الشهيد وأزاحت بسبابتها خصلة ذهبية عتيقة وهمست بشرود:" لا تقلق لست وحدي" ارتجفت شفتا الصبي واحتقن وجهه بمزيج من الغضب والأسى فانفجر هاتفاً بها بجنون:" لكنّي وحدي!!! لقد قتل كلّ من تربطني به دماء أو عاطفة وانتهى كلّ شيء!! ليس لي ملاذ ولا رفيق!! لست أذكر رائحة والدي أو أحدٍ من اخوتي فقد طمسها زخم الحرائق والموت!!!" تصلّبت حركاتها واستدارت تحدّق به بصدمة، فدنا منها وجثى قبالتها ليستطرد بحرارة :" لكنّي لازلت أقاوم لأحيا ولم أرمي بنفسي إلى هلاك سيمنحني السلام الذي أنشد، لأنّني بذلك سأحقق ما يريدون منا فعله!!" احتشدت دموعها المنهزمة حول مقلتيها وردّت بنشيج خافت ألهب نيران قلبها المهشّم، فالتقط يدها بين كفّيه هامساً بإصرار :" جميعهم قضوا ثمناً لحريّتنا، فهل نخذلهم ونقوم بدفن القضية التي استأمنونا عليها تحت الثرى معنا؟ أم هل نواصل الكفاح حتى النفس الأخير؟؟" ثمّ أشار إلى سامر الممدّد بين ذراعيها و تابع بحزم:" هل كان سيرضى بأن تعلني استسلامك المطلق بهذا الشكل؟؟" انسابت دموعها وعادت تلصق جبينها الحار فوق جبينه البارد ، فرمقها الفتى بخيبة مريرة قبل أن ينهض زافراً بعنف ليمضي في طريقه، ولم يكد يخطو ببضع خطوات حتى استوقفه صوتها المبحوح وهي تهمس قائلة :" توقّف...فطريقنا واحد.." التفت بحدّة ليراها تلثم جبين الشهيد برقة فائقة قبل أن ترنو بشفتيها حيث أذنه لتهمس بعذوبة عاشقة:" إلى لقاء قريب..انتظرني يا حبيبي"

عن الحرية والعشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن