الفصل السابع

1.6K 99 14
                                    

الفصل السابع

قسّت قسمات وجهه وأخذ يتنفس بخشونة، ضرب سطح المكتب بعنف وهو يصرخ بثورة
- انا وثقت بيكِ!
جفلت اثر فعلته، ازدردت ريقها وبررت بتلعثم
- هي اللي استفزتني.. طلعـ..
اوقفها، لا يريد سماع اي تبرير سخيف منها، اخفض رأسه قائلاً بصرامة رافضاً اي نقاش
- انتِ مطرودة يا شهد
اتسعت مقلتي "شهد" بصدمة بعد طرده لها، اهتزت مقلتيها بتوتر وهي تُخفضها بريبة.. ماذا تفعل؟.. كيف تتصرف؟، تسارعت انفاسها وتسابقت حروفها مُصِرة على التوضيح
- يونس.. انا اندفعت، مكنش قصدي اني اقول...
اخفض رأسه وامتزج صوت تنفسه الخشن مع نبرته الجهورية
- مش عايز اسمع زفت حاجة منك، انتِ واحدة.. واحدة..
عاجز عن وصفها، بل عاجز عن إخراج الوصف الذي مر بعقله، هل سيوصف به إمرأة! ليس من شيمه.
ضرب بقبضته على الطاولة وهو يشعر بالتخاذل، من نفسه لانه تحدث بأمر حساس كهذا مع "شهد" ام من الاخيرة التي استخدمته بطريقة شريرة!!.
- ازاي فكرت انِك مُسالمة لدرجة انك تسمعي نقطة ضعف اروى اللي مستحيل يكون في ود مابينكم، ازاي مفكرتش انك هتستخدمي دة ضدها بالطريقة القذرة دي؟
يوبخها ويعاتبها ام يفعل ذلك لنفسه؟، يجب ان يجلد ذاته اولاً قبل ان يوجه لها اي عتـ...
استوقفته ذاكرته لشيء تغافل عنه سهواً.. ما سردته "شهد"، هناك أشياء لم يقُلها.. هل قال انها عال عليه؟ انها حمل ثقيل؟.
اشتعل الغضب بعينيه مُنذراً لإنفجار كبير قادم، جز على اسنانه وهو يسألها بخفوت مُرعب
- هو انا قولتلك انها عال عليا؟ انها حمل تقيل؟ اني بشفق عليها؟
اجابت دون تفكير..
- دة اللي حسيته من كلامـ..
ضرب سطح المكتب بغضب اكبر وهو يستقيم، صرخ بصوت جهوري وصل لقمة الغضب؛ انتفض جسدها على اثره
- متحسيش، متحسيش وتتكلمي من مزاجك وانتِ متعرفنيش
تعلقت حدقتيها المُرتجفة به والتي لمعت الدموع بها، همست بجزع
- انا اعرفك..
لواها ظهره مُحاولاً للمرة الاخيرة السيطرة على نفسه، حذرها
- اخرجي يا شهد، اخرجي وإلا انا مش مسؤول عن تصرفاتي بعد كدة
تحركت "شهد" في منتصف جملته للباب، وكانت قد غادرت الغرفة مع نهاية حروفه، توقفت للحظة مكانها واضعة كفها على قلبها بألم.. ما الذي حدث الان؟ هل طُردت فعلاً.
رفعت بصرها فقابلت نظرات زُملائها من خلف مكاتبهم.. نظرات مُختلفة بين الشفقة والشماتة وعدم الاكتراث، اسرعت لتلملم أشياءها لتغادر ركضاً، ودموعها بللت وجنتيها.
***
اغلقت "اروى" باب شقتها بقوة لتتوالى شهقات بكاءها المؤلمة، لقد تمالكت نفسها بصعوبة.. فالدموع كانت تسيل من جفنيها دون إرادة منها ونظرات الاستفهام كانت تحاوطها وكم هذا ازعجها، لذا انتظرت بفارغ الصبر الوصول لشقتها.. لغرفتها.. جوفها التي تستطيع البكاء فيه براحة، فما بداخلها يقتلها.. فقد كانت كلمات "شهد" كالصفعة التي قلبت كيانها وكسرت روحها.
