" الطفولة هي المملكة حيث لا يموت أحد"عبارة كان لها وقع جميل على قلوب قرائها لما تحمله من أمل في براءة عالم الأطفال الذي لا قدرة لأحد على هزمه ونزع بذور البهجة من أرضه الخصبة..
لكن أيّ عالم مهما بلغت قوته وصموده..وأيّ مملكة مهما بلغت متانة أسوارها ومناعتها...فستقف عاجزة كسيحة أمام ذلك الوحش القاتل...ذلك الكيان المرعب الذي إن ألقى ببراثنه فسيضحى الصمود منالا لا يدركه إلّا القليل...
إن كانت الطفولة هي المملكة حيث لا يموت أحد...فإنّ الحرب هي الحقيقة حيث لا ينجو أحد...
بأناملها الدامية المرتعشة ،أسبلت جفناه الرماديين الصغيرتين عن الحياة للمرة الأخيرة ثمّ مالت بوجهها الشاحب الذي جسّد في تقاسيمه خطوط ابتسامة جريحة لتهمس بحنان :"نم مرتاحا يا صغيري..فأنت بأمان ولم يعد قلبي يخاف عليك بعد الآن" أخذت تبتعد ببطء عن الجسد الصغير المسجى على السرير الأبيض الذي تناثرت على سطحه بقع الموت الحمراء، إلى أن انتزعت عيناها بقوة عنه وأزاحت الستار لتعود حواسها إلى جسدها دفعة واحدة..ليكون أوّل ما تستقبلته أذناها أصوات أنين الجرحى وآهات الثكالى..أخذت نفسا عميقا ومضت تمشي في تلك الأروقة الباردة بخطوات يائسة حتّى وصلت إلى السلالم الخلفية وتسلقتها بسرعة لتفتح مزلاج باب السطح وتدفعه بغضب دفين فتشعر بتلك الريح المحملة بلهيب النار والدخان وهي تلفح وجهها الملطخ بدموع القهر والعجز..أغمضت عيناها وأخذت نفسا عميقا علّها تنجح في وأد أجيج الغضب الذي كان يستعر في داخلها كالنار في الهشيم..
لم تدري كم الوقت قد مضى عليها وهي على هذه الحالة إلى أن شعرت بخطوات مترددة خلفها وصوت خفيض يشوبه القلق يخاطبها :"لقد بحثت عنك في كلّ مكان في المستشفى يا ريان..هل أنت بخير يا عزيزتي؟" أطلقت نفسا متهدجا لتجيبها بنبرة خاوية :"ما زال هناك نفس في صدري يا نورا..ماعسى للمرء أن يطلب أكثر من ذلك" اقتربت منها الشابة التي لم تبدو قد تخطت العشرين من عمرها..بضفيرتها الجانبية العسلية وعينيها اللتين تجمعّت بمقلتيهما سحب الخوف والحزن فأضحتا بلون الرماد الذي اكتسى عالمهما بغتة منذ ثلاث سنوات مضت..
"لقد وصلني الخبر..قد فقدنا الطفل" قالت نورا بصوتها المخنوق وهي تراقب وجه صديقة عمرها بوجل..لم تتغير تعابير وجهها الجامدة البتة ولولا تلك الرجفة البسيطة التي تسللت إلى ذقنها الدقيق لأقسمت نورا بأنّها كلماتها لم تصل إلى مسامعها..تنهّدت نورا بعمق وأكملت :" لم يكن بيدك أو بيد الدكتور طارق فعل أيّ شيء أكثر ممّا فعلتوه يا رايا..فالقناص لا يخطئ وأصابه في مقتل..أنا أعلم كيف تفكرين..وأعلم بأنّك تشعرين بالخيبة والعجز..لكن هل هي المرة الأولى ؟؟" التفتت نحوها فجأة لتهتف بحدّة والشرر يتطاير من عينيها اللوزيتين :"وهل من المفترض على بأن أعتاد على ذلك؟؟ هل من المفترض علي بأن أغلق أعين الأطفال والنساء والرجال والشيوخ بيدي واحدا تلو الآخر من دون أن يرفّ لي جفن لأنّها ببساطة ليست المرّة الأولى؟؟!!!" بادلتها نورا نظرتها الثائرة بأخرى يائسة وهي تجيبها بأسى :"وهل نملك خيارا آخر؟؟ إن لم نقم بذلك فسنفقد عقولنا قبل أرواحنا يا رايا!!" تأملتها رايا لوهلة بصمت أليم قبل أن تقول بحرقة :"لقد كان وحيد أمه..لم يكمل الرابعة بعد..تسلل إلى مبنى مهجور بالقرب من الطرف الشرقي بعد أن لمح كرة سلة برتقالية..كيف له أن يعرف بأنّه قد وقع في منتصف هدف بندقية القناص اللعينة؟؟ أتعلمين يا نورا بأنّي لم أستطع أن أواجه والدته بعد ما استسلم قلبه الصغير بين يدي؟؟ كنت أجبن من أن أنظر في عينيها لأقول لها بأنّ آخر أمل لها في حياتها..آخر ما تبقى لها من زوجها الشهيد قد فارق الحياة وتركها لقدرها المظلم!!" توقفت لتلتقط أنفاسها المتهدجة للحظات ثمّ أضافت بتعب :"لن نفقد عقولنا يا نورا..فتلك نعمة لن نحصل عليها بهذه السهولة..سنحتفظ بها لكي ندمغ داخلها حقيقة كلّ ما يحدث حولنا ونراه يوميا" دوى صوت انفجار كبير من بعيد على حين غرّة فشهقت نورا وهي تسرع نحو حافة السطح في محاولة لرؤية الدمار الناتج عنه، إلّا أنّه كان بعيدا بما يكفي لأن لا تشهد عيناها سوى الأدخنة الكثيفة المتصاعدة التي اخترقت عباب سماء المغيب لتتغلغل بين سحبها و تزيدها قتامة وكآبة وقالت بجزع :"إنّ المعركة تزداد ضراوة وقربا يوما بعد يوم..لا أدري إلى متى ستحافظ المدينة على صمودها قبل أن تسقط في أيديهم!!" جاءها صوت رايا من جانبها وهي تتأمل الأفق أمامها بشرود :"ستكون ليلة دامية يا نورا" حدّقت بها نورا بدهشة وسألتها بخفوت :"ما الذي جعلك تقولين هذا يا رايا؟؟" رفعت رايا سبابتها مشيرة إلى القمر المكتمل الوردي والذي بدأت معالمه بالتوضح مع غروب الشمس التدريجي مجيبة بسوداوية:" انظري إلى لونه وستعرفين"
أنت تقرأ
عن الحرية والعشق
عاطفيةمنذ أن فتحنا عيوننا على الحياة كان أول ما وقعنا في حبه... كان الحضن الذي آوانا وآوى آبائنا وآجدادنا من قبلهم... دماؤنا ترخص حفاظا على سلامته ..وأرواحنا تطوق لنيل حريته... هو الوطن...وما أغلى من الوطن... لكن عندما يطرق عشق من نوع آخر باب القلب..فسيغد...