انهارت على الارض تقبض على صدرها بقوة، انها تتألم.. فقد طعن ثقتها.. انه تصرف لم تكن لتتوقعه منه، ان يخبر عدوتها بقصتها المثيرة للشفقة، انه يعلم جيداً كرهها لذكر ذلك.. كيف فعلها؟ كيف؟؟؛ وقبل طعنه لثقتها كان قد شق قلبها بحقيقة مشاعره ناحيتها.. انها عال عليه؟، انه يشفق عليها!.
استعرت النيران بداخلها لتدفعها للنهوض وتحطيم كل شيء حولها، وسقطت اثر عنف حركتها، اخذت تلهث وهي تحدق امامها.. شريط حياتها يُعرض امام عينيها كعرض سينمائي بغيض؛ بدايةً من تشاجر والديها المستمر..
فينتهي من هنا وتدلف والدتها لغرفتها وتشتكي لإحدى صديقاتها بينما والدها يغادر، فيتركونها دون طعام حتى.. كأنها غير موجودة، وحين تلاحظ والدتها وجودها تبدأ في توبيخها دون سبب.. لتلعن يوم ولادتها فقد تعكرت حياتها منذ مجيء طفلتها المشؤومة.
كانت الأمور تزداد سوءاً مع مرور كل عام، حين بلغت التاسعة من عمرها كانت قد انتقلت عائلة "يونس" للشقة المقابلة لهم.
في نفس العام، قررت والدتها المغادرة مع رفع قضية خُلع على والدها، بدأ والدها في تعنيفها.. يُخرِج غضبه عليها، ينتقم من والدتها بها وكأنها تكترث لها مثلاً!، كان هو أيضاً يرى انها حمل ثقيل.. انها سبب تعاستهما!.
كانت حياتها مُظلمة.. لا تستحقها طفلة ولا تحتملها، كم القسوة التي حاوطتها شوهتها.. شوهت روحها، لم تعد كالبقية.. تارة ضعيفة وتارة اخرى قوية عدوانية قاسية!، انها ليست شخص واحد.. بداخلها اثنان لكل منهم رأي ولكل منهم طبع، فالأول يريد الانتقام من العالم ومن والديها.. يريد التمرد على الجميع، والثاني يريد ان يعيش حياة سعيدة دافئة مُسالمة ولو كانت غير حقيقية.. حياة مؤقتة تُريح هذا الشخص.
تبعثرت رؤيتها لحياتها مع طرقات مُتتالية على الباب، بعد لحظة دوى صوت "يونس" مُطالباً اياها برجاء
- اروى.. اروى افتحي، اروى خلينا نتكلم
ظلت مُحدقة بـ الباب دون ان تتحرك، تقضم أظافرها دون وعي..
تقدمت خطوة وتراجعتها بتردد، إذ واجهته الان قد تخسره.. غضبها قد يجعله ينفر منها، في نفس الوقت.. إذ لم تواجهه لن تهدأ، إذ لم تُعاتبه قد تنفجر.. قد يحدث لها شيء من كثرة الأفكار التي تدور داخل رأسها بعشوائية، مواقفه.. حياتها التي لا تفهمها.. حبها وتمسكها به.. كل شيء، انه لأمر مُرهق.. بل قاتل.
تقدمت بعزم وفتحت الباب بقوة، تطلعت اليه بعينين مُنتفختين.. كذلك هو، وقد تألم لرؤية ذلك، أتاحت له الطريق فدلف وهو ينقل نظراته حول الفوضى التي احدثتها بالمكان، لم يُعلق.
توقفت أمامه.. مُنتظرة، ضم كفيه بتوتر.. يدور حول نفسه محاولاً استجماع كلماته الاولى الذي سينطق بها، كيف سيبرر فعلته؟ فلا عُذر لحماقته.
- عارف، مكنش ينفع اني اقولها عن حياتك.. اني أشاركها حاجة زي دي..
كانت بدايته ضعيفة، استنكرت بخشونة
- عارف!!، مدام عارف لية قولت لها؟؟ وانت عارف اننا بنكره بعض!
قاطعها بإستياء ودون تفكير
- وثقت بيها..
صرخت بجنون ثم خمدت نبرتها تدريجياً وهي تهدر بقهر
- وانا وثقت بيك، طول عمري كنت واثقة بيك ومتمسكة بيك.. كنت بقول انك الوحيد اللي مش هتأذيني رغم كل تصرفاتك.. انك هتحميني من الناس، اني مش هحتاج غيرك في الدنيا دي واني عايزاك انت وبس وانا مُكتفية، بس...
مسحت دموعها التي خانتها بعنف، اندفعت تنغزه بأصبعها على كتفه وهي تصرخ بغضب غلفه التوبيخ.. توبخ نفسها وتجلدها
- بس طلعت زيهم، كنت بتأذيني دايماً.. بس لهوسي بيك مكنتش شايفة دة، كنت عايز تبعدني وانا مُهزأة مش عايزة ابعد، انا استاهل.. حقك تقول اني عال عليك.. حقك تقول انك بتشفق على واحدة مريضة زيي.. حقك تقول اني حمل تقيل زي ما الكل قال عليا، اهلي.. واهلنا.. وانت
امسك برسغها مُدافعاً عن نفسه
- مقولتلهاش كدة، مستحيل اقولها انك عبء عليا.. عمري ما فكرت بالطريقة دي ولا هفكر
نظرت في منتصف حدقتيه هاتفة برفض
- كداب
عاتبها..
- هتصدقيها وتكدبيني!
- زي ما كنت بتوقف معاها وتسبني
إجاباتها جاهزة، ترك رسغها ووضع كفيه على كتفيها مائلاً برأسه عليها.
- والله العظيم اني مقولتلهاش كدة، وحتى اني واجهتها.. واتخانقت معاها لانها بتقول كلام مطلعش مني ولا هيطلع، صدقيني.. انا بقول الحقيقة
طلب منها بعجز ورجاء، فتبادلا النظرات.. حدقتيه صادقة تدفعها لتصديقه لكن..
- انت اديتها السكينة اللي دبحتني بيها
قالتها بنبرة خافتة مُعذبة، فلو كان صادق من ناحية.. فهو مذنب من الناحية الاخرى.
انتقل ألمها إليه.. اخفض رأسه وقد لمعت حدقتيه بالدموع.. مسحها سريعاً وعاد لينظر لها مُتسائلاً بصدق
- اعمل اية عشان تسامحيني؟ هعمل اي حاجة
ابتسمت بسخرية لاذعة وهي تُعلق
- دلوقتي هتعمل اي حاجة عشان أسامحك؟، اما في الاول كنت بتعمل كل حاجة عشان تبعدني؟
اخفض يديه لجانبه وابتعد خطوة دون أن يرد، فماذا سيوضح لها الان؟، مررت أناملها بين خصلات شعرها بحدة قبل ان تتنهد بثقل، قالت ببطء
- اعمل كل اللي تقدر عليه، بس مش هسامحك
اخفض كتفيه بإحباط، لكنه يستحق.. يعترف بذلك، فكر.. يجب ألا يتمسك بها الان.. ليس له الحق في ذلك، فكل شيء خارج عن إرادته منذ البداية.
تخطاها تاركاً اياها خلفه، فتح باب الشقة وتوقف..
- انا طردت شهد
لا يعلم لماذا اخبرها بذلك، لكنه فعل.
ظلت حدقتيها مُعلقة بالباب الذي اغلقه للتو بعد مغادرته؛ رمشت عدة مرات غير مصدقة.. شعرت بسعادة تُبدد غضبها ببطء، وابتسامة شقت شفتيها بنعومة.
في الناحية الاخرى..
اغلق باب شقته واتجه للطاولة.. ارتكز عليها بكفيه وهو يتنفس بعصبية، هو من بدأ كل شيء.. هو من آل الأمور لهذا التعقيد، ألم يكن سفره وابتعاده افضل؟ لماذا اتبع قلبه واتخذ قرار بقاءه قبل تسع سنوات؟ فلم تكن النهاية مُرضية بكلتا الحالتين.
ثارت المشاعر بداخله وزاد عتابه لنفسه.. فأزاح المزهرية التي تتوسط الطاولة ليتهشم زجاجها على الارض بعنف، لحق فعلته رنين هاتفه وكانت والدته.. فأجاب بقوة
- نعم!
اتى قول والدته المليء باللهفة
- طمني، وصلت لـ اروى؟ عرفت لية رجعت بيتها!
- مفيش سبب، وسيبيها براحتها يا ماما
صوته المُتضايق اثار شكوكها..
- مال صوتك؟ حصل حاجة؟
- لا
- متأكد؟
تنهد وقال بهدوء
- متقلقيش، هقفل دلوقتي عشان لسة داخل البيت
***
في منزل "شهد"

نوفيلا "بين شِباكها"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن